الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ حَتّى قِيلَ: إنَّ في القُرْآنِ ثَلاثَ آياتٍ في كُلِّ آيَةٍ مِنها مِائَةُ قَوْلٍ. الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢]، الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾ [الإسراء: ٨]، الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ﴾ ولْنَذْكُرِ الأشْهَرَ مِنها والأقْرَبَ. أمّا الأشْهَرُ فَوُجُوهٌ: أحَدُها: هَلْ جَزاءُ التَّوْحِيدِ غَيْرُ الجَنَّةِ، أيْ جَزاءُ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ إدْخالُ الجَنَّةِ. ثانِيها: هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ في الدُّنْيا إلّا الإحْسانُ في الآخِرَةِ. ثالِثُها: هَلْ جَزاءُ مَن أحْسَنَ إلَيْكم في الدُّنْيا بِالنِّعَمِ وفي العُقْبى بِالنَّعِيمِ إلّا أنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِ بِالعِبادَةِ والتَّقْوى، وأمّا الأقْرَبُ فَإنَّهُ عامٌّ فَجَزاءُ كُلِّ مَن أحْسَنَ إلى غَيْرِهِ أنْ يُحْسِنَ هو إلَيْهِ أيْضًا، ولْنَذْكُرْ تَحْقِيقَ القَوْلِ فِيهِ وتَرْجِعُ الوُجُوهُ كُلُّها إلى ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الإحْسانُ يُسْتَعْمَلُ في ثَلاثِ مَعانٍ:
أحَدُها: إثْباتُ الحُسْنِ وإيجادُهُ قالَ تَعالى: ﴿فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] وقالَ تَعالى: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧] .
ثانِيها: الإتْيانُ بِالحُسْنِ كالإظْرافِ والإغْرابِ لِلْإتْيانِ بِالظَّرِيفِ والغَرِيبِ قالَ تَعالى: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ [الأنعام: ١٦٠] .
ثالِثُها: يُقالُ: فُلانٌ لا يُحْسِنُ الكِتابَةَ ولا يُحْسِنُ الفاتِحَةَ أيْ لا يَعْلَمُهُما، والظّاهِرُ أنَّ الأصْلَ في الإحْسانِ الوَجْهانِ الأوَّلانِ، والثّالِثُ مَأْخُوذٌ مِنهُما، وهَذا لا يُفْهَمُ إلّا بِقَرِينَةِ الِاسْتِعْمالِ مِمّا يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ إرادَةُ العِلْمِ، إذا عَلِمْتَ هَذا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُ الإحْسانِ في المَوْضِعَيْنِ عَلى مَعْنًى مُتَّحِدٍ مِنَ المَعْنَيَيْنِ ويُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيهِما عَلى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. أمّا الأوَّلُ: فَنَقُولُ: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ﴾ أيْ هَلْ جَزاءُ مَن أتى بِالفِعْلِ الحَسَنِ إلّا أنْ يُؤْتى في مُقابَلَتِهِ بِفِعْلٍ حَسَنٍ، لَكِنَّ الفِعْلَ الحَسَنَ مِنَ العَبْدِ لَيْسَ كُلَّ ما يَسْتَحْسِنُهُ هو، بَلِ الحُسْنُ هو ما اسْتَحْسَنَهُ اللَّهُ مِنهُ، فَإنَّ الفاسِقَ رُبَّما يَكُونُ الفِسْقُ في نَظَرِهِ حَسَنًا ولَيْسَ بِحَسَنٍ بَلِ الحَسَنُ ما طَلَبَهُ اللَّهُ مِنهُ، كَذَلِكَ الحَسَنُ مِنَ اللَّهِ هو كُلُّ ما يَأْتِي بِهِ مِمّا يَطْلُبُهُ العَبْدُ كَما أتى العَبْدُ بِما يَطْلُبُهُ اللَّهُ تَعالى مِنهُ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعْيُنُ﴾ [الزخرف: ٧١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي ما اشْتَهَتْ أنْفُسُهم خالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٢] وقالَ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى﴾ [يونس: ٢٦] أيْ ما هو حَسَنٌ عِنْدَهم. وأمّا الثّانِي: فَنَقُولُ: هَلْ جَزاءُ مَن أثْبَتَ الحُسْنَ في عَمَلِهِ في الدُّنْيا إلّا أنْ يُثْبِتَ اللَّهُ الحُسْنَ فِيهِ وفي أحْوالِهِ في الدّارَيْنِ وبِالعَكْسِ، هَلْ جَزاءُ مَن أثْبَتَ الحُسْنَ فِينا وفي صُوَرِنا وأحْوالِنا إلّا أنْ نُثْبِتَ الحُسْنَ فِيهِ أيْضًا، لَكِنَّ إثْباتَ الحُسْنِ في اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَإثْباتُ الحُسْنِ أيْضًا في أنْفُسِنا وأفْعالِنا فَنُحَسِّنُ أنْفُسَنا بِعِبادَةِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وأفْعالَنا بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ وأحْوالَ باطِنِنا بِمَعْرِفَتِهِ تَعالى، وإلى هَذا رَجَعَتِ الإشارَةُ، ووَرَدَ في الأخْبارِ مِن حُسْنِ وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ وقُبْحِ وُجُوهِ الكافِرِينَ.
وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو الحَمْلُ عَلى المَعْنَيَيْنِ فَهو أنْ تَقُولَ: عَلى جَزاءِ مَن أتى بِالفِعْلِ الحَسَنِ إلّا أنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ فِيهِ الحُسْنَ، وفي جَمِيعِ أحْوالِهِ فَيَجْعَلُ وجْهَهُ حَسَنًا وحالَهُ حَسَنًا، ثُمَّ فِيهِ لَطائِفُ:
اللَّطِيفَةُ الأُولى: هَذِهِ إشارَةٌ إلى رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنِ العَوامِّ في الآخِرَةِ، وتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلى الخَواصِّ فِيها. أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ﴾ والمُؤْمِنُ لا شَكَّ في أنَّهُ يُثابُ (p-١١٦)بِالجَنَّةِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ اللَّهِ الإحْسانُ جَزاءً لَهُ ومَن جازى عَبْدًا عَلى عَمَلِهِ لا يَأْمُرُهُ بِشُكْرِهِ، ولِأنَّ التَّكْلِيفَ لَوْ بَقِيَ في الآخِرَةِ فَلَوْ تَرَكَ العَبْدُ القِيامَ بِالتَّكْلِيفِ لاسْتَحَقَّ العِقابَ، والعِقابُ تَرْكُ الإحْسانِ لِأنَّ العَبْدَ لَمّا عَبَدَ اللَّهَ في الدُّنْيا ما دامَ وبَقِيَ يَلِيقُ بِكَرَمِهِ تَعالى أنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ ما دامَ وبَقِيَ، فَلا عِقابَ عَلى تَرْكِهِ بِلا تَكْلِيفٍ.
وأمّا الثّانِي: فَتَقُولُ خاصَّةُ اللَّهِ تَعالى عَبَدْنا اللَّهَ تَعالى في الدُّنْيا لِنِعَمٍ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ عَلَيْنا، فَهَذا الَّذِي أعْطانا اللَّهُ تَعالى ابْتِداءَ نِعْمَةٍ وإحْسانٍ جَدِيدٍ فَلَهُ عَلَيْنا شُكْرُهُ، فَيَقُولُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ، ويَذْكُرُونَ اللَّهَ ويُثْنُونَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَفْسُ الإحْسانِ مِنَ اللَّهِ تَعالى في حَقِّهِمْ سَبَبًا لِقِيامِهِمْ بِشُكْرِهِ، فَيَعْرِضُونَ هم عَلى أنْفُسِهِمْ عِبادَتَهُ تَعالى فَيَكُونُ لَهم بِأدْنى عِبادَةٍ شُغْلٌ شاغِلٌ عَنِ الحُورِ والقُصُورِ والأكْلِ والشُّرْبِ. فَلا يَأْكُلُونَ ولا يَشْرَبُونَ ولا يَتَنابَذُونَ ولا يَلْعَبُونَ فَيَكُونُ حالُهم كَحالِ المَلائِكَةِ في يَوْمِنا هَذا لا يَتَناكَحُونَ ولا يَلْعَبُونَ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مِثْلَ هَذِهِ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ لَذَّةً زائِدَةً عَلى كُلِّ لَذَّةٍ في غَيْرِها.
اللَّطِيفَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ مُحَكَّمٌ في الآخِرَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الإحْسانَ هو الإتْيانُ بِما هو حَسَنٌ عِنْدَ مَن أتى بِالإحْسانِ، لَكِنَّ اللَّهَ لَمّا طَلَبَ مِنّا العِبادَةَ طَلَبَ كَما أرادَ، فَأتى بِهِ المُؤْمِنُ كَما طُلِبَ مِنهُ، فَصارَ مُحْسِنًا فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يُحْسِنَ اللَّهُ إلى عَبْدِهِ ويَأْتِي بِما هو حَسَنٌ عِنْدَهُ، وهو ما يَطْلُبُهُ كَما يُرِيدُ فَكَأنَّهُ قالَ: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ﴾ أيْ هَلْ جَزاءُ مَن أتى بِما طَلَبْتُهُ مِنهُ عَلى حَسَبِ إرادَتِي إلّا أنْ يُؤْتى بِما طَلَبَهُ مِنِّي عَلى حَسَبِ إرادَتِهِ، لَكِنَّ الإرادَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّؤْيَةِ، فَيَجِبُ بِحُكْمِ الوَعْدِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ آيَةً دالَّةً عَلى الرُّؤْيَةِ البَلْكَفِيَّةِ.
اللَّطِيفَةُ الثّالِثَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ ما يَفْرِضُهُ الإنْسانُ مِن أنْواعِ الإحْسانِ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَهو دُونَ الإحْسانِ الَّذِي وعَدَ اللَّهُ تَعالى بِهِ لِأنَّ الكَرِيمَ إذا قالَ لِلْفَقِيرِ: افْعَلْ كَذا ولَكَ كَذا دِينارًا، وقالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ كَذا عَلى أنْ أُحْسِنَ إلَيْكَ يَكُونُ رَجاءُ مَن لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أجْرًا أكْثَرُ مِن رَجاءِ مَن عَيَّنَ لَهُ، هَذا إذا كانَ الكَرِيمُ في غايَةِ الكَرَمِ ونِهايَةِ الغِنى، إذا ثَبَتَ هَذا فاللَّهُ تَعالى قالَ: جَزاءُ مَن أحْسَنَ إلَيَّ أنْ أُحْسِنَ إلَيْهِ بِما يُغْبَطُ بِهِ، وأُوصِلُ إلَيْهِ فَوْقَ ما يَشْتَهِيهِ، فالَّذِي يُعْطِي اللَّهُ فَوْقَ ما يَرْجُوهُ وذَلِكَ عَلى وفْقِ كَرَمِهِ وإفْضالِهِ.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"],"ayah":"فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق