الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ وتَفْسِيرُهُ غَيْرَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ذَكَرَها في ثَلاثَةِ مَواضِعَ ذَكَرَها في حِكايَةِ نُوحٍ بَعْدَ بَيانِ العَذابِ، وذَكَرَها هاهُنا قَبْلَ بَيانِ العَذابِ، وذَكَرَها في حِكايَةِ عادٍ قَبْلَ بَيانِهِ، فَحَيْثُ ذَكَرَ قَبْلَ بَيانِ العَذابِ ذَكَرَها لِلْبَيانِ كَما تَقُولُ: ضَرَبْتُ فُلانًا أيَّ ضَرْبٍ وأيَّما ضَرْبٍ، وتَقُولُ: ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أيْ قَوِيًّا، وفي حِكايَةِ عادٍ ذَكَرَها مَرَّتَيْنِ لِلْبَيانِ والِاسْتِفْهامِ، وقَدْ ذَكَرْنا السَّبَبَ فِيهِ، فَفي حِكايَةِ نُوحٍ ذَكَرَ ”الَّذِي“ لِلتَّعْظِيمِ وفي حِكايَةِ ثَمُودَ ذَكَرَ ”الَّذِي“ لِلْبَيانِ؛ لِأنَّ عَذابَ قَوْمِ نُوحٍ كانَ بِأمْرٍ عَظِيمٍ عامٍّ، وهو الطُّوفانُ الَّذِي عَمَّ العالَمَ ولا كَذَلِكَ عَذابُ قَوْمِ هُودٍ فَإنَّهُ كانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ. (p-٥٠)
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ﴾ سَمِعُوا صَيْحَةً فَماتُوا وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: كانَ في قَوْلِهِ: (فَكانُوا) مِن أيِّ الأقْسامِ ؟ نَقُولُ: قالَ النُّحاةُ: تَجِيءُ تارَةً بِمَعْنى صارَ وتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ القائِلِ:
؎بِتَيْماءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأنَّها قَطا الحَزْنِ قَدْ كانَتْ فِراخًا بُيُوضُها
بِمَعْنى صارَتْ فَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: في هَذا المَوْضِعِ إنَّها بِمَعْنى صارَ، والتَّحْقِيقُ أنَّ ”كانَ“ لا تُخالِفُ غَيْرَها مِنَ الأفْعالِ الماضِيَةِ اللّازِمَةِ الَّتِي لا تَتَعَدّى، والَّذِي يُقالُ: إنْ كانَتْ تامَّةً وناقِصَةً وزائِدَةً وبِمَعْنى صارَ فَلَيْسَ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلافَ أحْوالِها اخْتِلافًا يُفارِقُ غَيْرَها مِنَ الأفْعالِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ كانَ بِمَعْنى وُجِدَ أوْ حَصَلَ أوْ تَحَقَّقَ غَيْرَ أنَّ الَّذِي وُجِدَ تارَةً يَكُونُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وأُخْرى صِفَةً مِن صِفاتِهِ، فَإذا قُلْتَ: كانَتِ الكائِنَةُ وكُنْ فَيَكُونُ جَعَلْتَ الوُجُودَ والحُصُولَ لِلشَّيْءِ في نَفْسِهِ فَكَأنَّكَ قُلْتَ: وجَدْتُ الحَقِيقَةَ الكائِنَةَ، وكُنْ أيِ احْصُلْ فَيُوجَدُ في نَفْسِهِ، وإذا قُلْتَ: كانَ زَيْدٌ عالِمًا أيْ: وُجِدَ عِلْمُ زَيْدٍ، غَيْرَ أنّا نَقُولُ في وُجِدَ زَيْدٌ عالِمًا إنَّ عالِمًا حالٌ، وفي كانَ زَيْدٌ عالِمًا نَقُولُ: إنَّهُ خَبَرٌ كَقَوْلِنا حَصَلَ زَيْدٌ عالِمًا غَيْرَ أنَّ قَوْلَنا: وُجِدَ زَيْدٌ عالِمًا رُبَّما يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الوُجُودَ والحُصُولَ لِزَيْدٍ في تِلْكَ الحالِ كَما تَقُولُ قامَ زَيْدٌ مُنْتَحِيًا حَيْثُ يَكُونُ القِيامُ لِزَيْدٍ في تِلْكَ الحالِ، وقَوْلُنا: كانَ زَيْدٌ عالِمًا لَيْسَ مَعْناهُ كانَ زَيْدٌ وفي تِلْكَ الحالِ هو عالِمٌ، لَكِنَّ هَذا لا يُوجِبُ أنَّ ”كانَ“ عَلى خِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الأفْعالِ اللّازِمَةِ الَّتِي لَها بِالحالِ تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ؛ لِأنَّ مَن يَفْهَمُ مِن قَوْلِنا: حَصَلَ زَيْدٌ اليَوْمَ عَلى أحْسَنِ حالٍ ما نَفْهَمُهُ مِن قَوْلِنا: خَرَجَ زَيْدٌ اليَوْمَ في أحْسَنِ زِيٍّ لا يَمْنَعُهُ مانِعٌ مِن أنْ يَفْهَمَ مِن قَوْلِنا: كانَ زَيْدٌ عَلى أحْسَنِ حالٍ مِثْلَ ما فَهِمَ هُناكَ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الفِعْلُ الماضِي يُطْلَقُ تارَةً عَلى ما يُوجَدُ في الزَّمانِ المُتَّصِلِ بِالحاضِرِ، كَقَوْلِنا: قامَ زَيْدٌ في صِباهُ، ويُطْلَقُ تارَةً عَلى ما يُوجَدُ في الزَّمانِ الحاضِرِ كَقَوْلِنا: قامَ زَيْدٌ فَقُمْ وقُمْ فَإنَّ زَيْدًا قامَ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في ”كانَ“ رُبَّما يُقالُ: كانَ زَيْدٌ قائِمًا عامَ كَذا، ورُبَّما يُقالُ: كانَ زَيْدٌ قائِمًا الآنَ كَما في قامَ زَيْدٌ، فَقَوْلُهُ تَعالى: (فَكانُوا) فِيهِ اسْتِعْمالُ الماضِي فِيما اتَّصَلَ بِالحالِ، فَهو كَقَوْلِكَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ فَماتُوا أيْ مُتَّصِلًا بِتِلْكَ الحالِ، نَعَمْ لَوِ اسْتُعْمِلَ في هَذا المَوْضِعِ صارَ يَجُوزُ لَكِنْ ”كانَ“ و”صارَ“ كُلُّ واحِدٍ بِمَعْنًى في نَفْسِهِ ولَيْسَ وإنَّما يَلْزَمُ حَمْلُ ”كانَ“ عَلى ”صارَ“ إذا لَمْ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ”هو كَذا“ كَما في البَيْتِ حَيْثُ لا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: البُيُوضُ فِراخٌ، وأمّا هُنا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ هم كَهَشِيمٍ، ولَوْلا الكافُ لَأمْكَنَ أنْ يُقالَ: يَجِبُ حَمْلُ كانَ عَلى صارَ إذا كانَ المُرادُ أنَّهُمُ انْقَلَبُوا هَشِيمًا كَما يُقْلَبُ المَمْسُوخُ ولَيْسَ المُرادُ ذَلِكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما الهَشِيمُ ؟ نَقُولُ هو المَهْشُومُ أيِ: المَكْسُورُ، وسُمِّيَ هاشِمٌ هاشِمًا لِهَشْمِهِ الثَّرِيدِ في الجِفانِ غَيْرَ أنَّ الهَشِيمَ اسْتُعْمِلَ كَثِيرًا في الحَطَبِ المُتَكَسِّرِ اليابِسِ، فَقالَ المُفَسِّرُونَ: كانُوا كالحَشِيشِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الحَظائِرِ بَعْدَ البِلا بِتَفَتُّتٍ، واسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ [الكهف: ٤٥] وهو مِن بابِ إقامَةِ الصِّفَةِ مَقامَ المَوْصُوفِ، كَما يُقالُ: رَأيْتُ جَرِيحًا ومِثْلُهُ السَّعِيرُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِماذا شَبَّهَهم بِهِ ؟ قُلْنا: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِكَوْنِهِمْ يابِسِينَ كالحَشِيشِ بَيْنَ المَوْتى الَّذِينَ ماتُوا مِن زَمانٍ، وكَأنَّهُ يَقُولُ: سَمِعُوا الصَّيْحَةَ فَكانُوا كَأنَّهم ماتُوا مِن أيّامٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِأنَّهُمُ انْضَمُّوا بَعْضُهم إلى بَعْضٍ كَما يَنْضَمُّ الرُّفَقاءُ عِنْدَ الخَوْفِ داخِلِينَ بَعْضُهم في بَعْضٍ فاجْتَمَعُوا بَعْضٌ فَوْقَ بَعْضٍ (p-٥١)كَحَطَبِ الحاطِبِ الَّذِي يَصُفُّهُ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ مُنْتَظِرًا حُضُورَ مَن يَشْتَرِي مِنهُ شَيْئًا، فَإنَّ الحَطّابَ الَّذِي عِنْدَهُ الحَطَبُ الكَثِيرُ يَجْعَلُ مِنهُ كالحَظِيرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَيانِ كَوْنِهِمْ في الجَحِيمِ، أيْ كانُوا كالحَطَبِ اليابِسِ الَّذِي لِلْوَقِيدِ فَهو مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: ١٥] وقَوْلِهِ: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] كَذَلِكَ ماتُوا فَصارُوا كالحَطَبِ الَّذِي لا يَكُونُ إلّا لِلْإحْراقِ؛ لِأنَّ الهَشِيمَ لا يَصْلُحُ لِلْبِناءِ.
{"ayahs_start":30,"ayahs":["فَكَیۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ","إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَكَانُوا۟ كَهَشِیمِ ٱلۡمُحۡتَظِرِ"],"ayah":"فَكَیۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











