الباحث القرآني
(p-٧٣)[ سُورَةُ الرَّحْمَنِ ]
سَبْعُونَ وثَمانُ آياتٍ مَكِّيَّةٌ
﷽
﴿الرَّحْمَنُ﴾ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾
﷽
﴿الرَّحْمَنُ﴾ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ اعْلَمْ أنَّ مُناسَبَةَ هَذِهِ السُّورَةِ لِما قَبْلَها بِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى افْتَتَحَ السُّورَةَ المُتَقَدِّمَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلى العِزَّةِ والجَبَرُوتِ والهَيْبَةِ، وهو انْشِقاقُ القَمَرِ، فَإنَّ مَن يَقْدِرُ عَلى شَقِّ القَمَرِ يَقْدِرُ عَلى هَدِّ الجِبالِ وقَدِّ الرِّجالِ، وافْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلى الرَّحْمَةِ والرَّحَمُوتِ وهو القُرْآنُ الكَرِيمُ، فَإنَّ شِفاءَ القُلُوبِ بِالصَّفاءِ عَنِ الذُّنُوبِ. ثانِيهِما: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ غَيْرَ مَرَّةٍ، وذَكَرَ في السُّورَةِ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ١٣] مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِما بَيَّنّا أنَّ تِلْكَ السُّورَةَ سُورَةُ إظْهارِ الهَيْبَةِ، وهَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ إظْهارِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ إنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُناسِبٌ لِآخِرِ ما قَبْلَها. حَيْثُ قالَ في آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥]، والِاقْتِدارُ إشارَةٌ إلى الهَيْبَةِ والعَظَمَةِ، وقالَ هَهُنا: (الرَّحْمَنُ) أيْ عَزِيزٌ شَدِيدٌ مُنْتَقِمٌ مُقْتَدِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُفّارِ والفُجّارِ، رَحْمَنٌ مُنْعِمٌ غافِرٌ لِلْأبْرارِ. ثُمَّ في التَّفْسِيرِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في لَفْظِ (الرَّحْمَنُ) أبْحاثٌ، ولا يَتَبَيَّنُ بَعْضُها إلّا بَعْدَ البَحْثِ في كَلِمَةِ اللَّهِ فَنَقُولُ:
المَبْحَثُ الأوَّلُ: مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ مَعَ الألِفِ واللّامِ اسْمُ عَلَمٍ لِمُوجِدِ المُمْكِناتِ، وعَلى هَذا فَمِنهم مَن قالَ: (الرَّحْمَنُ) أيْضًا اسْمُ عَلَمٍ لَهُ وتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الإسراء: ١١٠] أيْ أيًّا ما مِنهُما، وجَوَّزَ بَعْضُهم قَوْلَ القائِلِ: يا الرَّحْمَنُ كَما يَجُوزُ يا اللَّهُ وتَمَسَّكَ بِالآيَةِ، وكُلُّ هَذا ضَعِيفٌ، وبَعْضُها أضْعَفُ مِن بَعْضٍ، أمّا قَوْلُهُ: اللَّهُ مَعَ الألِفِ واللّامِ اسْمُ عَلَمٍ فَفِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ أصْلِيَّةً، فَلا يَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ وصْلِيَّةً، وكانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ: خَلَقَ اللَّهُ كَما يُقالُ: عَلِمَ أحْمَدُ وفَهِمَ إسْماعِيلُ، بَلِ الحَقُّ فِيهِ أحَدُ القَوْلَيْنِ: إمّا أنْ نَقُولَ: إلَهٌ أوْ لاهٌ اسْمٌ لِمُوجِدِ المُمْكِناتِ اسْمُ عَلَمٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَعَ الألِفِ واللّامِ كَما في الفَضْلِ، والعَبّاسِ والحَسَنِ والخَلِيلِ، وعَلى هَذا (p-٧٤)فَمَن سَمّى غَيْرَهُ إلَهًا فَهو كَمَن يَسْتَعْمِلُ في مَوْلُودٍ لَهُ فَيَقُولُ لِابْنِهِ مُحَمَّدٌ وأحْمَدُ وإنْ كانَ عَلَمَيْنِ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ في أنَّهُ جائِزٌ لِأنَّ مَن سَمّى ابْنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الأمْرِ المُطاعِ ما يَمْنَعُ الغَيْرَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِهِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ الِاحْتِجارُ وأخْذُ الِاسْمِ لِنْفَسِهِ أوْ لِوَلَدِهِ، بِخِلافِ المَلِكِ المُطاعِ إذا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لا يَسْتَجْرِئُ أحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَ وِلايَتِهِ ما دامَ لَهُ المُلْكُ أنْ يُسَمِّيَ ولَدَهُ أوْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ خُصُوصًا مَن يَكُونُ مَمْلُوكًا لا يُمْكِنُهُ أنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِاسْمِ المَلِكِ ولا أنْ يُسَمِّيَ ولَدَهُ بِهِ، واللَّهُ تَعالى مَلِكٌ مُطاعٌ، وكُلُّ مَن عَداهُ تَحْتَ أمْرِهِ، فَإذا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لا يَجُوزُ لِلْعَبِيدِ أنْ يَتَسَمَّوْا بِذَلِكَ الِاسْمِ، فَمَن يُسَمِّي فَقَدْ تَعَدّى فالمُشْرِكُونَ في التَّسْمِيَةِ مُتَعَدُّونَ، وفي المَعْنى ضالُّونَ، وإمّا أنْ نَقُولَ: إلَهٌ أوْ لاهٌ اسْمٌ لِمَن يُعْبَدُ، والألِفُ واللّامُ لِلتَّعْرِيفِ، ولَمّا امْتَنَعَ المَعْنى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ امْتَنَعَ الِاسْمُ، فَإنْ قِيلَ: فَلَوْ سَمّى أحَدٌ ابْنَهُ بِهِ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَجُوزَ ؟ قُلْنا: لا يَجُوزُ لِأنَّهُ يُوهِمُ أنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ الِابْنِ لِمَعْنًى لا لِكَوْنِهِ عَلَمًا، فَإنْ قِيلَ: تَسْمِيَةُ الواحِدِ بِالكَرِيمِ والوَدُودِ جائِزَةٌ. قُلْنا: كُلُّ ما يَكُونُ حَمْلُهُ عَلى العَلَمِ وعَلى اسْمٍ لِمَعْنًى مَلْحُوظٍ في اللَّفْظِ الذِّكْرِيِّ لا يُفْضِي إلى خَلَلٍ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الواحِدِ بِالكَرِيمِ والوَدُودِ، ولا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِالخالِقِ والقَدِيمِ؛ لِأنَّ عَلى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلى أنَّهُ عَلَمٌ غَيْرُ مَلْحُوظٍ فِيهِ المَعْنى يَجُوزُ، وعَلى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنًى هو قائِمٌ بِهِ كالقُدْرَةِ الَّتِي بِها بَقاءُ الخَلْقِ أوِ العَدَمِ فَلا يَجُوزُ، لَكِنِ اسْمُ المَعْبُودِ مِن هَذا القَبِيلِ فَلا يَجُوزُ التَّسْمِيةُ بِهِ، فَأحَدُ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ حَقٌّ، وقَوْلُهم مَعَ الألِفِ واللّامِ عَلَمٌ لَيْسَ بِحَقٍّ. إذا عَرَفْتَ البَحْثَ في اللَّهِ فَما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وهو أنَّ الرَّحْمَنَ اسْمٌ عَلى أضْعَفَ مِنهُ، وتَجْوِيزُ يا الرَّحْمَنُ أضْعَفُ مِنَ الكُلِّ.
البَحْثُ الثّانِي: اللَّهُ والرَّحْمَنُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى كالِاسْمِ الأوَّلِ والوَصْفُ الغالِبُ الَّذِي يَصِيرُ كالِاسْمِ بَعْدَ الِاسْمِ الأوَّلِ كَما في قَوْلِنا: عُمَرُ الفارُوقُ، وعَلِيٌّ المُرْتَضى ومُوسى الرِّضا، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا نَجِدُهُ في أسْماءِ الخُلَفاءِ وأوْصافِهِمُ المُعَرِّفَةِ لَهُمُ الَّتِي كانَتْ لَهم وصْفًا وخَرَجَتْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ عَنِ الوَصْفِيَّةِ، حَتّى إنَّ الشَّخْصَ وإنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ أوْ فارَقَهُ الوَصْفُ يُقالُ لَهُ ذَلِكَ كالعَلَمِ. فَإذَنْ لِلرَّحْمَنِ اخْتِصاصٌ بِاللَّهِ تَعالى، كَما أنَّ لِتِلْكَ الأوْصافِ اخْتِصاصًا بِأُولَئِكَ غَيْرَ أنَّ في تِلْكَ الأسْماءِ والأوْصافِ جازَ الوَضْعُ لِما بَيَّنّا، حَيْثُ اسْتَوى النّاسُ في الِاقْتِدارِ والعَظَمَةِ، ولا يَجُوزُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فَإنْ قِيلَ: إنَّ مِنَ النّاسِ مَن أطْلَقَ لَفْظَ الرَّحْمَنِ عَلى اليَمامِيِّ، نَقُولُ: هو كَما أنَّ مِنَ النّاسِ مَن أطْلَقَ لَفْظَ الإلَهِ عَلى غَيْرِ اللَّهِ تَعَدِّيًا وكُفْرًا، نَظَرًا إلى جَوازِهِ لُغَةً، وهو اعْتِقادٌ باطِلٌ.
البَحْثُ الثّالِثُ: لِلَّهِ تَعالى رَحْمَتانِ سابِقَةٌ ولاحِقَةٌ، فالسّابِقَةُ هي الَّتِي بِها خَلَقَ الخَلْقَ، واللّاحِقَةُ هي الَّتِي أعْطى بِها الخَلْقَ بَعْدَ إيجادِهِ إيّاهم مِنَ الرِّزْقِ والفِطْنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَهو تَعالى بِالنَّظَرِ إلى الرَّحْمَةِ السّابِقَةِ رَحْمَنٌ، وبِالنَّظَرِ إلى اللّاحِقَةِ رَحِيمٌ، ولِهَذا يُقالُ: يا رَحْمَنَ الدُّنْيا ورَحِيمَ الآخِرَةِ، فَهو رَحْمَنٌ، لِأنَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ أوَّلًا بِرَحْمَتِهِ، فَلَمّا لَمْ يُوجَدْ في غَيْرِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةَ ولَمْ يَخْلُقْ أحَدٌ أحَدًا لَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ لِغَيْرِهِ: رَحْمَنٌ، ولَمّا تَخَلَّقَ الصّالِحُونَ مِن عِبادِهِ بِبَعْضِ أخْلاقِهِ عَلى قَدْرِ الطّاقَةِ البَشَرِيَّةِ، وأطْعَمَ الجائِعَ وكَسا العارِيَ، وُجِدَ شَيْءٌ مِنَ الرَّحْمَةِ اللّاحِقَةِ الَّتِي بِها الرِّزْقُ والإعانَةُ، فَجازَ أنْ يُقالَ لَهُ رَحِيمٌ، وقَدْ ذَكَرْنا هَذا كُلَّهُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الفاتِحَةِ، غَيْرَ أنّا أرَدْنا أنْ يَصِيرَ ما ذَكَرْنا [ هُنا ] مَضْمُومًا إلى ما ذَكَرْناهُ هُناكَ، فَأعَدْناهُ هَهُنا لِأنَّ هَذا كُلَّهُ كالتَّفْصِيلِ لِما ذَكَرْناهُ في الفاتِحَةِ.
(p-٧٥)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (الرَّحْمَنُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ الَّتِي هي قَوْلُهُ: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ وقِيلَ (الرَّحْمَنُ) [ خَبَرُ ] مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هو الرَّحْمَنُ، ثُمَّ أتى بِجُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ فَقالَ: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ والأوَّلُ أصَحُّ، وعَلى القَوْلِ الضَّعِيفِ الرَّحْمَنُ آيَةٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِن مَفْعُولٍ ثانٍ فَما ذَلِكَ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: قِيلَ: عَلَّمَ بِمَعْنى جَعَلَهُ عَلامَةً أيْ هو عَلامَةُ النُّبُوَّةِ ومُعْجِزَةٌ، وهَذا يُناسِبُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: ١] عَلى ما بَيَّنّا أنَّهُ ذَكَرَ في أوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِن بابِ الهَيْئَةِ وهو أنَّهُ شَقَّ ما لا يَشُقُّهُ أحَدٌ غَيْرُهُ، وذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِن بابِ الرَّحْمَةِ، وهو أنَّهُ نَشَرَ مِنَ العُلُومِ ما لا يَنْشُرُهُ غَيْرُهُ، وهو ما في القُرْآنِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ مِنَ الجَوابِ فَفِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يُعَلَّمُ فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر: ٤٠] والتَّعْلِيمُ عَلى هَذا الوَجْهِ مَجازٌ. يُقالُ: إنْ أُنْفِقَ عَلى مُتَعَلِّمٍ وأُعْطِيَ أُجْرَةً عَلى تَعْلِيمِهِ عَلِمَهُ. وثانِيهِما: أنَّ المَفْعُولَ الثّانِي لا بُدَّ مِنهُ وهو جِبْرِيلُ وغَيْرُهُ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَّمَهُمُ القُرْآنَ، ثُمَّ أنْزَلَهُ عَلى عَبْدِهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤] ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: المَفْعُولُ الثّانِي هو مُحَمَّدٌ ﷺ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى لا كَلامَ مُحَمَّدٍ. وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ: وهو أنَّهُ تَعالى عَلَّمَ القُرْآنَ الإنْسانَ، وهَذا أقْرَبُ لِيَكُونَ الإنْعامُ أتَمَّ، والسُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ لِبَيانِ الأعَمِّ مِنَ النِّعَمِ الشّامِلَةِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِمَ تَرَكَ المَفْعُولَ الثّانِي ؟ نَقُولُ: إشارَةً إلى أنَّ النِّعْمَةَ في تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ لا في تَعْلِيمِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، يُقالُ: فُلانٌ يُطْعِمُ الطَّعامَ إشارَةً إلى كَرَمِهِ، ولا يُبَيِّنُ مَن يُطْعِمُهُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما مَعْنى التَّعْلِيمِ ؟ نَقُولُهُ عَلى قَوْلِنا لَهُ مَفْعُولٌ ثانٍ إفادَةُ العِلْمِ بِهِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ ؟ [آل عمران: ٧] نَقُولُ: مَن لا يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إلّا اللَّهُ﴾ ويَعْطِفُ: ﴿الرّاسِخُونَ﴾ [آل عمران: ٧] عَلى اللَّهِ عَطْفَ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ لا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذا، ومَن يَقِفُ ويَعْطِفُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ، يَقُولُ: إنَّهُ تَعالى عَلِمَ القُرْآنَ، لِأنَّ مَن عَلِمَ كِتابًا عَظِيمًا ووَقَعَ عَلى ما فِيهِ، وفِيهِ مَواضِعُ مُشْكِلَةٌ فَعَلِمَ ما في تِلْكَ المَواضِعِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، يُقالَ: فُلانٌ يَعْلَمُ الكِتابَ الفُلانِيَّ ويُتْقِنُهُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ، وإنْ كانَ لَمْ يَعْلَمْ مُرادَ صاحِبِ الكِتابِ بِيَقِينٍ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في تَعْلِيمِ القُرْآنِ، أوْ تَقُولُ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ وأمّا غَيْرُهُ فَلا يَعْلَمُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ ما لَمْ يَعْلَمْ، فَيَكُونُ إشارَةً إلى أنَّ كِتابَ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ ما فِيها بِقُوَّةِ الذَّكاءِ والعُلُومِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في وجْهِ التَّرْتِيبِ وهو عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ما ذَكَرْنا أنَّ المُرادَ مِن ”عَلَّمَ“ عَلَّمَ المَلائِكَةَ، وتَعْلِيمُهُ المَلائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ الإنْسانِ، فَعَلَّمَ تَعالى مَلائِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ القُرْآنَ حَقِيقَةً يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ ﴿لا يَمَسُّهُ إلّا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٨] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الواقعة: ٨٠] إشارَةً إلى تَنْزِيلِهِ بَعْدَ تَعْلِيمِهِ، وعَلى هَذا فَفي النَّظْمِ حُسْنٌ زائِدٌ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أُمُورًا عُلْوِيَّةً وأُمُورًا سُفْلِيَّةً، وكُلُّ عُلْوِيٍّ قابَلَهُ بِسُفْلِيٍّ، وقَدَّمَ العُلْوِيّاتِ عَلى السُّفْلِيّاتِ إلى آخِرِ الآياتِ، فَقالَ: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ إشارَةً إلى تَعْلِيمِ العُلْوِيِّينَ، وقالَ: ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ إشارَةً إلى تَعْلِيمِ (p-٧٦)السُّفْلِيِّينَ، وقالَ: ﴿الشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ [الرحمن: ٥] في العُلْوِيّاتِ. وقالَ في مُقابِلَتِهِما مِنَ السُّفْلِيّاتِ: ﴿والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ﴾ [الرحمن: ٦] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها﴾ [الرحمن: ٧] وفي مُقابِلَتِها: ﴿والأرْضَ وضَعَها﴾ [الرحمن: ١٠]، وثانِيهِما: أنَّ تَقْدِيمَ تَعْلِيمِ القُرْآنِ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ أتَمَّ نِعْمَةٍ وأعْظَمَ إنْعامًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ القُرْآنِ، فَقالَ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ وهو كَقَوْلِ القائِلِ: عَلَّمْتُ فُلانًا الأدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وأنْفَقْتُ عَلَيْهِ مالِي، فَقَوْلُهُ: حَمَلْتُهُ وأنْفَقْتُ بَيانٌ لِما تَقَدَّمَ، وإنَّما قَدَّمَ ذَلِكَ لِأنَّهُ الإنْعامُ العَظِيمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وسُورَةِ العَلَقِ، حَيْثُ قالَ هُناكَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] ثُمَّ قالَ: ﴿ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ [العلق: ٣، ٤] فَقَدَّمَ الخَلْقَ عَلى التَّعْلِيمِ ؟ نَقُولُ: في تِلْكَ السُّورَةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَعْلِيمِ القُرْآنِ فَهو كالتَّعْلِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ في هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما المُرادُ مِنَ الإنْسانِ ؟ نَقُولُ: هو الجِنْسُ، وقِيلَ: المُرادُ مُحَمَّدٌ ﷺ، وقِيلَ: المُرادُ آدَمُ والأوَّلُ أصَحُّ نَظَرًا إلى اللَّفْظِ في (خَلَقَ) ويَدْخُلُ فِيهِ مُحَمَّدٌ وآدَمُ وغَيْرُهُما مِنَ الأنْبِياءِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ما البَيانُ وكَيْفَ تَعْلِيمُهُ ؟ نَقُولُ: مِنَ المُفَسِّرِينَ مَن قالَ: البَيانُ المَنطِقُ فَعَلَّمَهُ ما يَنْطِقُ بِهِ ويَفْهَمُ غَيْرُهُ ما عِنْدَهُ، فَإنَّ بِهِ يَمْتازُ الإنْسانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَواناتِ، وقَوْلُهُ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ إشارَةٌ إلى تَقْدِيرِ خَلْقِ جِسْمِهِ الخاصِّ، و﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ إشارَةٌ إلى تَمَيُّزِهِ بِالعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ. وقَدْ خَرَجَ ما ذَكَرْنا أوَّلًا أنَّ البَيانَ هو القُرْآنُ، وأعادَهُ لِيُفَصِّلَ ما ذَكَرَهُ إجْمالًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ كَما قُلْنا في المِثالِ حَيْثُ يَقُولُ القائِلُ: عَلَّمْتُ فُلانًا الأدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وعَلى هَذا فالبَيانُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ ما فِيهِ المَصْدَرُ، وإطْلاقُ البَيانِ بِمَعْنى القُرْآنِ عَلى القُرْآنِ في القُرْآنِ كَثِيرٌ، قالَ تَعالى: ﴿هَذا بَيانٌ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١٣٨] وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى القُرْآنَ فُرْقانًا وبَيانًا، والبَيانُ فُرْقانٌ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فَصَحَّ إطْلاقُ البَيانِ، وإرادَةُ القُرْآنِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: كَيْفَ صَرَّحَ بِذِكْرِ المَفْعُولَيْنِ في عِلْمِهِ البَيانَ ولَمْ يُصَرِّحْ بِهِما في عِلْمِ القُرْآنِ نَقُولُ: أما إنْ قُلْنا: إنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ عَلَّمَ القُرْآنَ هو أنَّهُ عَلَّمَ الإنْسانَ القُرْآنَ، فَنَقُولُ حَذَفَهُ لِعِظَمِ نِعْمَةِ التَّعْلِيمِ وقَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلى مَن عَلَّمَهُ وعَلى بَيانِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ بَيانَ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيمِ القُرْآنِ، فَقالَ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ﴾ وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ، وأمّا إنْ قُلْنا: المُرادُ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ المَلائِكَةَ فَلِأنَّ المَقْصُودَ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلى الإنْسانِ ومُطالَبَتُهُ بِالشُّكْرِ ومَنعُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ، وتَعْلِيمُهُ لِلْمَلائِكَةِ لا يَظْهَرُ لِلْإنْسانِ أنَّهُ فائِدَةٌ راجِعَةٌ إلى الإنْسانِ، وأمّا تَعْلِيمُ الإنْسانِ فَهي نِعْمَةٌ ظاهِرَةٌ، فَقالَ: ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ أيْ عَلَّمَ الإنْسانَ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ عَلَيْهِ ومِثْلُ هَذا قالَ في: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: ١] قالَ مَرَّةً: ﴿عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ [العلق: ١] مِن غَيْرِ بَيانِ المُعَلَّمِ، ثُمَّ قالَ مَرَّةً أُخْرى: ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٤] وهو البَيانُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ اللُّغاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ حَصَلَ العِلْمُ بِها بِتَعْلِيمِ اللَّهِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["ٱلرَّحۡمَـٰنُ","عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ","خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ","عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ"],"ayah":"خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق