الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ إشارَةً إلى ما هو (p-١٠٢)أعْظَمُ مِن إرْسالِ الشُّواظِ عَلى الإنْسِ والجِنِّ، فَكَأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أوَّلًا ما يَخافُ مِنهُ الإنْسانُ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَخافُ مِنهُ كُلُّ واحِدٍ مِمَّنْ لَهُ إدْراكٌ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والمَلَكِ حَيْثُ تَخْلُو أماكِنُهم بِالشَّقِّ ومَساكِنُ الجِنِّ والإنْسِ بِالخَرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ إشارَةً إلى سُكّانِ الأرْضِ، قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ﴾ بَيانًا لِحالِ سُكّانِ السَّماءِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الفاءُ في الأصْلِ لِلتَّعْقِيبِ عَلى وُجُوهٍ ثَلاثَةٍ: (مِنها): التَّعْقِيبُ الزَّمانِيُّ لِلشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ لا يَتَعَلَّقُ أحَدُهُما بِالآخَرِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ: قَعَدَ زَيْدٌ فَقامَ عَمْرٌو، لِمَن سَألَكَ عَنْ قُعُودِ زَيْدٍ وقِيامِ عَمْرٍو، وإنَّهُما كانا مَعًا أوْ مُتَعاقِبَيْنِ. (ومِنها): التَّعْقِيبُ الذِّهْنِيُّ لِلَّذِينَ يَتَعَلَّقُ أحَدُهُما بِالآخَرِ كَقَوْلِكَ: جاءَ زَيْدٌ فَقامَ عَمْرٌو إكْرامًا لَهُ إذْ يَكُونُ في مِثْلِ هَذا قِيامُ عَمَرٍو مَعَ مَجِيءِ زَيْدٍ زَمانًا. (ومِنها): التَّعْقِيبُ في القَوْلِ كَقَوْلِكَ: لا أخافُ الأمِيرَ فالمَلِكَ فالسُّلْطانَ، كَأنَّكَ تَقُولُ: أقُولُ لا أخافُ الأمِيرَ، وأقُولُ لا أخافُ المَلِكَ، وأقُولُ لا أخافُ السُّلْطانَ، إذا عَرَفْتَ هَذا فالفاءُ هُنا تَحْتَمِلُ الأوْجُهَ جَمِيعًا. أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ إرْسالَ الشُّواظِ عَلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ انْشِقاقِ السَّماواتِ، ويَكُونُ ذَلِكَ الإرْسالُ إشارَةً إلى عَذابِ القَبْرِ، وإلى ما يَكُونُ عِنْدَ سَوْقِ المُجْرِمِينَ إلى المَحْشَرِ، إذْ ورَدَ في التَّفْسِيرِ أنَّ الشُّواظَ يَسُوقُهم إلى المَحْشَرِ، فَيَهْرَبُونَ مِنها إلى أنْ يَجْتَمِعُوا في مَوْضِعٍ واحِدٍ، وعَلى هَذا مَعْناهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ، فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ يَكُونُ العَذابُ الألِيمُ، والحِسابُ الشَّدِيدُ عَلى ما سَنُبَيِّنُ إنْ شاءَ اللَّهُ. وأمّا الثّانِي: فَوَجْهُهُ أنْ يُقالَ: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِن نارٍ ونُحاسٌ﴾ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِ السَّماءِ تَكُونُ حَمْراءَ، إشارَةً إلى أنَّ لَهِيبَها يَصِلُ إلى السَّماءِ ويَجْعَلُها كالحَدِيدِ المُذابِ الأحْمَرِ. وأمّا الثّالِثُ: فَوَجْهُهُ أنْ يُقالَ: لَمّا قالَ: ﴿فَلا تَنْتَصِرانِ﴾ أيْ في وقْتِ إرْسالِ الشُّواظِ عَلَيْكُما قالَ: فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ وصارَتْ كالمُهْلِ، وهو كالطِّينِ الذّائِبِ، كَيْفَ تَنْتَصِرانِ ؟ إشارَةً إلى أنَّ الشُّواظَ المُرْسَلَ لَهَبٌ واحِدٌ، أوْ فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ وذابَتْ، وصارَتِ الأرْضُ والجَوُّ والسَّماءُ كُلُّها نارًا فَكَيْفَ تَنْتَصِرانِ ؟ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: كَلِمَةُ (إذا) قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُفاجَأةِ وإنْ كانَتْ في أوْجُهِها ظَرْفًا، لَكِنْ بَيْنَها فَرْقٌ. فالأوَّلُ: مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ ﴿والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ [الليل: ١، ٢] والثّانِي: مِثْلَ قَوْلِهِ: إذا أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ ومِن هَذا البابِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وفي الأوَّلِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ الفِعْلُ في الوَقْتِ المَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ وفي الثّانِي لا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَإنَّكَ إذا قُلْتَ: إذا عَلَّمْتَنِي تُثابُ يَكُونُ الثَّوابُ بَعْدَهُ زَمانًا لَكِنَّ اسْتِحْقاقَهُ يَثْبُتُ في ذَلِكَ الوَقْتِ مُتَّصِلًا بِهِ. والثّالِثُ: مِثالُ ما يَقُولُ: خَرَجْتُ فَإذا قَدْ أقْبَلَ الرَّكْبُ أمّا لَوْ قالَ: خَرَجْتُ إذْ أقْبَلَ الرَّكْبُ فَهو في جَوابِ مَن يَقُولُ مَتى خَرَجْتَ ؟ إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: عَلى أيِّ وجْهٍ اسْتَعْمَلَ ”إذا“ هاهُنا ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: الظَّرْفِيَّةُ المُجَرَّدَةُ عَلى أنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ الزَّمانِيِّ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ﴾ بَيانٌ لِوَقْتِ العَذابِ، كَأنَّهُ قالَ: إذا انْشَقَّتِ السَّماءُ يَكُونُ العَذابُ أيْ بَعْدَ إرْسالِ الشُّواظِ، وعِنْدَ انْشِقاقِ السَّماءِ يَكُونُ. وثانِيهِما: الشَّرْطِيَّةُ وذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الثّالِثِ، وهو قَوْلُنا: ﴿فَلا تَنْتَصِرانِ﴾ عِنْدَ إرْسالِ الشُّواظِ فَكَيْفَ تَنْتَصِرانِ إذا انْشَقَّتِ السَّماءُ، كَأنَّهُ قالَ: إذا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَلا تَتَوَقَّعُوا الِانْتِصارَ أصْلًا، وأمّا الحَمْلُ عَلى المُفاجَأةِ عَلى أنْ يُقالَ: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ﴾ فَإذا السَّماءُ قَدِ انْشَقَّتْ فَبَعِيدٌ، ولا يُحْمَلُ ذَلِكَ إلّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي مِن أنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّهْنِيِّ. (p-١٠٣)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما المُخْتارُ مِنَ الأوْجُهِ ؟ نَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وحِينَئِذٍ لَهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ الجَزاءُ مَحْذُوفًا رَأْسًا لِيَفْرِضَ السّامِعُ بَعْدَهُ كُلَّ هائِلٍ، كَما يَقُولُ القائِلُ: إذا غَضِبَ السُّلْطانُ عَلى فُلانٍ لا يَدْرِي أحَدٌ ماذا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ رُبَّما يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ إذا غَضِبَ السُّلْطانُ مُتَعَجِّبًا آتِيًا بِقَرِينَةٍ دالَّةٍ عَلى تَهْوِيلِ الأمْرِ، لِيَذْهَبَ السّامِعُ مَعَ كُلِّ مَذْهَبٍ، ويَقُولُ: كَأنَّهُ إذا غَضِبَ السُّلْطانُ يَقْتُلُ، ويَقُولُ الآخَرُ: إذا غَضِبَ السُّلْطانُ، يَنْهَبُ ويَقُولُ الآخَرُ غَيْرَ ذَلِكَ. وثانِيهِما: ما بَيَّنّا مِن بَيانِ عَدَمِ الِانْتِصارِ ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ﴾ [الفرقان: ٢٥] إلى أنْ قالَ تَعالى: ﴿وكانَ يَوْمًا عَلى الكافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٦] فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إذا أُرْسِلَ عَلَيْهِما شُواظٌ مِن نارٍ ونُحاسٍ فَلا يَنْتَصِرانِ، فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ كَيْفَ يَنْتَصِرانِ ؟ فَيَكُونُ الأمْرُ عَسِيرًا، فَيَكُونُ كَأنَّهُ قالَ: فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ يَكُونُ الأمْرُ عَسِيرًا في غايَةِ العُسْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ يَلْقى المَرْءُ فِعْلَهُ ويُحاسَبُ حِسابَهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ إلى أنْ قالَ: ﴿ياأيُّها الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق: ٦] الآيَةَ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ما المَعْنى مِنَ الِانْشِقاقِ ؟ نَقُولُ: حَقِيقَتُهُ ذَوَبانُها وخَرابُها، كَما قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] إشارَةً إلى خَرابِها ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: انْشَقَّتْ بِالغَمامِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ مِنها أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِالغَمامِ﴾ أيْ مَعَ الغَمامِ فَيَكُونُ مِثْلَ ما ذَكَرْنا هَهُنا مِنَ الِانْفِطارِ والخَرابِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ ؟ نَقُولُ: المَشْهُورُ أنَّها في الحالِ تَكُونُ حَمْراءَ، يُقالُ: فَرَسٌ ورْدٌ إذا أُثْبِتَ لِلْفَرَسِ الحُمْرَةُ، وحُجْرَةٌ ورْدَةٌ أيْ حَمْراءُ اللَّوْنِ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ لَهِيبَ النّارِ يَرْتَفِعُ في السَّماءِ فَتَذُوبُ فَتَكُونُ كالصُّفْرِ الذّائِبِ حَمْراءَ، ويَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ وهو أنْ يُقالَ: ورْدَةٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الوُرُودِ كالرَّكْعَةِ والسَّجْدَةِ والجَلْسَةِ والقَعْدَةِ مِنَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ والجُلُوسِ والقُعُودِ، وحِينَئِذٍ الضَّمِيرُ في كانَتْ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ [يس: ٥٣] أيِ الكائِنَةُ أوِ الدّاهِيَةُ وأنَّثَ الضَّمِيرَ لِتَأْنِيثِ الظّاهِرِ وإنْ كانَ شَيْئًا مُذَكَّرًا، فَكَذا هَهُنا قالَ: ﴿فَكانَتْ ورْدَةً﴾ واحِدَةً أيِ الحَرَكَةُ الَّتِي بِها الِانْشِقاقُ كانَتْ ورْدَةً واحِدَةً، وتَزَلْزَلَ الكُلُّ وخَرِبَ دُفْعَةً، والحَرَكَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِانْشِقاقِ لِأنَّ المُنْشَقَّ يَتَحَرَّكُ، ويَتَزَلْزَلُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كالدِّهانِ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: جَمْعُ دُهْنٍ. وثانِيهِما: أنَّ الدِّهانَ هو الأدِيمُ الأحْمَرُ، فَإنْ قِيلَ: الأدِيمُ الأحْمَرُ مُناسِبٌ لِلْوَرْدَةِ فَيَكُونُ مَعْناهُ كانَتِ السَّماءُ كالأدِيمِ الأحْمَرِ، ولَكِنْ ما المُناسَبَةُ بَيْنَ الوَرْدَةِ وبَيْنَ الدِّهانِ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنَ الدِّهانِ ما هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ [المعارج: ٨] وهو عَكَرُ الزَّيْتِ وبَيْنَهُما مُناسَبَةٌ، فَإنَّ الوَرْدَ يُطْلَقُ عَلى الأسَدِ فَيُقالُ: أسَدٌ ورْدٌ، فَلَيْسَ الوَرْدُ هو الأحْمَرَ القانِي. والثّانِي: أنَّ التَّشْبِيهَ بِالدُّهْنِ لَيْسَ في اللَّوْنِ بَلْ في الذَّوَبانِ. والثّالِثُ: هو أنَّ الدُّهْنَ المُذابَ يَنْصَبُّ انْصِبابَةً واحِدَةً ويَذُوبُ دُفْعَةً، والحَدِيدُ والرَّصاصُ لا يَذُوبُ غايَةَ الذَّوَبانِ، فَتَكُونُ حَرَكَةُ الدُّهْنِ بَعْدَ الذَّوَبانِ أسْرَعَ مِن حَرَكَةِ غَيْرِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ حَرَكَتُها: تَكُونُ ورْدَةً واحِدَةً كالدِّهانِ المَصْبُوبَةِ صَبًّا لا كالرَّصاصِ الَّذِي يَذُوبُ مِنهُ ألْطَفُهُ ويُنْتَفَعُ بِهِ ويَبْقى الباقِي، وكَذَلِكَ الحَدِيدُ والنُّحاسُ، وجَمَعَ الدِّهانَ لِعَظَمَةِ السَّماءِ وكَثْرَةِ ما يَحْصُلُ مِن ذَوَبانِها لِاخْتِلافِ أجْزائِها، فَإنَّ الكَواكِبَ تُخالِفُ غَيْرَها. (p-١٠٤)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب