الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوى﴾ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ وُجُوهٌ: أحَدُها: ذُو قُوَّةٍ. ثانِيها: ذُو كَمالٍ في العَقْلِ والدِّينِ جَمِيعًا. ثالِثُها: ذُو مَنظَرٍ وهَيْبَةٍ عَظِيمَةٍ. رابِعُها: ذُو خُلُقٍ حَسَنٍ، فَإنْ قِيلَ عَلى قَوْلِنا المُرادُ ذُو قُوَّةٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ كَوْنِهِ ذا قُوى في قَوْلِهِ ﴿شَدِيدُ القُوى﴾ فَكَيْفَ نَقُولُ قُواهُ شَدِيدَةٌ ولَهُ قُوَّةٌ ؟ نَقُولُ ذَلِكَ لا يَحْسُنُ إنْ جاءَ وصْفًا بَعْدَ وصْفٍ، وأمّا إنْ جاءَ بَدَلًا لا يَجُوزُ كَأنَّهُ قالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ، وتَرَكَ شَدِيدَ القُوى فَلَيْسَ وصْفًا لَهُ. وتَقْدِيرُهُ: ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ أوْ كامِلَةٍ، وهو حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [ التَّكْوِيرِ: ١٩ ٢٠] فَكَأنَّهُ قالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ فاسْتَوى، والوَجْهُ الآخَرُ في الجَوابِ هو أنَّ إفْرادَ قُوَّةٍ بِالذِّكْرِ رُبَّما يَكُونُ لِبَيانِ أنَّ قُواهُ المَشْهُورَةَ شَدِيدَةٌ ولَهُ قُوَّةٌ أُخْرى خَصَّهُ اللَّهُ بِها، يُقالُ: فُلانٌ كَثِيرُ المالِ، ولَهُ مالٌ لا يَعْرِفُهُ أحَدٌ أيْ أمْوالُهُ الظّاهِرَةُ كَثِيرَةٌ ولَهُ مالٌ باطِنٌ، عَلى أنّا نَقُولُ المُرادُ ذُو شِدَّةٍ وتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَهُ مَن قُواهُ شَدِيدَةٌ وفي ذاتِهِ أيْضًا شِدَّةٌ، فَإنَّ الإنْسانَ رُبَّما تَكُونُ قُواهُ شَدِيدَةً وفي جِسْمِهِ صِغَرٌ وحَقارَةٌ ورَخاوَةٌ، وفِيهِ لَطِيفَةٌ وهي أنَّهُ تَعالى أرادَ بِقَوْلِهِ ﴿شَدِيدُ القُوى﴾ قُوَّتَهُ في العِلْمِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ أيْ شِدَّةٍ في جِسْمِهِ، فَقَدَّمَ العِلْمِيَّةَ عَلى الجِسْمِيَّةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ﴾ [ البَقَرَةِ: ٢٤٧] وفي قَوْلِهِ ﴿فاسْتَوى﴾ وجْهانِ المَشْهُورُ أنَّ المُرادَ جِبْرِيلُ أيْ فاسْتَوى جِبْرِيلُ في خَلْقِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ والمَشْهُورُ أنَّ هو ضَمِيرُ جِبْرِيلَ وتَقْدِيرُهُ اسْتَوى كَما خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى بِالأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، فَسَدَّ المَشْرِقَ لِعَظَمَتِهِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مُحَمَّدٌ ﷺ مَعْناهُ اسْتَوى بِمَكانٍ وهو بِالمَكانِ العالِي رُتْبَةً ومَنزِلَةً في رِفْعَةِ القَدْرِ لا حَقِيقَةً في الحُصُولِ في المَكانِ، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ هَذا واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿ولَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ﴾ [ التَّكْوِيرِ: ٢٣] إشارَةً إلى أنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ بِالأُفُقِ المُبِينِ ؟ نَقُولُ وفي ذَلِكَ المَوْضِعِ أيْضًا نَقُولُ كَما قُلْنا هاهُنا إنَّهُ ﷺ رَأى جِبْرِيلَ وهو بِالأُفُقِ المُبِينِ، يَقُولُ القائِلُ رَأيْتُ الهِلالَ، فَيُقالُ لَهُ: أيْنَ رَأيْتَهُ ؟ فَيَقُولُ فَوْقَ السَّطْحِ أيْ أنَّ الرّائِيَ فَوْقَ السَّطْحِ لا المَرْئِيَّ و(المُبِينِ) هو الفارِقُ مِن أبانَ أيْ فَرَّقَ، أيْ هو بِالأُفُقِ الفارِقِ بَيْنَ دَرَجَةِ الإنْسانِ ومَنزِلَةِ المَلَكِ فَإنَّهُ ﷺ انْتَهى وبَلَغَ الغايَةَ وصارَ نَبِيًّا كَما صارَ بَعْضُ الأنْبِياءِ نَبِيًّا يَأْتِيهِ الوَحْيُ في نَوْمِهِ وعَلى هَيْئَتِهِ وهو واصِلٌ إلى الأُفُقِ الأعْلى، والأُفُقُ الفارِقُ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ، فَإنْ قِيلَ ما بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلى خِلافِ ما تَذْهَبُ إلَيْهِ، فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى﴾ [ النَّجْمِ: ٨] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ (p-٢٤٧)[ النَّجْمِ: ١٤] كُلَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى خِلافِ ما ذَكَرْتَهُ ؟ نَقُولُ سَنُبَيِّنُ مُوافَقَتَهُ لِما ذَكَرْنا إنْ شاءَ اللَّهُ في مَواضِعِهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَفْسِيرِهِ، فَإنْ قِيلَ: الأحادِيثُ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ما ذَكَرْتَهُ حَيْثُ ورَدَ في الأخْبارِ أنَّ جِبْرِيلَ ﷺ أرى النَّبِيَّ ﷺ نَفْسَهُ عَلى صُورَتِهِ فَسَدَّ المَشْرِقَ، فَنَقُولُ نَحْنُ ما قُلْنا إنَّهُ لَمْ يَكُنْ ولَيْسَ في الحَدِيثِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ تِلْكَ الحِكايَةَ حَتّى يَلْزَمَ مُخالَفَةُ الحَدِيثِ، وإنَّما نَقُولُ إنَّ جِبْرِيلَ أرى النَّبِيَّ ﷺ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ وبَسَطَ جَناحَيْهِ وقَدْ سَتَرَ الجانِبَ الشَّرْقِيَّ وسَدَّهُ، لَكِنَّ الآيَةَ لَمْ تَرِدْ لِبَيانِ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب