الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وخَلَقَ الجانَّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ وفي الجانِّ وجْهانِ: أحَدُهُما: هو أبُو الجِنِّ كَما أنَّ الإنْسانَ المَذْكُورَ هُنا هو أبُو الإنْسِ وهو آدَمُ. ثانِيهِما: هو الجِنُّ بِنَفْسِهِ، فالجانُّ والجِنُّ وصْفانِ مِن بابٍ واحِدٍ، كَما يُقالُ: مِلْحٌ ومالِحٌ، أوْ نَقُولُ الجِنُّ اسْمُ الجِنْسِ كالمِلْحِ والجانُّ مِثْلُ الصِّفَةِ كالمالِحِ. وفِيهِ بَحْثٌ: وهو أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: جُنَّ الرَّجُلُ ولا يُعْلَمُ لَهُ فاعِلٌ يُبْنى الفِعْلُ مَعَهُ عَلى المَذْكُورِ، وأصْلُ ذَلِكَ جَنَّهُ الجانُّ فَهو مَجْنُونٌ، فَلا يُذْكَرُ الفاعِلُ لِعَدَمِ العِلْمِ بِهِ، ويُقْتَصَرُ عَلى قَوْلِهِمْ: جُنَّ فَهو مَجْنُونٌ، ويَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ القائِلَ الأوَّلَ لا يَقُولُ: الجانُّ اسْمُ عَلَمٍ؛ لِأنَّ الجانَّ لِلْجِنِّ كَآدَمَ لَنا، وإنَّما يَقُولُ بِأنَّ المُرادَ مِنَ الجانِّ أبُوهم، كَما أنَّ المُرادَ مِنَ الإنْسانِ أبُونا آدَمُ، فالأوَّلُ مِنّا خُلِقَ مِن صَلْصالٍ، ومَن بَعْدَهُ خُلِقَ مِن صُلْبِهِ، كَذَلِكَ الجِنُّ الأوَّلُ خُلِقَ مِن نارٍ، ومَن بَعْدَهُ مِن ذُرِّيَّتِهِ خُلِقَ مِن مارِجٍ، والمارِجُ المُخْتَلِطُ ثُمَّ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ المارِجَ هو النّارُ المَشُوبَةُ بِدُخانٍ. والثّانِي: النّارُ الصّافِيَةُ. والثّانِي أصَحُّ مِن حَيْثُ اللَّفْظِ والمَعْنى، أمّا اللَّفْظُ: فَلِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿مِن مارِجٍ مِن نارٍ﴾ أيْ نارٍ مارِجَةٍ، وهَذا كَقَوْلِ القائِلِ: هو مَصُوغٌ مِن ذَهَبٍ، فَإنَّ قَوْلَهُ مِن ذَهَبٍ فِيهِ بَيانُ تَناسُبِ الأخْلاطِ، فَيَكُونُ المَعْنى الكُلُّ مِن ذَهَبٍ غَيْرَ أنَّهُ يَكُونُ أنْواعًا مُخْتَلِفَةً مُخْتَلِطَةً بِخِلافِ ما إذا قُلْتَ: هَذا قَمْحٌ مُخْتَلِطٌ فَلَكَ أنْ تَقُولَ: مُخْتَلِطٌ بِماذا ؟ فَيَقُولُ: مِن كَذا وكَذا، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: مِن قَمْحٍ وكانَ مِنهُ ومِن غَيْرِهِ أيْضًا لَكانَ اقْتِصارُهُ عَلَيْهِ مُخْتَلِطًا بِما طُلِبَ مِنَ البَيانِ. وأمّا المَعْنى: فَلَأنَّهُ تَعالى كَما قالَ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن صَلْصالٍ﴾ أيْ مِن طِينٍ حَرٍّ، كَذَلِكَ بَيَّنَ أنَّ خَلْقَ الجانِّ مِن نارٍ خالِصَةٍ فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: ﴿مارِجٍ﴾ بِمَعْنى مُخْتَلَطٍ مَعَ أنَّهُ خالِصٌ ؟ نَقُولُ: النّارُ إذا قَوِيَتِ التَهَبَتْ، ودَخَلَ بَعْضُها في بَعْضٍ كالشَّيْءِ المُمْتَزِجِ امْتِزاجًا جَيِّدًا لا تُمَيِّزُ فِيهِ بَيْنَ الأجْزاءِ المُخْتَلِطَةِ، وكَأنَّهُ مِن حَقِيقَةٍ واحِدَةٍ كَما في الطِّينِ المُخْتَمِرِ، وذَلِكَ يَظْهَرُ في التَّنُّورِ المَسْجُورِ، إنْ قَرُبَ مِنهُ الحَطَبُ تَحْرِقُهُ فَكَذَلِكَ ”مارِجٌ“ بَعْضُها بِبَعْضٍ لا يُعْقَلُ بَيْنَ أجْزائِها دُخانٌ وأجْزاءٌ أرْضِيَّةٌ، وسَنُبَيِّنُ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ فَإنْ قِيلَ: المَقْصُودُ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلى الإنْسانِ، فَما وجْهُ بَيانِ خَلْقِ الجانِّ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: ما بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: (رَبُّكُما) خِطابٌ مَعَ الإنْسِ والجِنِّ يُعَدِّدُ عَلَيْهِما النِّعَمَ بَلْ عَلى الإنْسانِ وحْدَهُ. ثانِيها: أنَّهُ بَيانُ فَضْلِ اللَّهِ تَعالى عَلى الإنْسانِ، حَيْثُ بَيَّنَ أنَّهُ خُلِقَ مِن أصْلٍ كَثِيفٍ كَدِرٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن أصْلٍ لَطِيفٍ، وجُعِلَ الإنْسانُ أفْضَلَ مِنَ الجانِّ، فَإنَّهُ إذا نَظَرَ إلى أصْلِهِ، عَلِمَ أنَّهُ ما نالَ الشَّرَفَ إلّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى، فَكَيْفَ يُكَذِّبُ بِآلاءِ اللَّهِ. ثالِثُها: أنَّ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ لِبَيانِ القُدْرَةِ لا لِبَيانِ النِّعْمَةِ، وكَأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ النِّعَمَ الثَّمانِيَةَ الَّتِي ذَكَرَها في أوَّلِ السُّورَةِ، فَكَأنَّهُ ذَكَرَ الثَّمانِيَةَ لِبَيانِ خُرُوجِها عَنِ العَدَدِ الكَثِيرِ الَّذِي هو سَبْعَةٌ ودُخُولُها في الزِّيادَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْها الثَّمانِيَةُ كَما بَيَّنّا وقُلْنا إنَّ العَرَبَ عِنْدَ الثّامِنِ تَذْكُرُ الواوَ إشارَةً إلى أنَّ الثّامِنَ مِن جِنْسٍ آخَرَ، فَبَعْدَ تَمامِ السَّبْعَةِ الأُوَلِ (p-٨٨)شَرَعَ في بَيانِ قُدْرَتِهِ الكامِلَةِ، وقالَ: هو الَّذِي خَلَقَ الإنْسانَ مِن تُرابٍ والجانَّ مِن نارٍ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما﴾ الكَثِيرَةِ المَذْكُورَةِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَ السَّبْعَةِ، والَّتِي دَلَّتْ عَلَيْها الثّامِنَةُ: (تُكَذِّبانِ) وإذا نَظَرْتَ إلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّمانِيَةُ وإلى قَوْلِهِ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ يَظْهَرُ لَكَ صِحَّةَ ما ذُكِرَ أنَّهُ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ وعَظَمَتَهُ. ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأيِّ تِلْكَ الآلاءِ الَّتِي عَدَدْتُها أوَّلًا تُكَذِّبانِ، وسَنَذْكُرُ تَمامَهُ عِنْدَ تِلْكَ الآياتِ. * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: أوَّلُها: مَشْرِقُ الشَّمْسِ والقَمَرِ ومَغْرِبُهُما، والبَيانُ حِينَئِذٍ في حُكْمِ إعادَةِ ما سَبَقَ مَعَ زِيادَةٍ، لِأنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿الشَّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ﴾ دَلَّ عَلى أنَّ لَهُما مَشْرِقَيْنِ ومَغْرِبَيْنِ، ولَمّا ذَكَرَ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ دَلَّ عَلى أنَّهُ مَخْلُوقٌ مِن شَيْءٍ فَبَيَّنَ أنَّهُ الصَّلْصالُ. الثّانِي: مَشْرِقُ الشِّتاءِ ومَشْرِقُ الصَّيْفِ. فَإنْ قِيلَ: ما الحِكْمَةُ في اخْتِصاصِهِما مَعَ أنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ ومَغْرِبٌ يُخالِفُ بَعْضُها البَعْضَ ؟ نَقُولُ: غايَةُ انْحِطاطِ الشَّمْسِ في الشِّتاءِ وغايَةُ ارْتِفاعِها في الصَّيْفِ، والإشارَةُ إلى الطَّرَفَيْنِ تَتَناوَلُ ما بَيْنَهُما، فَهو كَما يَقُولُ القائِلُ في وصْفِ مَلِكٍ عَظِيمٍ لَهُ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ، ويُفْهَمُ أنَّ لَهُ ما بَيْنَهُما أيْضًا. الثّالِثُ: التَّثْنِيَةُ إشارَةٌ إلى النَّوْعَيْنِ الحاصِرَيْنِ كَما بَيَّنّا أنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإنَّهُ يَنْحَصِرُ في قِسْمَيْنِ، فَكَأنَّهُ قالَ: رَبُّ مَشْرِقِ الشَّمْسِ ومَشْرِقِ غَيْرِها، فَهُما مَشْرِقانِ فَتَناوَلَ الكُلَّ، أوْ يُقالُ: مَشْرِقُ الشَّمْسِ والقَمَرِ وما يَفْرِضُ إلَيْهِما العاقِلُ مِن مَشْرِقِ غَيْرِهِما فَهو تَثْنِيَةٌ في مَعْنى الجَمْعِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ﴾ ﴿بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها فَنَقُولُ: لَمّا ذَكَرَ تَعالى المَشْرِقَ والمَغْرِبَ وهُما حَرَكَتانِ في الفَلَكِ ناسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ البَحْرَيْنِ لِأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ يَجْرِيانِ في الفَلَكِ كَما يَجْرِي الإنْسانُ في البَحْرِ قالَ تَعالى: ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] فَذَكَرَ البَحْرَيْنِ عَقِيبَ المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ، ولِأنَّ المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ فِيهِما إشارَةٌ إلى البَحْرِ لِانْحِصارِ البَرِّ والبَحْرِ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، لَكِنَّ البَرَّ كانَ مَذْكُورًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والأرْضَ وضَعَها﴾ [الرحمن: ١٠] فَذَكَرَ هَهُنا ما لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”مَرَجَ“، إذا كانَ مُتَعَدِّيًا كانَ بِمَعْنى خَلَطَ أوْ ما يَقْرُبُ مِنهُ، فَكَيْفَ قالَ تَعالى: ﴿مِن مارِجٍ مِن نارٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ: مِن مَمْرُوجٍ ؟ نَقُولُ: مَرَجَ مُتَعَدٍّ ومَرِجَ بِكَسْرِ الرّاءِ لازِمٌ، فالمارِجُ والمَرِيجُ مِن مَرِجَ يَمْرَجُ كَفَرِحَ يَفْرَحُ، والأصْلُ في فَعَلَ أنْ يَكُونَ غَرِيزِيًّا، والأصْلُ في الغَرِيزِيِّ أنْ يَكُونَ لازِمًا، ويَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الغَرِيزِيِّ، وكَذَلِكَ فَعَلَ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في البَحْرَيْنِ وُجُوهٌ: أحَدُها: بَحْرُ الأرْضِ. ثانِيها: البَحْرُ الحُلْوُ والبَحْرُ المالِحُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما يَسْتَوِي البَحْرانِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ [فاطر: ١٢] وهو أصَحُّ وأظْهَرُ مِنَ (p-٨٩)الأوَّلِ. ثالِثُها: ما ذُكِرَ في المَشْرِقَيْنِ وفي قَوْلِهِ: (تُكَذِّبانِ) أنَّهُ إشارَةٌ إلى النَّوْعَيْنِ الحاصِرَيْنِ فَدَخَلَ فِيهِ بَحْرُ السَّماءِ وبَحْرُ الأرْضِ والبَحْرُ العَذْبُ والبَحْرُ المالِحُ، رابِعُها: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ في الأرْضِ بِحارًا تُحِيطُ بِها الأرْضُ وبِبَعْضِ جَزائِرِها يُحِيطُ الماءُ، وخَلَقَ بَحْرًا مُحِيطًا بِالأرْضِ وعَلَيْهِ الأرْضُ وأحاطَ بِهِ الهَواءَ، كَما قالَ بِهِ أصْحابُ عِلْمِ الهَيْئَةِ ووَرَدَ بِهِ أخْبارٌ مَشْهُورَةٌ، وهَذِهِ البِّحارُ الَّتِي في الأرْضِ لَها اتِّصالٌ بِالبَحْرِ المُحِيطِ، ثُمَّ إنَّهُما لا يَبْغِيانِ عَلى الأرْضِ ولا يُغَطِّيانِها بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى لِتَكُونَ الأرْضُ بارِزَةً يَتِّخَذُها الإنْسانُ مَكانًا، وعِنْدَ النَّظَرِ إلى أمْرِ الأرْضِ يَحارُ الطَّبِيعِيُّ ويَتَلَجْلَجُ في الكَلامِ، فَإنَّ عِنْدَهم مَوْضِعُ الأرْضِ بِطَبْعِهِ أنْ يَكُونَ في المَرْكَزِ، ويَكُونُ الماءُ مُحِيطًا بِجَمِيعِ جَوانِبِهِ، فَإذا قِيلَ لَهم: فَكَيْفَ ظَهَرَتِ الأرْضُ مِنَ الماءِ ولَمْ تَرْسُبْ ؟ يَقُولُونَ: لِانْجِذابِ البِحارِ إلى بَعْضِ جَوانِبِها، فَإنْ قِيلَ: لِماذا انْجَذَبَ ؟ فالَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ قَلِيلٌ مِنَ العَقْلِ يَرْجِعُ إلى الحَقِّ ويَجْعَلُهُ بِإرادَةِ اللَّهِ تَعالى ومَشِيئَتِهِ، والَّذِي يَكُونُ عَدِيمَ العَقْلِ يَجْعَلُ سَبَبَهُ مِنَ الكَواكِبِ وأوْضاعِها واخْتِلافِ مُقابَلاتِها، ويَنْقَطِعُ في كُلِّ مَقامٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، وفي آخِرِ الأمْرِ إذا قِيلَ لَهُ: أوْضاعُ الكَواكِبِ لِمَ اخْتَلَفَتْ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أوْجَبَ البَرْدَ في بَعْضِ الأرْضِ دُونَ بَعْضٍ آخَرَ صارَ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] ويَرْجِعُ إلى الحَقِّ إنْ هَداهُ اللَّهُ تَعالى. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إذا كانَ المَرَجُ بِمَعْنى الخَلْطِ فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَلْتَقِيانِ﴾ ؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ أيْ أرْسَلَ بَعْضَهُما في بَعْضٍ وهُما عِنْدَ الإرْسالِ بِحَيْثُ يَلْتَقِيانِ أوْ مِن شَأْنِهِما الِاخْتِلاطُ والِالتِقاءُ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى مَنَعَهُما عَمّا في طَبْعِهِما، وعَلى هَذا يَلْتَقِيانِ حالٌ مِنَ البَحْرَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: مِن مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُما تَرْكُهُما، فَهُما يَلْتَقِيانِ إلى الآنَ ولا يَمْتَزِجانِ، وعَلى الأوَّلِ: فالفائِدَةُ إظْهارُ القُدْرَةِ في النَّفْعِ، فَإنَّهُ إذا أرْسَلَ الماءَيْنِ بَعْضَهُما عَلى بَعْضٍ وفي طَبْعِهِما بِخَلْقِ اللَّهِ وعادَتُهُ السَّيَلانُ والِالتِقاءُ ويَمْنَعُهُما البَرْزَخُ الَّذِي هو قُدْرَةُ اللَّهِ أوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، يَكُونُ أدَلَّ عَلى القُدْرَةِ مِمّا إذا لَمْ يَكُونا عَلى حالِ يَلْتَقِيانِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى مَسْألَةٍ حِكْمِيَّةٍ وهي: أنَّ الحُكَماءَ المُحَقِّقِينَ ذَلِكَ بِإجْراءِ اللَّهِ تَعالى ذَلِكَ عَلَيْهِ وعِنْدَ مَن يَدَّعِي الحِكْمَةَ ولَمْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ بِطَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَلْتَقِيانِ﴾ أيْ مِن شَأْنِهِما أنْ يَكُونَ مَكانُهُما واحِدًا، ثُمَّ إنَّهُما بَقِيا في مَكانٍ مُتَمَيِّزَيْنِ فَذَلِكَ بُرْهانُ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ. وعَلى الوَجْهِ الثّانِي: الفائِدَةُ في بَيانِ القُدْرَةِ أيْضًا عَلى المَنعِ مِنَ الِاخْتِلاطِ، فَإنَّ الماءَيْنِ إذا تَلاقَيا لا يَمْتَزِجانِ في الحالِ بَلْ يَبْقَيانِ زَمانًا يَسِيرًا كالماءِ المُسَخَّنِ إذا غُمِسَ إناءٌ مَمْلُوءٌ مِنهُ في ماءٍ بارِدٍ إنْ لَمْ يَمْكُثْ فِيهِ زَمانًا لا يَمْتَزِجُ بِالبارِدِ، لَكِنْ إذا دامَ مُجاوَرَتُهُما فَلا بُدَّ مِنَ الِامْتِزاجِ فَقالَ تَعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ خَلّاهُما ذَهابًا إلى أنْ يَلْتَقِيا ولا يَمْتَزِجا فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ﴾ إشارَةً إلى ما ذَكَرْنا مِن مَنعِهِ إيّاهُما مِنَ الجَرَيانِ عَلى عادَتِهِما، والبَرْزَخُ الحاجِزُ وهو قُدْرَةُ اللَّهِ تَعالى في البَعْضِ وبِقُدْرَةِ اللَّهِ في الباقِي، فَإنَّ البَحْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُما حاجِزٌ أرْضِيٌّ مَحْسُوسٌ وقَدْ لا يَكُونُ، وقَوْلُهُ: ﴿لا يَبْغِيانِ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِنَ البَغْيِ أيْ لا يَظْلِمُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بِخِلافِ قَوْلِ الطَّبِيعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: الماءانِ كِلاهُما جُزْءٌ واحِدٌ، فَقالَ: هُما لا يَبْغِيانِ ذَلِكَ. وثانِيهِما: أنْ يُقالَ: لا يَبْغِيانِ مِنَ البَغْيِ بِمَعْنى الطَّلَبِ أيْ لا يَطْلُبانِ شَيْئًا، وعَلى هَذا فَفِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهُو أنْ يُقالَ: إنَّ يَبْغِيانِ لا مَفْعُولَ لَهُ مُعَيَّنٌ، بَلْ هو بَيانُ أنَّهُما لا يَبْغِيانِ في ذاتِهِما ولا يَطْلُبانِ شَيْئًا أصْلًا، بِخِلافِ ما يَقُولُ الطَّبِيعِيُّ: إنَّهُ يَطْلُبُ الحَرَكَةَ والسُّكُونَ في مَوْضِعٍ عَنْ مَوْضِعٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب