الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ غِناهُ وقُدْرَتِهِ لِيَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ ويَقُولَ: إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ مِنَ الغَنِيِّ القادِرِ لِأنَّ مَن عَلِمَ ولَمْ يَقْدِرْ لا يَتَحَقَّقُ مِنهُ الجَزاءُ فَقالَ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُعْتَقَدُ أنَّ اللّامَ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ كاللّامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها﴾ [النحل: ٨] وهو جَرى في ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِهِ فَقالَ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ مَعْناهُ خَلَقَ ما فِيهِما لِغَرَضِ الجَزاءِ، وهو لا يَتَحاشى مِمّا ذَكَرَهُ لِما عُرِفَ مِن مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ، وقالَ الواحِدِيُّ: اللّامُ لِلْعاقِبَةِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا﴾ [القصص: ٨] أيْ أخَذُوهُ وعاقِبَتُهُ أنَّهُ يَكُونُ لَهم عَدُوًّا، والتَّحْقِيقُ فِيهِ وهو أنَّ حَتّى ولامَ الغَرَضِ مُتَقارِبانِ في المَعْنى؛ لِأنَّ الغَرَضَ نِهايَةُ الفِعْلِ، و”حَتّى“ لِلْغايَةِ المُطْلَقَةِ فَبَيْنَهُما مُقارَبَةٌ فَيُسْتَعْمَلُ أحَدُهُما مَكانَ الآخَرِ، يُقالُ: سِرْتُ حَتّى أدْخُلَها ولِكَيْ أدْخُلَها، فَلامُ العاقِبَةِ هي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ في مَوْضِعِ حَتّى لِلْغايَةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: هُنا وجْهٌ أقْرَبُ مِنَ الوَجْهَيْنِ وإنْ كانَ أخْفى مِنهُما وهو أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ضَلَّ واهْتَدى لا بِالعِلْمِ ولا بِخَلْقِ ما في السَّماواتِ، تَقْدِيرُهُ كَأنَّهُ قالَ: هو أعْلَمُ بِمَن ضَلَّ واهْتَدى: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ أنَّ مَن ضَلَّ واهْتَدى يُجْزى الجَزاءَ واللَّهُ أعْلَمُ بِهِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ كَلامًا مُعْتَرِضًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأعْرِضْ﴾ أيْ أعْرِضْ عَنْهم لِيَقَعَ الجَزاءُ، كَما يَقُولُ المُرِيدُ فِعْلًا لِمَن يَمْنَعُهُ مِنهُ: ذَرْنِي لِأفْعَلَهُ، وذَلِكَ لِأنَّ ما دامَ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَيْئَسْ ما كانَ العَذابُ يَنْزِلُ والإعْراضُ وقْتَ اليَأْسِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَذْكُورًا لِيَعْلَمَ أنَّ العَذابَ الَّذِي عِنْدَ إعْراضِهِ يَتَحَقَّقُ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قالَ تَعالى فِيهِ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] بَلْ هو مُخْتَصٌّ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا وغَيْرُهم لَهُمُ الحُسْنى، وقَوْلُهُ تَعالى في حَقِّ المُسِيءِ: ﴿بِما عَمِلُوا﴾ وفي حَقِّ المُحْسِنِ ﴿بِالحُسْنى﴾ فِيهِ لَطِيفَةٌ؛ لِأنَّ جَزاءَ المُسِيءِ عَذابٌ فَنَبَّهَ عَلى ما يَدْفَعُ الظُّلْمَ فَقالَ: لا يُعَذِّبُ إلّا عَنْ ذَنْبٍ، وأمّا في الحُسْنى فَلَمْ يَقُلْ بِما عَمِلُوا؛ لِأنَّ الثَّوابَ إنْ كانَ لا عَلى حَسَنَةٍ يَكُونُ في غايَةِ الفَضْلِ فَلا يُخِلُّ بِالمَعْنى هَذا إذا قُلْنا الحُسْنى هي المَثُوبَةُ بِالحُسْنى، وأمّا إذا قُلْنا: الأعْمالُ الحُسْنى فَفِيهِ لَطِيفَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وهي أنَّ أعْمالَهم لَمْ يُذْكَرْ فِيها التَّساوِي، وقالَ في أعْمالِ المُحْسِنِينَ: (الحُسْنى) إشارَةً إلى الكَرَمِ والصَّفْحِ حَيْثُ ذَكَرَ أحْسَنَ الِاسْمَيْنِ. والحُسْنى صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقامَ المَوْصُوفِ كَأنَّهُ تَعالى قالَ بِالأعْمالِ الحُسْنى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] وحِينَئِذٍ هو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ ولَنَجْزِيَنَّهم أحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ يَأْخُذُ أحْسَنَ أعْمالِهِمْ ويَجْعَلُ ثَوابَ كُلِّ ما وُجِدَ مِنهم لِجَزاءٍ ذَلِكَ الأحْسَنِ أوْ هي صِفَةُ المَثُوبَةِ، كَأنَّهُ قالَ: ويَجْزِيَ الَّذِينَ (p-٧)أحْسَنُوا بِالمَثُوبَةِ الحُسْنى أوْ بِالعاقِبَةِ الحُسْنى، أيْ جَزاؤُهم حَسْنُ العاقِبَةِ وهَذا جَزاءٌ فَحَسْبُ، وأمّا الزِّيادَةُ الَّتِي هي الفَضْلُ بَعْدَ الفَضْلِ فَغَيْرُ داخِلَةٍ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب