الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَبَّحَهم بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ أيِ: العَذابُ الَّذِي عَمَّ القَوْمَ بَعْدَ الخاصِّ الَّذِي طَمَسَ أعْيُنَ البَعْضِ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الصُّبْحِ، فَما مَعْنى: ”بُكْرَةً“ ؟ نَقُولُ: فائِدَتُهُ تَبْيِينُ انْطِراقِهِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: (بُكْرَةً) يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّها مَنصُوبَةٌ عَلى أنَّها ظَرْفٌ، ومِثْلُهُ نَقُولُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] وفِيهِ بَحْثٌ، وهو أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قالَ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: (لِيلًا) وقالَ: جَوابًا في التَّنْكِيرِ دَلالَةً عَلى أنَّهُ كانَ في بَعْضِ اللَّيْلِ، وتَمَسَّكَ بِقِراءَةِ مَن قَرَأ: ”مِنَ اللَّيْلِ“ وهو غَيْرُ ظاهِرٍ، والأظْهَرُ فِيهِ أنْ يُقالَ: بِأنَّ الوَقْتَ المُبْهَمَ يُذْكَرُ لِبَيانِ أنَّ تَعْيِينَ الوَقْتِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ المُتَكَلِّمِ وأنَّهُ لا يُرِيدُ بَيانَهُ، كَما يَقُولُ: (p-٥٦)خَرَجْنا في بَعْضِ الأوْقاتِ، مَعَ أنَّ الخُرُوجَ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ في بَعْضِ الأوْقاتِ، فَإنَّهُ لا يُرِيدُ بَيانَ الوَقْتِ، ولَوْ قالَ: خَرَجْنا، فَرُبَّما يَقُولُ السّامِعُ: مَتى خَرَجْتُمْ، فَإذا قالَ: في بَعْضِ الأوْقاتِ أشارَ إلى أنَّ غَرَضَهُ بَيانُ الخُرُوجِ لا تَعْيِينُ وقْتِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿صَبَّحَهم بُكْرَةً﴾ أيْ: بُكْرَةً مِنَ البِكْرِ و﴿أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ أيْ لَيْلًا مِنَ اللَّيالِي فَلا أُبَيِّنُهُ، فَإنَّ المَقْصُودَ نَفْسُ الإسْراءِ، ولَوْ قالَ: أسْرى بِعَبْدِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، لَكانَ لِلسّامِعِ أنْ يَقُولَ: أيُّما لَيْلَةٍ ؟ فَإذا قالَ: لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيالِي قَطَعَ سُؤالَهُ وصارَ كَأنَّهُ قالَ: لا أُبَيِّنُهُ، وإنْ كانَ القائِلُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الجَهْلُ، فَإنَّهُ يَقُولُ: لا أعْلَمُ الوَقْتَ، فَهَذا أقْرَبُ، فَإذا عَلِمْتَ هَذا في أسْرى لَيْلًا، فاعْلَمْ مِثْلَهُ في: ﴿صَبَّحَهم بُكْرَةً﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: عَلى هَذا الوَجْهِ: ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ بِمَعْنى قالَ لَهم: عِمُوا صَباحًا اسْتِهْزاءً بِهِمْ، كَما قالَ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] فَكَأنَّهُ قالَ: جاءَهُمُ العَذابُ بُكْرَةً كالمُصَبِّحِ، والأوَّلُ أصَحُّ، ويُحْتَمَلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿صَبَّحَهم بُكْرَةً﴾ عَلى قَوْلِنا: إنَّها مَنصُوبَةٌ عَلى الظَّرْفِ ما لا يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ وهو أنَّ: ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ مَعْناهُ أتاهم وقْتَ الصُّبْحِ، لَكِنَّ التَّصْبِيحَ يُطْلَقُ عَلى الإتْيانِ في أزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مِن أوَّلِ الصُّبْحِ إلى ما بَعْدَ الإسْفارِ، فَإذا قالَ: (بُكْرَةً) أفادَ أنَّهُ كانَ أوَّلَ جُزْءٍ مِنهُ، وما أُخِّرَ إلى الأسْفارِ، وهَذا أوْجَهُ وألْيَقُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْعَدَهم بِهِ وقْتَ الصُّبْحِ، بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ [هود: ٨١] وكانَ مِنَ الواجِبِ بِحُكْمِ الإخْبارِ تَحَقُّقُهُ بِمَجِيءِ العَذابِ في أوَّلِ الصُّبْحِ، ومُجَرَّدُ قِراءَةِ: ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ ما كانَ يُفِيدُ ذَلِكَ، وهَذا أقْوى لِأنَّكَ تَقُولُ: صَبِيحَةُ أمْسِ بُكْرَةً واليَوْمُ بُكْرَةً، فَيَأْتِي فِيهِ ما ذَكَرْنا مِن أنَّ المُرادَ بُكْرَةٌ مِنَ البِكْرِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّها مَنصُوبَةٌ عَلى المَصْدَرِ مِن بابِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا، فَإنَّ المَنصُوبَ في ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا عَلى المَصْدَرِ، وقَدْ يَكُونُ غَيْرَ المَصْدَرِ كَما في ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا، لا يُقالُ: ضَرْبًا سَوْطًا بَيْنَ أحَدِ أنْواعِ الضَّرْبِ؛ لِأنَّ الضَّرْبَ قَدْ يَكُونُ بِسَوْطٍ وقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، وأمّا: (بُكْرَةً) فَلا يُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ لِأنّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ بُكْرَةً بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الصُّبْحَ قَدْ يَكُونُ بِالإتْيانِ وقْتَ الإسْفارِ، وقَدْ يَكُونُ بِالإتْيانِ بِالأبْكارِ، فَإنْ قِيلَ: مِثْلُهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: في ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ قُلْنا: نَعَمْ، فَإنْ قِيلَ: لَيْسَ هُناكَ بَيانُ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الإسْراءِ، نَقُولُ: هو كَقَوْلِ القائِلِ: ضَرَبْتُهُ شَيْئًا، فَإنَّ شَيْئًا لا بُدَّ مِنهُ في كُلِّ ضَرْبٍ، ويَصِحُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، وفائِدَتُهُ ما ذَكَرْنا مِن بَيانِ عَدَمِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ بِأنْواعِهِ، وكَأنَّ القائِلَ يَقُولُ: إنِّي لا أُبَيِّنُ ما ضَرَبْتُهُ بِهِ، ولا أحْتاجُ إلى بَيانِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ المَقْصُودِ بِهِ لِيَقْطَعَ سُؤالَ السّائِلِ: بِماذا ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ أوْ بِعَصا، فَكَذَلِكَ القَوْلُ في: ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ يَقْطَعُ سُؤالَ السّائِلِ عَنِ الإسْراءِ؛ لِأنَّ الإسْراءَ هو السَّيْرُ أوَّلَ اللَّيْلِ، والسُّرى هو السَّيْرُ آخِرَ اللَّيْلِ أوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أحَدُها: عَذابٌ لا مَدْفَعَ لَهُ، أيْ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمْ ويَثْبُتُ، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى إزالَتِهِ ورَفْعِهِ أوْ إحالَتِهِ ودَفْعِهِ.
ثانِيها: دائِمٌ، فَإنَّهم لَمّا أُهْلِكُوا نُقِلُوا إلى الجَحِيمِ، فَكَأنَّ ما أتاهم عَذابٌ لا يَنْدَفِعُ بِمَوْتِهِمْ، فَإنَّ المَوْتَ يُخَلِّصُ مِنَ الألَمِ الَّذِي يَجِدُهُ المَضْرُوبُ مِنَ الضَّرْبِ والمَحْبُوسُ مِنَ الحَبْسِ، ومَوْتُهم ما خَلَّصَهم.
ثالِثُها: عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِمْ لا يَتَعَدّى غَيْرَهم، أيْ هو أمْرٌ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وقَرَّرَهُ فاسْتَقَرَّ، ولَيْسَ كَما يُقالُ: إنَّهُ أمْرٌ أصابَهُمُ اتِّفاقًا كالبَرْدِ الَّذِي يَضُرُّ زَرْعَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، ويُظَنُّ بِهِ أنَّهُ أمْرٌ اتِّفاقِيٌّ، ولَيْسَ لَوْ خَرَجُوا مِن أماكِنِهِمْ لَنَجَوْا كَما نَجا آلُ لُوطٍ، بَلْ كانَ ذَلِكَ يَتْبَعُهم؛ لِأنَّهُ كانَ أمْرًا قَدِ اسْتَقَرَّ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الضَّمِيرُ في ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ عائِدٌ إلى الَّذِينَ عادَ إلَيْهِمُ الضَّمِيرُ في أعْيُنِهِمْ فَيَعُودُ لَفْظًا إلَيْهِمْ لِلْقُرْبِ، ومَعْنًى إلى الَّذِينَ تَمارَوْا بِالنُّذُرِ، أوِ الَّذِينَ عادَ إلَيْهِمُ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أنْذَرَهم بَطْشَتَنا﴾ . (p-٥٧)
{"ayah":"وَلَقَدۡ صَبَّحَهُم بُكۡرَةً عَذَابࣱ مُّسۡتَقِرࣱّ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق