الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مُهْطِعِينَ إلى الدّاعِي﴾ أيْ: مُسْرِعِينَ إلَيْهِ انْقِيادًا ﴿يَقُولُ الكافِرُونَ هَذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ النّاصِبُ لِيَوْمٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُو الدّاعِي﴾ أيْ: يَوْمَ يَدْعُو الدّاعِي: ﴿يَقُولُ الكافِرُونَ هَذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾، وفِيهِ فائِدَتانِ. إحْداهُما: تَنْبِيهُ المُؤْمِنِ أنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ عَلى الكافِرِ عَسِيرٌ فَحَسْبُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ ﴿عَلى الكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: ٩، ١٠] يَعْنِي لَهُ عُسْرٌ لا يُسْرَ مَعَهُ. ثانِيَتُهُما: هي أنَّ الأمْرَيْنِ مُتَّفِقانِ مُشْتَرِكانِ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ، فَإنَّ الخُرُوجَ مِنَ الأجْداثِ كَأنَّهم جَرادٌ، والِانْقِطاعُ إلى الدّاعِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَخافُ ولا يَأْمَنُ العَذابَ إلّا بِإيمانِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ الثَّوابَ فَيَبْقى الكافِرُ فَيَقُولُ: ﴿هَذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ . ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أعادَ بَعْضَ الأنْباءِ فَقالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وقالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ﴾ فِيها تَهْوِينٌ وتَسْلِيَةٌ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإنَّ حالَهُ كَحالِ مَن تَقَدَّمَهُ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إلْحاقُ ضَمِيرِ المُؤَنَّثِ بِالفِعْلِ قَبْلَ ذِكْرِ الفاعِلِ جائِزٌ بِالِاتِّفاقِ وحَسَنٌ، وإلْحاقُ ضَمِيرِ الجَمْعِ بِهِ قَبِيحٌ عِنْدَ الأكْثَرِينَ، فَلا يُجَوِّزُونَ كَذَّبُوا قَوْمَ نُوحٍ، ويُجَوِّزُونَ كَذَّبَتْ فَما الفَرْقُ ؟ نَقُولُ: التَّأْنِيثُ قَبْلَ الجَمْعِ؛ لِأنَّ الأُنُوثَةَ والذُّكُورَةَ لِلْفاعِلِ أمْرٌ لا يَتَبَدَّلُ ولَمْ تَحْصُلِ الأُنُوثَةُ لِلْفاعِلِ بِسَبَبِ فِعْلِها الَّذِي هو فاعِلُهُ فَلَيْسَ إذا قُلْنا: ضَرَبَتْ هَذِهِ كانَتْ هَذِهِ أُنْثى لِأجْلِ الضَّرْبِ بِخِلافِ الجَمْعِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ لِلْفاعِلِينَ بِسَبَبِ فِعْلِهِمُ الَّذِي هم فاعِلُوهُ، فَإنّا إذا قُلْنا: جَمْعٌ ضَرَبُوا وهم ضارِبُونَ لَيْسَ مُجَرَّدُ اجْتِماعِهِمْ في الوُجُودِ يُصَحِّحُ قَوْلَنا: ضَرَبُوا وهم ضارِبُونَ؛ لِأنَّهم إنِ اجْتَمَعُوا في مَكانٍ فَهم جَمْعٌ، ولَكِنْ إنْ لَمْ يَضْرِبِ الكُلُّ لا يَصِحُّ قَوْلُنا: ضَرَبُوا، فَضَمِيرُ الجَمْعِ مِنَ الفِعْلِ فاعِلُونَ جَمَعَهم بِسَبَبِ الِاجْتِماعِ في الفِعْلِ والفاعِلِيَّةِ، ولَيْسَ بِسَبَبِ الفِعْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ: ضَرَبُوا جَمْعٌ؛ لِأنَّ الجَمْعَ لَمْ يُفْهَمْ إلّا بِسَبَبِ أنَّهم ضَرَبُوا جَمِيعُهم، فَيَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أوَّلًا اجْتِماعُهم في الفِعْلِ، فَيَقُولُ: الضّارِبُونَ ضَرَبُوا، وأمّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ فَصَحِيحٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: التَّأْنِيثُ لَمْ يُفْهَمْ إلّا بِسَبَبِ (p-٣٢)أنَّها ضَرَبَتْ، بَلْ هي كانَتْ أُنْثى فَوُجِدَ مِنها ضَرْبٌ فَصارَتْ ضارِبَةً، ولَيْسَ الجَمْعُ كانُوا جَمْعًا فَضَرَبُوا فَصارُوا ضارِبِينَ، بَلْ صارُوا ضارِبِينَ لِاجْتِماعِهِمْ في الفِعْلِ؛ ولِهَذا ورَدَ الجَمْعُ عَلى اللَّفْظِ بَعْدَ وُرُودِ التَّأْنِيثِ عَلَيْهِ فَقِيلَ: ضارِبَةٌ وضارِباتٌ ولَمْ يُجْمَعِ اللَّفْظُ أوَّلًا لِأُنْثى ولا لِذَكَرٍ، ولِهَذا لَمْ يَحْسُنْ أنْ يُقالَ: ضَرَبَ هِنْدٌ، وحَسُنَ بِالإجْماعِ ضَرَبَ قَوْمٌ والمُسْلِمُونَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿كَذَّبَتْ﴾ ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ﴾ أيْ بِآياتِنا وآيَةِ الِانْشِقاقِ فَكَذَّبُوا. الثّانِي ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥] وقالُوا: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا وكَذَّبُوهم في التَّوْحِيدِ ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ كَما كَذَّبُوا غَيْرَهُ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْمَ نُوحٍ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، ومَن يَعْبُدِ الأصْنامَ يُكَذِّبْ كُلَّ رَسُولٍ ويُنْكِرِ الرِّسالَةَ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: لا تَعَلُّقَ لِلَّهِ بِالعالَمِ السُّفْلِيِّ وإنَّما أمْرُهُ إلى الكَواكِبِ فَكانَ مَذْهَبُهُمُ التَّكْذِيبَ فَكَذَّبُوا. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ لِلتَّصْدِيقِ والرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْدِيرُهُ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وكانَ تَكْذِيبُهم عَبْدَنا أيْ: لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا بِحَقٍّ كَما يَقُولُ القائِلُ: كَذَّبَنِي فَكَذَّبَ صادِقًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: كَثِيرًا ما يَخُصُّ اللَّهُ الصّالِحِينَ بِالإضافَةِ إلى نَفْسِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي﴾ [الحجر: ٤٢] ﴿ياعِبادِ﴾ [الزخرف: ٦٨]، ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا﴾ [ص: ٤١] ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا﴾ [الصافات: ١٣٢] وكُلُّ واحِدٍ عَبْدُهُ فَما السِّرُّ فِيهِ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ. الأوَّلُ: ما قِيلَ في المَشْهُورِ أنَّ الإضافَةَ إلَيْهِ تَشْرِيفٌ مِنهُ فَمَن خَصَّصَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدَهُ شُرِّفَ وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ناقَةَ اللَّهِ﴾ [الشمس: ١٣] . الثّانِي: المُرادُ مِن عَبْدِنا أيِ: الَّذِي عَبَدَنا فالكُلُّ عِبادٌ؛ لِأنَّهم مَخْلُوقُونَ لِلْعِبادَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] لَكِنْ مِنهم مَن عَبَدَ فَحَقَّقَ المَقْصُودَ فَصارَ عَبْدَهُ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُونُوا عِبادًا لِي﴾ [آل عمران: ٧٩] أيْ حَقِّقُوا المَقْصُودَ. الثّالِثُ: الإضافَةُ تُفِيدُ الحَصْرَ فَمَعْنى ”عَبْدَنا“ هو الَّذِي لَمْ يَقُلْ بِمَعْبُودِ سِوانا، ومَنِ اتَّبَعَ هَواهُ فَقَدِ اتَّخَذَ إلَهًا فالعَبْدُ المُضافُ هو الَّذِي بِكُلِّيَّتِهِ في كُلِّ وقْتٍ لِلَّهِ، فَأكْلُهُ وشُرْبُهُ وجَمِيعُ أُمُورِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى وقَلِيلٌ ما هم. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ما الفائِدَةُ في اخْتِيارِ لَفْظِ العَبْدِ مَعَ أنَّهُ لَوْ قالَ رَسُولُنا لَكانَ أدَلَّ عَلى قُبْحِ فِعْلِهِمْ ؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ ”عَبْدَنا“ أدُلُّ عَلى صِدْقِهِ وقُبْحِ تَكْذِيبِهِمْ مِن قَوْلِهِ ”رَسُولَنا“ لَوْ قالَهُ؛ لَأنَّ العَبْدَ أقَلُّ تَحْرِيفًا لِكَلامِ السَّيِّدِ مِنَ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ ﴿لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٦] . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا مَجْنُونٌ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ أتى بِالآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِهِ حَيْثُ رَأوْا ما عَجَزُوا مِنهُ، وقالُوا: هو مُصابُ الجِنِّ، أوْ هو لِزِيادَةِ بَيانِ قُبْحِ صُنْعِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقْنَعُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهُ كاذِبٌ، بَلْ قالُوا: مَجْنُونٌ، أيْ يَقُولُ ما لا يَقْبَلُهُ عاقِلٌ، والكاذِبُ العاقِلُ يَقُولُ ما يَظُنُّ بِهِ أنَّهُ صادِقٌ فَقالُوا: ﴿مَجْنُونٌ﴾ أيْ يَقُولُ ما لَمْ يَقُلْ بِهِ عاقِلٌ، فَبَيَّنَ مُبالَغَتَهم في التَّكْذِيبِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ﴿وازْدُجِرَ﴾ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى أوْ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ، نَقُولُ: فِيهِ خِلافٌ، مِنهم مَن قالَ: إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى وهو عَطْفٌ عَلى كَذَّبُوا، وقالُوا: أيْ هم كَذَّبُوا وهو ”ازْدُجِرَ“ أيْ أُوذِيَ وزُجِرَ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُذِّبُوا وأُوذُوا﴾ [الأنعام: ٣٤] وعَلى هَذا إنْ قِيلَ: لَوْ قالَ: كَذَّبُوا عَبْدَنا وزَجَرُوهُ كانَ الكَلامُ أكْثَرَ مُناسَبَةً، (p-٣٣)نَقُولُ: لا بَلْ هَذا أبْلَغُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ تَقْوِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ بِذِكْرِ مَن تَقَدَّمَهُ فَقالَ: وازْدُجِرَ أيْ فَعَلُوا ما يُوجِبُ الِانْزِجارَ مِن دُعائِهِمْ حَتّى تَرَكَ دَعْوَتَهم وعَدَلَ عَنِ الدُّعاءِ إلى الإيمانِ إلى الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ، ولَوْ قالَ: زَجَرُوهُ ما كانَ يُفِيدُ أنَّهُ تَأذّى مِنهم؛ لِأنَّ في السَّعَةِ يُقالُ: آذَوْنِي ولَكِنْ ما تَأذَّيْتُ، وأمّا أُوذِيتُ فَهو كاللّازِمِ لا يُقالُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الفِعْلِ لا قَبْلَهُ، ومِنهم مَن قالَ: ﴿وازْدُجِرَ﴾ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ أيْ: هم قالُوا: ازْدُجِرَ، تَقْدِيرُهُ قالُوا: مَجْنُونٌ مُزْدَجَرٌ، ومَعْناهُ: ازْدَجَرَهُ الجِنُّ أوْ كَأنَّهم قالُوا: جُنَّ وازْدُجِرَ، والأوَّلُ أصَحُّ ويُتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب