الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِن إسْتَبْرَقٍ وجَنى الجَنَّتَيْنِ دانٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ نَحْوِيَّةٌ ولُغَوِيَّةٌ ومَعْنَوِيَّةٌ. المَسْألَةُ الأُولى مِنَ النَّحْوِيَّةِ: هو أنَّ المَشْهُورَ أنَّ ”مُتَّكِئِينَ“ حالٌ وذُو الحالِ مَن في قَوْلِهِ: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ﴾ والعامِلُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ اللّامُ الجارَّةُ تَقْدِيرُهُ: لَهم في حالِ الِاتِّكاءِ جَنَّتانِ. وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى المَدْحِ، وإنَّما حَمْلُهُ عَلى هَذا إشْكالٌ في قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ حالٌ وذَلِكَ لِأنَّ الجَنَّةَ لَيْسَتْ لَهم حالَ الِاتِّكاءِ بَلْ هي لَهم في كُلِّ حالٍ فَهي قَبْلَ الدُّخُولِ لَهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: هو حالٌ وذُو الحالِ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الفاكِهَةُ، لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِيهِما مِن كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ﴾ يَدُلُّ عَلى مُتَفَكِّهِينَ بِها كَأنَّهُ قالَ: يَتَفَكَّهُ المُتَفَكِّهُونَ بِها، مُتَّكِئِينَ، وهَذا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الأكْلَ إنْ كانَ ذَلِيلًا كالخَوَلِ والخَدَمِ والعَبِيدِ (p-١١١)والغِلْمانِ، فَإنَّهُ يَأْكُلُ قائِمًا، وإنْ كانَ عَزِيزًا فَإنْ كانَ يَأْكُلُ لِدَفْعِ الجُوعِ يَأْكُلُ قاعِدًا ولا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا إلّا عَزِيزٌ مُتَفَكِّهٌ لَيْسَ عِنْدَهُ جُوعٌ يُقْعِدُهُ لِلْأكْلِ، ولا هُنالِكَ مَن يَحْسِمُهُ، فالتَّفَكُّهُ مُناسِبٌ لِلِاتِّكاءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ مِنَ المَسائِلِ النَّحْوِيَّةِ: ﴿عَلى فُرُشٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِأيِّ فِعْلٍ هو ؟ إنْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِما في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، حَتّى يَكُونَ كَأنَّهُ يَقُولُ: يَتَّكِئُونَ عَلى فُرُشٍ كَما كانَ يُقالُ: فُلانٌ اتَّكَأ عَلى عَصاهُ أوْ عَلى فَخْذَيْهِ فَهو بَعِيدٌ لِأنَّ الفِراشَ لا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ فَماذا هو ؟ نَقُولُ: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّهُ الكائِنُونَ عَلى فُرُشٍ مُتَّكِئِينَ مِن غَيْرِ بَيانِ ما يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اتِّكاؤُهم عَلى الفُرُشِ غَيْرَ أنَّ الأظْهَرَ ما ذَكَرْنا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيانًا لِما تَحْتَهم وهم بِجَمِيعِ بَدَنِهِمْ عَلَيْهِ وهو أنْعَمُ وأكْرَمُ لَهم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الظّاهِرُ أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ فُرُشًا كَثِيرَةً لا أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ فِراشًا، فَلِكُلِّهِمْ فُرُشٌ عَلَيْها كائِنُونَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ لُغَوِيَّةٌ: الإسْتَبْرَقُ هو الدِّيباجُ الثَّخِينُ وكَما أنَّ الدِّيباجَ مُعَرَّبٌ بِسَبَبِ أنَّ العَرَبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم ذَلِكَ إلّا مِنَ العَجَمِ، اسْتَعْمَلَ الِاسْمَ المُعْجَمَ فِيهِ غَيْرَ أنَّهم تَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفًا وهو أنَّ اسْمَهُ بِالفارِسِيَّةِ ستبرك بِمَعْنى ثَخِينٍ تَصْغِيرُ ”ستبر“ فَزادُوا فِيهِ هَمْزَةً مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ، وبَدَّلُوا الكافَ بِالقافِ، أمّا الهَمْزَةُ، فَلِأنَّ حَرَكاتِ أوائِلِ الكَلِمَةِ في لِسانِ العَجَمِ غَيْرُ مُبَيَّنَةٍ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ فَصارَتْ كالسُّكُونِ، فَأثْبَتُوا فِيهِ هَمْزَةً كَما أثْبَتُوا هَمْزَةَ الوَصْلِ عِنْدَ سُكُونِ أوَّلِ الكَلِمَةِ، ثُمَّ إنَّ البَعْضَ جَعَلُوها هَمْزَةَ وصْلٍ وقالُوا: (مِنِ اسْتَبْرَقٍ) والأكْثَرُونَ جَعَلُوها هَمْزَةَ قَطْعٍ لِأنَّ أوَّلَ الكَلِمَةِ في الأصْلِ مُتَحَرِّكٌ لَكِنْ بِحَرَكَةٍ فاسِدَةٍ فَأتَوْا بِهَمْزَةٍ تُسْقِطُ عَنْهُمُ الحَرَكَةَ الفاسِدَةَ وتُمَكِّنُهم مِن تَسْكِينِ الأوَّلِ، وعِنْدَ تَساوِي الحَرَكَةِ، فالعَوْدُ إلى السُّكُونِ أقْرَبُ، وأواخِرُ الكَلِماتِ عِنْدَ الوَقْفِ تُسَكَّنُ ولا تُبْدَلُ حَرَكَةٌ بِحَرَكَةٍ، وأمّا القافُ فَلِأنَّهم لَوْ تَرَكُوا الكافَ لاشْتَبَهَ ستبرك بِمَسْجِدِكَ ودارِكَ، فَأسْقَطُوا مِنهُ الكافَ الَّتِي هي عَلى لِسانِ العَرَبِ في آخِرِ الكَلِمِ لِلْخِطابِ وأبْدَلُوها قافًا ثُمَّ عَلَيْهِ سُؤالٌ مَشْهُورٌ، وهو أنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وهَذا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، والجَوابُ الحَقُّ أنَّ اللَّفْظَةَ في أصْلِها لَمْ تَكُنْ بَيْنَ العَرَبِ بِلُغَةٍ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّهُ أُنْزِلَ بِلُغَةٍ هي في أصْلِ وضْعِها عَلى لِسانِ العَرَبِ، بَلِ المُرادُ أنَّهُ مُنَزَّلٌ بِلِسانٍ لا يَخْفى مَعْناهُ عَلى أحَدٍ مِنَ العَرَبِ ولَمْ يَسْتَعْمِلْ فِيهِ لُغَةً لَمْ تَتَكَلَّمُ العَرَبُ بِها، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِعَدَمِ مُطاوَعَةِ لِسانِهِمُ التَّكَلُّمَ بِها فَعَجْزُهم عَنْ مِثْلِهِ لَيْسَ إلّا لِمُعْجِزٍ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ مَعْنَوِيَّةٌ: الِاتِّكاءُ مِنَ الهَيْئاتِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ الجِسْمِ وفَراغِ القَلْبِ، فالمُتَّكِئُ تَكُونُ أُمُورُ جِسْمِهِ عَلى ما يَنْبَغِي وأحْوالُ قَلْبِهِ عَلى ما يَنْبَغِي، لِأنَّ العَلِيلَ يَضْطَجِعُ ولا يَسْتَلْقِي أوْ يَسْتَنِدُ إلى شَيْءٍ عَلى حَسَبِ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلِاسْتِراحَةِ، وأمّا الِاتِّكاءُ بِحَيْثُ يَضَعُ كَفَّهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ومِرْفَقَهُ عَلى الأرْضِ ويُجافِي جَنْبَيْهِ عَنِ الأرْضِ فَذاكَ أمْرٌ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وأمّا مَشْغُولُ القَلْبِ في طَلَبِ شَيْءٍ فَتَحَرُّكُهُ تَحَرُّكُ مُسْتَوْفِزٍ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: ﴿بَطائِنُها مِن إسْتَبْرَقٍ﴾ يَدُلُّ عَلى نِهايَةِ شَرَفِها فَإنَّ ما تَكُونُ بَطائِنُها مِنَ الإسْتَبْرَقِ تَكُونُ ظَهائِرُها خَيْرًا مِنها، وكَأنَّهُ شَيْءٌ لا يُدْرِكُهُ البَصَرُ مِن سُنْدُسٍ وهو الدِّيباجُ الرَّقِيقُ النّاعِمُ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وهو أنَّ أهْلَ الدُّنْيا يُظْهِرُونَ الزِّينَةَ ولا يَتَمَكَّنُونَ مِن أنْ يَجْعَلُوا البَطائِنَ كالظَّهائِرِ، لِأنَّ غَرَضَهم إظْهارُ الزِّينَةِ والبَطائِنُ لا تَظْهَرُ، وإذا انْتَفى السَّبَبُ انْتَفى المُسَبَّبُ، فَلَمّا لَمْ يَحْصُلْ في جَعْلِ البَطائِنِ مِنَ الدِّيباجِ مَقْصُودُهم وهو الإظْهارُ تَرَكُوهُ، وفي الآخِرَةِ الأمْرُ مَبْنِيٌّ عَلى الإكْرامِ والتَّنْعِيمِ فَتَكُونُ البَطائِنُ كالظَّهائِرِ فَذَكَرَ البَطائِنَ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَنى الجَنَّتَيْنِ دانٍ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى مُخالَفَتِها لِجَنَّةِ دارِ الدُّنْيا مِن ثَلاثَةِ (p-١١٢)أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ الثَّمَرَةَ في الدُّنْيا عَلى رُءُوسِ الشَّجَرَةِ والإنْسانُ عِنْدَ الِاتِّكاءِ يَبْعُدُ عَنْ رُءُوسِها وفي الآخِرَةِ هو مُتَّكِئٌ والثَّمَرَةُ تَنْزِلُ إلَيْهِ. ثانِيها: في الدُّنْيا مَن قَرُبَ مِن ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ بَعُدَ عَنِ الأُخْرى وفي الآخِرَةِ كُلُّها دانٍ في وقْتٍ واحِدٍ ومَكانٍ واحِدٍ، وفي الآخِرَةِ المُسْتَقِرُّ في جَنَّةٍ عِنْدَهُ جَنَّةٌ أُخْرى. ثالِثُها: أنَّ العَجائِبَ كُلَّها مِن خَواصِّ الجَنَّةِ فَكانَ أشْجارُها دائِرَةً عَلَيْهِمْ ساتِرَةً إلَيْهِمْ وهم ساكِنُونَ عَلى خِلافِ ما كانَ في الدُّنْيا وجَنّاتِها وفي الدُّنْيا الإنْسانُ مُتَحَرِّكٌ ومَطْلُوبُهُ ساكِنٌ، وفِيهِ الحَقِيقَةُ وهي أنَّ مَن لَمْ يَكْسَلْ ولَمْ يَتَقاعَدْ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وسَعى في الدُّنْيا في الخَيْراتِ انْتَهى أمْرُهُ إلى سُكُونٍ لا يُحْوِجُهُ شَيْءٌ إلى حَرَكَةٍ. فَأهْلُ الجَنَّةِ إنْ تَحَرَّكُوا تَحَرَّكُوا لا لِحاجَةٍ وطَلَبٍ، وإنْ سَكَنُوا سَكَنُوا لا لِاسْتِراحَةٍ بَعْدَ التَّعَبِ، ثُمَّ إنَّ الوَلِيَّ قَدْ تَصِيرُ لَهُ الدُّنْيا أُنْمُوذَجًا مِنَ الجَنَّةِ، فَإنَّهُ يَكُونُ ساكِنًا في بَيْتِهِ ويَأْتِيهِ الرِّزْقُ مُتَحَرِّكًا إلَيْهِ دائِرًا حَوالَيْهِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧] . المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: الجَنَّتانِ إنْ كانَتا جِسْمِيَّتَيْنِ فَهو أبَدًا يَكُونُ بَيْنَهُما وهُما عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ هو يَتَناوَلُ ثِمارَهُما وإنْ كانَتْ إحْداهُما رُوحِيَّةً والأُخْرى جِسْمِيَّةً فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما فَواكِهُ وفُرُشٌ تَلِيقُ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب