الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ ﴿ولَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ما وجْهُ الجَرِّ، والفاكِهَةُ لا يَطُوفُ بِها الوِلْدانُ والعَطْفُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الفاكِهَةَ واللَّحْمَ في الدُّنْيا يُطْلَبانِ في حالَتَيْنِ:
أحَدُهُما: حالَةُ الشُّرْبِ والأُخْرى حالُ عَدَمِهِ، فالفاكِهَةُ مِن رُءُوسِ الأشْجارِ تُؤْخَذُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ٢٣] وقالَ: ﴿وجَنى الجَنَّتَيْنِ دانٍ﴾ [الرحمن: ٥٤] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا حالَةُ الشَّرابِ فَجازَ أنْ يَطُوفَ بِها الوِلْدانُ، فَيُناوِلُوهُمُ الفَواكِهَ الغَرِيبَةَ واللُّحُومَ العَجِيبَةَ لا لِلْأكْلِ بَلْ لِلْإكْرامِ، كَما يَضَعُ المُكْرِمُ لِلضَّيْفِ أنْواعَ الفَواكِهِ بِيَدِهِ عِنْدَهُ وإنْ (p-١٣٤)كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُشارِكًا لِلْآخَرِ في القُرْبِ مِنها.
والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ عَطْفًا في المَعْنى عَلى جَنّاتِ النَّعِيمِ، أيْ هُمُ المُقَرَّبُونَ في جَنّاتٍ وفاكِهَةٍ، ولَحْمٍ وحُورٍ، أيْ في هَذِهِ النِّعَمِ يَتَقَلَّبُونَ، والمَشْهُورُ أنَّهُ عَطْفٌ في اللَّفْظِ لِلْمُجاوَرَةِ لا في المَعْنى، وكَيْفَ لا يَجُوزُ هَذا، وقَدْ جازَ تَقَلَّدَ سَيْفًا ورُمْحًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَلْ في تَخْصِيصِ التَّخْيِيرِ بِالفاكِهَةِ والِاشْتِهاءِ بِاللَّحْمِ بَلاغَةٌ ؟ قُلْتُ: وكَيْفَ لا وفي كُلِّ حَرْفٍ مِن حُرُوفِ القُرْآنِ بَلاغَةٌ وفَصاحَةٌ، وإنْ كانَ لا يُحِيطُ بِها ذِهْنِيَ الكَلِيلُ، ولا يَصِلُ إلَيْها عِلْمِيَ القَلِيلُ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي فِيهِ أنَّ اللَّحْمَ والفاكِهَةَ إذا حَضَرا عِنْدَ الجائِعِ تَمِيلُ نَفْسُهُ إلى اللَّحْمِ، وإذا حَضَرا عِنْدَ الشَّبْعانِ تَمِيلُ إلى الفاكِهَةِ، والجائِعُ مُشْتَهٍ والشَّبْعانُ غَيْرُ مُشْتَهٍ، وإنَّما هو مُخْتارٌ إنْ أرادَ أكَلَ، وإنْ لَمْ يُرِدْ لا يَأْكُلُ، ولا يُقالُ في الجائِعِ إنْ أرادَ أكَلَ؛ لِأنَّ ”إنْ“ لا تَدْخُلُ إلّا عَلى المَشْكُوكِ، إذا عُلِمَ هَذا ثَبَتَ أنَّ في الدُّنْيا اللَّحْمَ عِنْدَ المُشْتَهِي مُخْتارٌ، والفاكِهَةَ عِنْدَ غَيْرِ المُشْتَهِي مُخْتارَةٌ، وحِكايَةُ الجَنَّةِ عَلى ما يُفْهَمُ في الدُّنْيا فَخُصَّ اللَّحْمُ بِالِاشْتِهاءِ والفاكِهَةُ بِالِاخْتِيارِ، والتَّحْقِيقُ فِيهِ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ أنَّ الِاخْتِيارَ هو أخْذُ الخَيْرِ مِن أمْرَيْنِ، والأمْرانِ اللَّذانِ يَقَعُ فِيهِما الِاخْتِيارُ في الظّاهِرِ لا يَكُونُ لِلْمُخْتارِ أوَّلًا مَيْلٌ إلى أحَدِهِما، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ ويَتَرَوّى، ويَأْخُذُ ما يُغَلِّبُهُ نَظَرُهُ عَلى الآخَرِ فالتَّفَكُّهُ هو ما يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الحاجَةِ، وأمّا إنِ اشْتَهى واحِدٌ فاكِهَةً بِعَيْنِها فاسْتَحْضَرَها وأكَلَها فَهو لَيْسَ بِمُتَفَكِّهٍ، وإنَّما هو دافِعُ حاجَةٍ، وأمّا فَواكِهُ الجَنَّةِ تَكُونُ أوَّلًا عِنْدَ أصْحابِ الجَنَّةِ مِن غَيْرِ سَبْقِ مَيْلٍ مِنهم إلَيْها، ثُمَّ يَتَفَكَّهُونَ بِها عَلى حَسَبِ اخْتِيارِهِمْ، وأمّا اللَّحْمُ فَتَمِيلُ أنْفُسُهم إلَيْهِ أدْنى مَيْلٍ فَيَحْضُرُ عِنْدَهم، ومَيْلُ النَّفْسِ إلى المَأْكُولِ شَهْوَةٌ، ويَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿وجَنى الجَنَّتَيْنِ دانٍ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ فَهو دَلِيلٌ عَلى أنَّها دائِمَةُ الحُضُورِ، وأمّا اللَّحْمُ فالمَرْوِيُّ أنَّ الطّائِرَ يَطِيرُ فَتَمِيلُ نَفْسُ المُؤْمِنِ إلى لَحْمِهِ فَيَنْزِلُ مَشْوِيًّا ومَقْلِيًّا عَلى حَسَبِ ما يَشْتَهِيهِ، فالحاصِلُ أنَّ الفاكِهَةَ تَحْضُرُ عِنْدَهم فَيَتَخَيَّرُ المُؤْمِنُ بَعْدَ الحُضُورِ واللَّحْمُ يَطْلُبُهُ المُؤْمِنُ وتَمِيلُ نَفْسُهُ إلَيْهِ أدْنى مَيْلٍ، وذَلِكَ لِأنَّ الفاكِهَةَ تَلَذُّ الأعْيُنُ بِحُضُورِها، واللَّحْمُ لا تَلَذُّ الأعْيُنُ بِحُضُورِهِ، ثُمَّ إنَّ في اللَّفْظِ لَطِيفَةً، وهي أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ ولَمْ يَقُلْ: مِمّا يَخْتارُونَ مَعَ قُرْبِ أحَدِهِما إلى الآخَرِ في المَعْنى، وهو أنَّ التَّخَيُّرَ مِن بابِ التَّكَلُّفِ فَكَأنَّهم يَأْخُذُونَ ما يَكُونُ في نِهايَةِ الكَمالِ، وهَذا لا يُوجَدُ إلّا مِمَّنْ لا يَكُونُ لَهُ حاجَةٌ ولا اضْطِرارٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما الحِكْمَةُ في تَقْدِيمِ الفاكِهَةِ عَلى اللَّحْمِ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: العادَةُ في الدُّنْيا التَّقْدِيمُ لِلْفَواكِهِ في الأكْلِ والجَنَّةُ وُضِعَتْ بِما عُلِمَ في الدُّنْيا مِنَ الأوْصافِ وعَلى ما عُلِمَ فِيها، ولا سِيَّما عادَةُ أهْلِ الشُّرْبِ، وكَأنَّ المَقْصُودَ بَيانُ حالِ شُرْبِ أهْلِ الجَنَّةِ.
وثانِيها: الحِكْمَةُ في الدُّنْيا تَقْتَضِي أكْلَ الفاكِهَةِ أوَّلًا؛ لِأنَّها ألْطَفُ وأسْرَعُ انْحِدارًا وأقَلُّ حاجَةً إلى المُكْثِ الطَّوِيلِ في المَعِدَةِ لِلْهَضْمِ، ولِأنَّ الفاكِهَةَ تُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ لِلْأكْلِ واللَّحْمُ يَدْفَعُها.
وثالِثُها: يَخْرُجُ مِمّا ذَكَرْنا جَوابًا خَلا عَنْ لَفْظِ التَّخْيِيرِ والِاشْتِهاءِ، هو أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الفاكِهَةَ دائِمَةُ الحُضُورِ والوُجُودِ، واللَّحْمَ يُشْتَهى ويَحْضُرُ عِنْدَ الِاشْتِهاءِ دَلَّ هَذا عَلى عَدَمِ الجُوعِ؛ لِأنَّ الجائِعَ حاجَتُهُ إلى اللَّحْمِ أكْثَرُ مِنَ اخْتِيارِهِ اللَّحْمَ فَقالَ: ﴿وفاكِهَةٍ﴾ لِأنَّ الحالَ في الجَنَّةِ يُشْبِهُ حالَ الشَّبْعانِ في الدُّنْيا فَيَمِيلُ إلى الفاكِهَةِ أكْثَرَ فَقَدَّمَها، وهَذا الوَجْهُ أصَحُّ؛ لِأنَّ مِنَ الفَواكِهِ ما لا يُؤْكَلُ إلّا بَعْدَ الطَّعامِ، فَلا يَصِحُّ الأوَّلُ جَوابًا في الكُلِّ.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَفَـٰكِهَةࣲ مِّمَّا یَتَخَیَّرُونَ","وَلَحۡمِ طَیۡرࣲ مِّمَّا یَشۡتَهُونَ"],"ayah":"وَفَـٰكِهَةࣲ مِّمَّا یَتَخَیَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











