الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ وهو يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: وكَذَّبُوا مُحَمَّدًا المُخْبِرَ عَنِ اقْتِرابِ السّاعَةِ. وثانِيهِما: كَذَّبُوا بِالآيَةِ وهي انْشِقاقُ القَمَرِ، فَإنْ قُلْنا: كَذَّبُوا مُحَمَّدًا ﷺ فَقَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ أيْ تَرَكُوا الحُجَّةَ وأوَّلُوا الآياتِ وقالُوا: هو مَجْنُونٌ تُعِينُهُ الجِنُّ وكاهِنٌ يَقُولُ عَنِ النُّجُومِ ويَخْتارُ الأوْقاتَ لِلْأفْعالِ وساحِرٌ، فَهَذِهِ أهْواؤُهم. وإنْ قُلْنا: كَذَّبُوا بِانْشِقاقِ القَمَرِ، فَقَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ في أنَّهُ سَحَرَ القَمَرَ، وأنَّهُ خُسُوفٌ والقَمَرُ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَهَذِهِ أهْواؤُهم، وكَذَلِكَ قَوْلُهم في كُلِّ آيَةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: كُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ عَلى سُنَنِ الحَقِّ يَثْبُتُ والباطِلُ يَزْهَقُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ تَهْدِيدًا لَهم، وتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكم مَرْجِعُكم فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ [الأنعام: ١٦٤] (p-٢٩)أيْ بِأنَّها حَقٌّ. ثانِيها: وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٍّ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى: ﴿لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ٥] فَهم كَذَّبُوا واتَّبَعُوا أهْواءَهم، والأنْبِياءُ صَدَّقُوا وبَلَّغُوا ما جاءَهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَخْفى عَلى اللَّهِ مِنهم شَيْءٌ﴾ وكَما قالَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ﴾ ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٢، ٥٣] . ثالِثُها: هو جَوابُ قَوْلِهِمْ: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ أيْ لَيْسَ أمْرُهُ بِذاهِبٍ بَلْ كُلُّ أمْرٍ مِن أُمُورِهِ مُسْتَقِرٌّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ جاءَهم مِنَ الأنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ ما هو لُطْفٌ بِالعِبادِ قَدْ وُجِدَ، فَأخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِاقْتِرابِ السّاعَةِ، وأقامَ الدَّلِيلَ عَلى صِدْقِهِ وإمْكانِ قِيامِ السّاعَةِ عَقِيبَ دَعَواهُ بِانْشِقاقِ القَمَرِ الَّذِي هو آيَةٌ؛ لِأنَّ مَن يُكَذِّبُ بِها لا يُصَدِّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الآياتِ فَكَذَّبُوا بِها واتَّبَعُوا الأباطِيلَ الذّاهِبَةَ، وذَكَرُوا الأقاوِيلَ الكاذِبَةَ، فَذَكَرَ لَهم أنْباءَ المُهْلِكِينَ بِالآيَتَيْنِ تَخْوِيفًا لَهم، وهَذا هو التَّرْتِيبُ الحُكْمِيُّ، ولِهَذا قالَ بَعْدَ الآياتِ: ﴿حِكْمَةٌ بالِغَةٌ﴾ أيْ: هَذِهِ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، والأنْباءُ هي الأخْبارُ العِظامُ، ويَدُلُّكَ عَلى صِدْقِهِ أنَّ في القُرْآنِ لَمْ يَرِدِ النَّبَأُ والأنْباءُ إلّا لِما لَهُ وقْعٌ قالَ: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢] لِأنَّهُ كانَ خَبَرًا عَظِيمًا. وقالَ: ﴿إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات: ٦] أيْ: مُحارَبَةٌ أوْ مُسالَمَةٌ وما يُشْبِهُهُ مِنَ الأُمُورِ العُرْفِيَّةِ، وإنَّما يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ويَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أمْرٌ ذُو بالٍ، وكَذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] فَكَذَلِكَ الأنْباءُ هاهُنا، وقالَ تَعالى عَنْ مُوسى: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ﴾ [القصص: ٢٩] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَصْلُحُ أنْ يُقالَ لَهُ نَبَأٌ ولَمْ يَقْصِدْهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ أنْباءُ المُهْلِكِينَ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ، وقالَ بَعْضُهم: المُرادُ القُرْآنُ، وتَقْدِيرُهُ جاءَ فِيهِ الأنْباءُ، وقِيلَ قَوْلُهُ: ﴿جاءَهم مِنَ الأنْباءِ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ ما ورَدَ في القُرْآنِ مِنَ الزَّواجِرِ والمَواعِظِ وما ذَكَرْناهُ أظْهَرُ لِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ وفي: ”ما“ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّها مَوْصُولَةٌ أيْ جاءَكُمُ الَّذِي فِيهِ مُزْدَجَرٌ. ثانِيهِما: مَوْصُوفَةٌ، تَقْدِيرُهُ: ”جاءَكم مِنَ الأنْباءِ“ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِأنَّ فِيهِ مُزْدَجَرٌ وهَذا أظْهَرُ، والمُزْدَجَرُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما ازْدِجارٌ. وثانِيهِما مَوْضِعُ ازْدِجارٍ، كالمُرْتَقى، ولَفْظُ المَفْعُولِ بِمَعْنى المَصْدَرِ كَثِيرٌ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ هو المَفْعُولُ الحَقِيقِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب