الباحث القرآني
التَّحْقِيقُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّها الثَّقَلانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ولْنَذْكُرْ أوَّلًا ما قِيلَ فِيهِ تَبَرُّكًا بِأقْوالِ المَشايِخِ ثُمَّ نُحَقِّقُهُ بِالبَيانِ الشّافِي، فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ وأكْثَرُهم عَلى أنَّ المُرادَ سَنَقْصِدُكم بِالفِعْلِ، وقالَ بَعْضُهم: خَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ عَلى ما هي عادَةُ اسْتِعْمالِ النّاسِ، فَإنَّ السَّيِّدَ يَقُولُ لِعَبْدِهِ عِنْدَ الغَضَبِ: سَأفْرُغُ لَكَ، وقَدْ يَكُونُ السَّيِّدُ فارِغًا جالِسًا لا يَمْنَعُهُ شُغْلٌ، وأمّا التَّحْقِيقُ فِيهِ، فَنَقُولُ: عَدَمُ الفَراغِ عِبارَةٌ عَنْ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ في فِعْلٍ لا يُمْكِنُهُ مَعَهُ إيجادُ فِعْلٍ آخَرَ فَإنَّ مَن يَخِيطُ يَقُولُ: ما أنا بِفارِغٍ لِلْكِتابَةِ، لَكِنْ عَدَمُ الفَراغِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ أحَدِ الفِعْلَيْنِ مانِعًا لِلْفاعِلِ مِنَ الفِعْلِ الآخَرِ، يُقالُ: هو مَشْغُولٌ بِكَذا عَنْ كَذا كَما في قَوْلِ القائِلِ: أنا مَشْغُولٌ بِالخِياطَةِ عَنِ الكِتابَةِ، وقَدْ يَكُونُ عَدَمُ الفَراغِ لِكَوْنِ الفِعْلِ مانِعًا مِنَ الفِعْلِ لا لِكَوْنِهِ مانِعًا مِنَ الفاعِلِ، كالَّذِي يُحَرِّكُ جِسْمًا في زَمانٍ لا يُمْكِنُ تَسْكِينُهُ في ذَلِكَ الزَّمانِ فَهو لَيْسَ بِفارِغٍ لِلتَّسْكِينِ، ولَكِنْ لا يُقالُ في مِثْلِ هَذا الوَقْتِ أنا مَشْغُولٌ بِالتَّحْرِيكِ عَنِ التَّسْكِينِ، فَإنَّ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ لَوْ كانَ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِهِ بَلْ كانَ في نَفْسِ المَحَلِّ حَرَكَةٌ لا بِفِعْلِ ذَلِكَ الفاعِلِ لا يُمْكِنُهُ التَّسْكِينُ فَلَيْسَ امْتِناعُهُ مِنهُ إلّا لِاسْتِحالَتِهِ بِالتَّحْرِيكِ، وفي الصُّورَةِ الأُولى لَوْلا اشْتِغالُهُ بِالخِياطَةِ لَتَمَكَّنَ مِنَ الكِتابَةِ، إذا عَرَفْتَ هَذا صارَ عَدَمُ الفَراغِ قِسْمَيْنِ:
أحَدُهُما: بِشُغْلٍ والآخَرُ لَيْسَ بِشُغْلٍ، فَنَقُولُ: إذا كانَ اللَّهُ تَعالى بِاخْتِيارِهِ أوْجَدَ الإنْسانَ وأبْقاهُ مُدَّةً أرادَها بِمَحْضِ القُدْرَةِ والإرادَةِ لا يُمْكِنُ مَعَ هَذا إعْدامُهُ، فَهو في فِعْلٍ لا يَمْنَعُ الفاعِلَ لَكِنْ يَمْنَعُ الفِعْلَ، ومِثْلُ هَذا بَيَّنّا أنَّهُ لَيْسَ بِفَراغٍ، وإنْ كانَ لَهُ شُغْلٌ، فَإذا أوْجَدَ ما أرادَ أوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أمْكَنَ الإعْدامُ والزِّيادَةُ في آنِهِ فَيَتَحَقَّقُ الفَراغُ، لَكِنْ لَمّا كانَ لِلْإنْسانِ مُشاهَدَةٌ مُقْتَصِرَةٌ عَلى أفْعالِ نَفْسِهِ وأفْعالِ أبْناءِ جِنْسِهِ وعَدَمُ الفِراغِ مِنهم بِسَبَبِ الشُّغْلِ يَظُنُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى فارِغٌ فَحَمَلَ الخَلْقُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَيْسَ بِفارِغٍ، فَيَلْزَمُ مِنهُ الفِعْلُ وهو لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ يَلْزَمُهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى غَيْرِ مَعْناهُ، واعْلَمْ أنَّ هَذا لَيْسَ قَوْلًا آخَرَ غَيْرُ قَوْلِ المَشايِخِ، بَلْ هو بَيانٌ لِقَوْلِهِمْ: سَنَقْصِدُكم، غَيْرَ أنَّ هَذا مُبَيَّنٌ، والحَمْدُ لِلَّهِ عَلى أنْ هَدانا لِلْبَيانِ مِن غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَوْلِ أرْبابِ اللِّسانِ. واعْلَمْ أنَّ أصْلَ الفَراغِ بِمَعْنى الخُلُوِّ، لَكِنْ ذَلِكَ إنْ كانَ في المَكانِ فَيَتَّسِعُ لِيَتَمَكَّنَ آخَرُ، وإنْ كانَ في زَمانٍ فَيَتَّسِعُ لِلْفِعْلِ، فالأصْلُ أنَّ زَمانَ الفاعِلِ فارِغٌ عَنْ فِعْلِهِ وغَيْرُ فارِغٍ لَكِنَّ المَكانَ مَرْئِيٌّ بِالخُلُوِّ فِيهِ، فَيُطْلَقُ الفَراغَ عَلى خُلُوِّ المَكانِ في الظَّرْفِ الفُلانِيِّ والزَّمانُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فَلا يُرى خُلُوُّهُ. ويُقالُ: فُلانٌ في زَمانِ كَذا فارِغٌ لِأنَّ فُلانًا هو المَرْئِيُّ لا الزَّمانَ، والأصْلُ أنَّ هَذا الزَّمانَ مِن أزْمِنَةِ فُلانٍ فَيُمْكِنُهُ وصْفُهُ لِلْفِعْلِ فِيهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ اسْتِعْمالٌ عَلى مُلاحَظَةِ الأصْلِ، لِأنَّ المَكانَ إذا خَلا يُقالُ: لِكَذا ولا يُقالُ: إلى كَذا، فَكَذَلِكَ الزَّمانُ، لَكِنْ لَمّا نُقِلَ إلى الفاعِلِ وقِيلَ: الفاعِلُ عَلى فَراغٍ وهو عِنْدَ الفَراغِ يَقْصِدُ إلى شَيْءٍ آخَرَ، قِيلَ في الفاعِلِ: فَرَغَ مِن كَذا إلى كَذا، وفي الظَّرْفِ يُقالُ: فَرَغَ مِن كَذا لِكَذا، فَقالَ لَكم عَلى مُلاحَظَةِ الأصْلِ، وهو يُقَوِّي ما ذَكَرْنا أنَّ المانِعَ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إلى الفاعِلِ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلى الفِعْلِ. وأمّا ”أيُّها“ فَنَقُولُ: الحِكْمَةُ في نِداءِ المُبْهَمِ والإتْيانُ بِالوَصْفِ بَعْدَهُ هي أنَّ المُنادِيَ يُرِيدُ صَوْنَ كَلامِهِ عَنِ الضَّياعِ، فَيَقُولُ أوَّلًا: يا أيْ نِداءٌ لِمُبَهَمٍ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَن يَسْمَعُ ويَتَنَبَّهُ لِكَلامِهِ مَن يَقْصِدُهُ، ثُمَّ عِنْدَ إقْبالِ السّامِعِينَ يُخَصِّصُ المَقْصُودَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ والتُزِمَ فِيهِ أمْرانِ:
أحَدُهُما: بِالمُعَرَّفِ بِاللّامِ أوْ بِاسْمِ الإشارَةِ، فَتَقُولُ: يا أيُّها الرَّجُلُ أوْ يا أيُّهَذا لا الأعْرَفُ مِنهُ وهو العَلَمُ، لِأنَّ بَيْنَ المُبْهَمِ الواقِعِ عَلى كُلِّ جِنْسٍ والعَلَمِ المُمَيَّزِ عَنْ كُلِّ شَخْصٍ تَباعُدًا. وثانِيهِما: تَوَسُّطُ التَّنْبِيهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ (p-٩٩)الوَصْفِ لِأنَّ الأصْلَ في أيِ الإضافَةُ لِما أنَّهُ في غايَةِ الإبْهامِ فَيُحْتاجُ إلى التَّمْيِيزِ، وأصْلُ التَّمْيِيزِ عَلى ما بَيَّنّا الإضافَةُ، فَوَسَّطَ بَيْنَهُما لِتَعْوِيضِهِ عَنِ الإضافَةِ، والتُزِمَ أيْضًا حَذْفُ لامِ التَّعْرِيفِ عِنْدَ زَوالِ أيْ فَلا تَقُولُ: يا الرَّجُلُ لِأنَّ في ذَلِكَ تَطْوِيلًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ، فَإنَّكَ لا تُفِيدُ بِاللّامِ التَّنْبِيهَ الَّذِي ذَكَرْنا، فَقَوْلُكَ: يا رَجُلُ مُفِيدٌ فَلا حاجَةَ إلى اللّامِ، فَهو يُوجِبُ إسْقاطَ اللّامِ عِنْدَ الإضافَةِ المَعْنَوِيَّةِ، فَإنَّها لَمّا أفادَتِ التَّعْرِيفَ كانَ إثْباتُ اللّامِ تَطْوِيلًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ المُعَرَّفَيْنِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الثَّقَلانِ﴾ المَشْهُورُ أنَّ المُرادَ الجِنُّ والإنْسُ وفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُما سُمِّيا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِما مُثْقَلَيْنِ بِالذُّنُوبِ.
ثانِيهِما: سُمِّيا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِما ثَقِيلَيْنِ عَلى وجْهِ الأرْضِ فَإنَّ التُّرابَ وإنْ لَطُفَ في الخَلْقِ لِيَتَمَّ خَلْقُ آدَمَ لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا، وأمّا النّارُ فَلَمّا وُلِدَ فِيها خَلْقُ الجِنِّ كَثُفَتْ يَسِيرًا، فَكَما أنَّ التُّرابَ لَطُفَ يَسِيرًا فَكَذَلِكَ النّارُ صارَتْ ثَقِيلَةً، فَهُما ثَقَلانِ فَسُمِّيا بِذَلِكَ.
ثالِثُها: الثَّقِيلُ أحَدُهُما لا غَيْرُ وسُمِّيَ الآخَرُ بِهِ لِلْمُجاوَرَةِ والِاصْطِحابِ كَما يُقالُ: العُمَرانِ والقَمَرانِ وأحَدُهُما عُمَرُ وقَمَرٌ، أوْ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ العُمُومَ بِالنَّوْعَيْنِ الحاضِرَيْنِ، تَقُولُ: يا أيُّها الثَّقَلُ الَّذِي هو كَذا، والثَّقَلُ الَّذِي لَيْسَ كَذا، والثَّقَلُ الأمْرُ العَظِيمُ. قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ» .
{"ayahs_start":31,"ayahs":["سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَیُّهَ ٱلثَّقَلَانِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"],"ayah":"فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق