الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ . وفِي نَصْبِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وهو ظاهِرٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَ بِهِمْ هَذا لِيَقَعَ جَزاءً ولِيُجْزَوْنَ بِأعْمالِهِمْ، وعَلى هَذا فِيهِ لَطِيفَةٌ: وهي أنْ نَقُولَ: المَعْنى أنَّ هَذا كُلَّهُ جَزاءُ عَمَلِكم وأمّا الزِّيادَةُ فَلا يُدْرِكُها أحَدٌ مِنكم، وثانِيهِما: أنَّهُ مَصْدَرٌ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ عَلى أنَّ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهو جَزاءٌ فَكَأنَّهُ قالَ: تُجْزَوْنَ جَزاءً، وقَوْلُهُ: ﴿بِما كانُوا﴾ قَدْ ذَكَرْنا فائِدَتَهُ في سُورَةِ الطُّورِ وهي أنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ: ﴿فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفي حَقِّ الكافِرِينَ: ﴿إنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: ٧] إشارَةً إلى أنَّ العَذابَ عَيْنُ جَزاءِ ما فَعَلُوا فَلا زِيادَةَ عَلَيْهِمْ، والثَّوابَ ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فَلا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَيْنَ عَمَلِهِمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ ما يُعْطِيهِمْ، والكافِرُ يُعْطِيهِ عَيْنَ ما فَعَلَ، فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إلّا مِثْلَها﴾ [الأنعام: ١٦٠] وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أُصُولِيَّةٌ ذَكَرَها الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ، ونَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَها (p-١٣٧)فالأُولى: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنْ يُقالَ: الثَّوابُ عَلى اللَّهِ واجِبٌ؛ لِأنَّ الجَزاءَ لا يَجُوزُ المُطالَبَةُ بِهِ، وقَدْ أجابَ عَنْهُ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ، وأظُنُّ بِهِ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ما أقُولُهُ فِيهِ وهو ما ذَكَرُوهُ. ولَوْ صَحَّ لَما كانَ في الوَعْدِ بِهَذِهِ الأشْياءِ فائِدَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ العَقْلَ إذا حَكَمَ بِأنَّ تَرْكَ الجَزاءِ قَبِيحٌ وعُلِمَ بِالعَقْلِ أنَّ القَبِيحَ مِنَ اللَّهِ لا يُوجَدُ، عُلِمَ أنَّ اللَّهَ يُعْطِي هَذِهِ الأشْياءَ لِأنَّها أجْزِيَةٌ، وإيصالُ الجَزاءِ واجِبٌ، وأمّا إذا قُلْنا بِمَذْهَبِنا تَكُونُ الآياتُ مُفِيدَةً مُبَشِّرَةً؛ لِأنَّ البِشارَةَ لا تَكُونُ إلّا بِالخَيْرِ عَنْ أمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، لا يُقالُ: الجَزاءُ كانَ واجِبًا عَلى اللَّهِ وأمّا الخَبَرُ بِهَذِهِ الأشْياءِ فَلا يَذْكُرُها مُبَشِّرًا، لِأنّا نَقُولُ: إذا وجَبَ نَفْسُ الجَزاءِ فَما أعْطانا اللَّهُ تَعالى مِنَ النِّعَمِ في الدُّنْيا جَزاءً فَثَوابُ الآخِرَةِ لا يَكُونُ إلّا تَفَضُّلًا مِنهُ، غايَةُ ما في البابِ أنَّهُ تَعالى كَمَّلَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: هَذا جَزاؤُكم، أيْ جَعَلْتُهُ لَكم جَزاءً، ولَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا ولا واجِبًا، كَما أنَّ الكَرِيمَ إذا أعْطى مَن جاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَظُنُّ أنَّهُ يُودِعُهُ إيداعًا أوْ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ إلى مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذا لَكَ فَيَفْرَحُ، ثُمَّ إنَّهُ يَقُولُ: هَذا إنْعامٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ عَلَيَّ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَيَقُولُ لَهُ هَذا جَزاءُ ما أتَيْتَ بِهِ، ولا أطْلُبُ مِنكَ عَلى هَذا خِدْمَةً، فَإنْ أتَيْتَ بِخِدْمَةٍ فَلَها ثَوابٌ جَدِيدٌ، فَيَكُونُ هَذا غايَةَ الفَضْلِ، وعِنْدَ هَذا نَقُولُ: هَذا كُلُّهُ إذا كانَ الآتِي غَيْرَ العَبْدِ، وأمّا إذا فَعَلَ العَبْدُ ما أوْجَبَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ لا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أجْرًا، ولا سِيَّما إذا أتى بِما أمَرَ بِهِ عَلى نَوْعِ اخْتِلالٍ، فَما ظَنُّكَ بِحالِنا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مَعَ أنَّ السَّيِّدَ لا يَمْلِكُ مِن عَبْدِهِ إلّا البِنْيَةَ، واللَّهُ تَعالى يَمْلِكُ مِنّا أنْفُسَنا وأجْسامَنا، ثُمَّ إنَّكَ إذا تَفَكَّرْتَ في مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ تَجِدُهم قَدْ حَقَّقُوا مَعْنى العُبُودِيَّةِ غايَةَ التَّحْقِيقِ، واعْتَرَفُوا أنَّهم عَبِيدٌ لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ولا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلى السَّيِّدِ دَيْنٌ، والمُعْتَزِلَةُ لَمْ يُحَقِّقُوا العُبُودِيَّةَ، وجَعَلُوا بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ مُعامَلَةً تُوجِبُ مُطالَبَةً، ونَرْجُو أنْ يُحَقِّقَ اللَّهُ تَعالى مَعَنا المالِكِيَّةَ غايَةَ التَّحْقِيقِ، ويَدْفَعَ حاجاتِنا الأصْلِيَّةَ ويُطَهِّرَ أعْمالَنا، كَما أنَّ السَّيِّدَ يَدْفَعُ حاجَةَ عَبْدِهِ بِإطْعامِهِ وكُسْوَتِهِ، ويُطَهِّرُ صَوْمَهُ بِزَكاةِ فِطْرِهِ، وإذا جَنى جِنايَةً لَمْ يُمَكِّنِ المَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنهُ، بَلْ يَخْتارُ فِداءَهُ ويُخَلِّصُ رَقَبَتَهُ مِنَ الجِنايَةِ، كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ حاجاتِنا في الآخِرَةِ، وأهَمُّ الحاجاتِ أنْ يَرْحَمَنا ويَعْفُوَ عَنّا، ويَتَغَمَّدَنا بِالمَغْفِرَةِ والرِّضْوانِ، حَيْثُ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ تَمَلُّكِ رِقابِنا بِاخْتِيارِ الفِداءِ عَنّا، وأرْجُو أنْ لا يَفْعَلَ مَعَ إخْوانِنا المُعْتَزِلَةِ ما يَفْعَلُهُ المُتَعامِلانِ في المُحاسَبَةِ بِالنَّقِيرِ والقِطْمِيرِ، والمُطالَبَةِ بِما يَفْضُلُ لِأحَدِهِما مِنَ القَلِيلِ والكَثِيرِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالُوا: لَوْ كانَ في الآخِرَةِ رُؤْيَةٌ لَكانَتْ جَزاءً، وقَدْ حَصَرَ اللَّهُ الجَزاءَ فِيما ذَكَرَ والجَوابُ عَنْهُ: أنْ نَقُولَ: لِمَ قُلْتُمْ: إنَّها لَوْ كانَتْ تَكُونُ جَزاءً، بَلْ تَكُونُ فَضْلًا مِنهُ فَوْقَ الجَزاءِ، وهَبْ أنَّها تَكُونُ جَزاءً، ولَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ ذِكْرَ الجَزاءِ حَصْرٌ وإنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ مَن قالَ لِغَيْرِهِ: أعْطَيْتُكَ كَذا جَزاءً عَلى عَمَلٍ لا يُنافِي قَوْلَهُ: وأعْطَيْتُكَ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَهُ أيْضًا جَزاءً عَلَيْهِ، وهَبْ أنَّهُ حَصْرٌ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ القُرْبَةَ لا تَدُلُّ عَلى الرُّؤْيَةِ، فَإنْ قِيلَ: قالَ في حَقِّ المَلائِكَةِ: ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾، ولَمْ يَلْزَمْ مِن قُرْبِهِمُ الرُّؤْيَةُ، نَقُولُ: أجَبْنا أنَّ قُرْبَهم مِثْلُ قُرْبِ مَن يَكُونُ عِنْدَ المَلِكِ لِقَضاءِ الأشْغالِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ والوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالبابِ تَخْرُجُ أوامِرُهُ عَلَيْهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] وقُرْبُ المُؤْمِنِ قُرْبُ المُنَعَّمِ مِنَ المَلِكِ، وهو الَّذِي لا يَكُونُ إلّا لِلْمُكالَمَةِ والمُجالَسَةِ في الدُّنْيا، لَكِنَّ المُقَرَّبَ المُكَلَّفَ لَيْسَ كُلَّما يَرُوحُ إلى بابِ المَلِكِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وأمّا المُنَعَّمُ لا يَذْهَبُ إلَيْهِ إلّا ويَدْخُلُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ الفَرْقُ. والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى الرُّؤْيَةِ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى في سُورَةِ المُطَفِّفِينَ ذَكَرَ الأبْرارَ والفُجّارَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّ الفُجّارِ: ﴿إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ . (p-١٣٨)[المطففين: ١٥]، وقالَ في الأبْرارِ: ﴿يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: ٢٨] ولَمْ يَذْكُرْ في مُقابَلَةِ ”المَحْجُوبُونَ“ ما يَدُلُّ عَلى مُخالَفَةِ حالِ الأبْرارِ حالَ الفُجّارِ في الحِجابِ والقُرْبِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: ١٨] وإنْ كانَ دَلِيلًا عَلى القُرْبِ وعُلُوِّ المَنزِلَةِ لَكِنَّهُ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: ٧] فَقَوْلُهُ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١] يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ القُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِجُلَساءِ المَلِكِ عِنْدَ المَلِكِ، وقَوْلُهُ في حَقِّ المَلائِكَةِ في تِلْكَ السُّورَةِ: ﴿يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: ٢١] يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ القُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْكِتابِ والحِسابِ عِنْدَ المَلِكِ لِما أنَّهُ في الدُّنْيا يَحْسُدُ أحَدُهُما الآخَرَ، فَإنَّ الكاتِبَ إنْ كانَ قُرْبُهُ مِنَ المَلِكِ بِسَبَبِ الخِدْمَةِ لا يَخْتارُ قُرْبَ الكِتابِ والحِسابِ، بَلْ قُرْبَ النَّدِيمِ، ثُمَّ إنَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ القُرْبِ وبَيْنَ القُرْبِ الَّذِي بِسَبَبِ الكِتابَةِ ما يَحْمِلُهُ عَلى أنْ يَخْتارَ غَيْرَهُ، وفي سُورَةِ المُطَفِّفِينَ قَوْلُهُ: ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُقَرَّبِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنِ النَّظَرِ إلى اللَّهِ تَعالى، ويَنْبَغِي أنْ لا يُنْظَرَ إلى اللَّهِ قَوْلُنا: جُلَساءُ المَلِكِ في ظاهِرِ النَّظَرِ الَّذِي يَقْتَضِي في نَظَرِ القَوْمِ الجِهَةَ وإلى القُرْبِ الَّذِي يَفْهَمُ العامِّيُّ مِنهُ المَكانَ إلّا بِنَظَرِ العُلَماءِ الأخْبارِ الحُكَماءِ الأخْيارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالُوا: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَمَلَ عَمَلُهم وحاصِلٌ بِفِعْلِهِمْ، نَقُولُ: لا نِزاعَ في أنَّ العَمَلَ في الحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وُضِعَ لِلْفِعْلِ والمَجْنُونَ لِلَّذِي لا عَقْلَ لَهُ والعاقِلَ لِلَّذِي بَلَغَ الكَمالَ فِيهِ، وذَلِكَ لَيْسَ إلّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِما يُدْرَكُ بِالحِسِّ، وكُلُّ أحَدٍ يَرى الحَرَكَةَ مِنَ الجِسْمَيْنِ فَيَقُولُ: تَحَرَّكَ وسَكَنَ عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ، كَما يَقُولُ: تَدُورُ الرَّحا ويَصْعَدُ الحَجَرُ، وإنَّما الكَلامُ في القُدْرَةِ الَّتِي بِها الفِعْلُ في المَحَلِّ المَرْئِيِّ، وذَلِكَ خارِجٌ عَنْ وضْعِ اللُّغَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب