ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُولَئِكم أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ تَنْبِيهًا لَهم؛ لِئَلّا يَأْمَنُوا العَذابَ فَإنَّهم لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِن أُولَئِكَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الخِطابُ مَعَ أهْلِ مَكَّةَ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كُفّارُهم بَعْضَهم وإلّا لَقالَ: أنْتُمْ خَيْرٌ مِن أُوْلَئِكم، وإذا كانَ كُفّارُهم بَعْضَهم فَكَيْفَ قالَ: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ﴾ ولَمْ يَقُلْ لَهم كَما يَقُولُ القائِلُ: جاءَنا الكُرَماءُ فَأكْرَمْناهم، ولا يَقُولُ: فَأكْرَمْناكم ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ مِنهُ أكُفّارُكُمُ المُسْتَمِرُّونَ عَلى الكُفْرِ الَّذِينَ لا يَرْجِعُونَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ جَمْعًا عَظِيمًا مِمَّنْ كانَ كافِرًا مِن أهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الخِطابِ أيْقَنُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ، والعَذابُ لا يَقَعُ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ القَوْمِ مَن يُؤْمِنُ فَقالَ: الَّذِينَ يُصِرُّونَ مِنكم عَلى الكُفْرِ يا أهْلَ مَكَّةَخَيْرٌ أمِ الَّذِينَ أصَرُّوا مِن قَبْلُ ؟ فَيَصِحُّ كَوْنُ التَّهْدِيدِ مَعَ بَعْضِهِمْ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أمْ لَكم لِعُمُومِكم بَراءَةٌ فَلا يَخافُ المُصِرُّ مِنكم لِكَوْنِهِ في قَوْمٍ لَهم بَراءَةٌ.
وثانِيهِما: أمْ لَكم بَراءَةٌ إنْ أصْرَرْتُمْ، فَيَكُونُ الخِطابُ عامًّا والتَّهْدِيدُ كَذَلِكَ، فالشَّرْطُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وهو الإصْرارُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما المُرادُ بِقَوْلِهِ: (خَيْرٌ)، وقَوْلُ القائِلِ: خَيْرٌ يَقْتَضِي اشْتِراكَ أمْرَيْنِ في صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ مَعَ رُجْحانِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ ولَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَيْرٌ ولا صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: مَنعُ اقْتِضاءِ الِاشْتِراكِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ حَسّانَ:
؎تَهْجُوهُ ولَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ
مَعَ اخْتِصاصِ الخَيْرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ والشَّرِّ بِمَن هَجاهُ وعَدَمِ اشْتِراكِهِما في شَيْءٍ مِنهُما.
ثانِيها: أنَّ ذَلِكَ عائِدٌ إلى ما في زَعْمِهِمْ، أيْ: أيَزْعُمُ كُفّارُكم أنَّهم خَيْرٌ مِنَ الكُفّارِ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وهم كانُوا يَزْعُمُونَ في أنْفُسِهِمُ الخَيْرَ، وكَذا فِيمَن تَقَدَّمَهم مِن عَبَدَةِ الأوْثانِ ومُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وكانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الهَلاكَ كانَ بِأسْبابٍ سَماوِيَّةٍ مِنِ اجْتِماعِ الكَواكِبِ عَلى هَيْئَةٍ مَذْمُومَةٍ.
ثالِثُها: المُرادُ: أكُفّارُكم أشَدُّ قُوَّةً، فَكَأنَّهُ قالَ: أكُفّارُكم خَيْرٌ في القُوَّةِ ؟ والقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ في العُرْفِ.
رابِعُها: أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ فَفِيهِ صِفاتٌ مَحْمُودَةٌ وأُخْرى غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، فَإذا نَظَرْتَ إلى المَحْمُودَةِ في المَوْضِعَيْنِ وقابَلْتَ إحْداهُما بِالأُخْرى، تَسْتَعْمِلُ فِيها لَفْظَ الخَيْرِ، وكَذَلِكَ في الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيها لَفْظُ الشَّرِّ. فَإذا نَظَرْتَ إلى كافِرَيْنِ وقُلْتَ: أحَدُهُما خَيْرٌ مِنَ الآخَرِ فَلَكَ حِينَئِذٍ أنْ تُرِيدَ: أحَدُهُما خَيْرٌ مِنَ الآخَرِ في الحُسْنِ والجَمالِ، وإذا نَظَرْتَ إلى مُؤْمِنَيْنِ يُؤْذِيانِكَ قُلْتَ: (p-٥٩)أحَدُهُما شَرٌّ مِنَ الآخَرِ، أيْ في الأذِيَّةِ لا الإيمانِ فَكَذَلِكَ هاهُنا أكُفّارُكم خَيْرٌ؛ لِأنَّ النَّظَرَ وقَعَ عَلى ما يَصْلُحُ مُخَلِّصًا لَهم مِنَ العَذابِ، فَهو كَما يُقالُ: أكُفّارُكم فِيهِمْ شَيْءٌ مِمّا يُخَلِّصُهم لَمْ يَكُنْ في غَيْرِهِمْ فَهم خَيْرٌ أمْ لا شَيْءَ فِيهِمْ يُخَلِّصُهم لَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ مِنهم لا يُخَلِّصُهم.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ﴾ إشارَةٌ إلى سَبَبٍ آخَرَ مِن أسْبابِ الخَلاصِ، وذَلِكَ لِأنَّ الخَلاصَ إمّا أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ أمْرٍ فِيهِمْ أوْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ بِسَبَبِ أمْرٍ فِيهِمْ وذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يَكُنْ في غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهم فَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنهم، وإنْ كانَ لا بِسَبَبِ أمْرٍ فِيهِمْ فَيَكُونُ بِفَضْلِ اللَّهِ ومُسامَحَتِهِ إيّاهم وإيمانِهِ إيّاهم مِنَ العَذابِ فَقالَ لَهم: أنْتُمْ خَيْرٌ مِنهم فَلا تَهْلِكُونَ أمْ لَسْتُمْ بِخَيْرٍ مِنهم لَكِنَّ اللَّهَ آمَنَكم وأهْلَكَهم وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُنْتَفٍ فَلا تَأْمَنُوا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ إشارَةٌ إلى لَطِيفَةٍ وهي أنَّ العاقِلَ لا يَأْمَنُ إلّا إذا حَصَلَ لَهُ الجَزْمُ بِالأمْنِ أوْ صارَ لَهُ آياتٌ تُقَرِّبُ الأمْرَ مِنَ القَطْعِ، فَقالَ: لَكم بَراءَةٌ يُوثَقُ بِها وتَكُونُ مُتَكَرِّرَةً في الكُتُبِ، فَإنَّ الحاصِلَ في بَعْضِ الكُتُبِ رُبَّما يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أوْ يَكُونُ قَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّحْرِيفُ والتَّبْدِيلُ كَما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَقالَ: هَلْ حَصَلَ لَكم بَراءَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ في كُتُبٍ تَأْمَنُونَ بِسَبَبِها العَذابَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لا يَجُوزُ الأمْنُ لَكِنَّ البَراءَةَ لَمْ تَحْصُلْ في كُتُبٍ ولا كِتابٍ واحِدٍ ولا شِبْهِ كِتابٍ، فَيَكُونُ أمْنُهم مِن غايَةِ الغَفْلَةِ وعِنْدَ هَذا تَبَيَّنَ فَضْلُ المُؤْمِنِ، فَإنَّهُ مَعَ ما في كِتابِ اللَّهِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ مِنَ الوَعْدِ لا يَأْمَنُ وإنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الأوْلِياءِ والأنْبِياءِ، لِما في آياتِ الوَعِيدِ مِنِ احْتِمالِ التَّخْصِيصِ، وكَوْنُ كُلِّ واحِدٍ مِمَّنْ يُسْتَثْنى مِنَ الأُمَّةِ ويَخْرُجُ عَنْها فالمُؤْمِنُ خائِفٌ والكافِرُ آمِنٌ في الدُّنْيا، وفي الآخِرَةِ الأمْرُ عَلى العَكْسِ.
{"ayah":"أَكُفَّارُكُمۡ خَیۡرࣱ مِّنۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَاۤءَةࣱ فِی ٱلزُّبُرِ"}