الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ أيْ كَيْفَ تُجادِلُونَهُ وتُورِدُونَ شُكُوكَكم عَلَيْهِ مَعَ أنَّهُ رَأى ما رَأى عَيْنَ اليَقِينِ ؟ ولا شَكَّ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَهو جازِمٌ مُتَيَقِّنٌ، وأنْتُمْ تَقُولُونَ أصابَهُ الجِنُّ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ هو مُؤَكِّدٌ لِلْمَعْنى الَّذِي تَقَدَّمَ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن تَيَقَّنَ شَيْئًا قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لا يَزُولُ عَنْ نَفْسِهِ تَشْكِيكٌ. وأكَّدَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ وذَلِكَ لِأنَّهُ ﷺ لَمّا رَآهُ وهو عَلى بَسِيطِ الأرْضِ كانَ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ أنَّهُ مِنَ الجِنِّ احْتِمالًا في غايَةِ البُعْدِ، لِما بَيَّنّا أنَّهُ ﷺ حَصَلَ لَهُ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأنَّهُ مَلَكٌ مُرْسَلٌ، واحْتِمالُ البَعِيدِ لا يَقْدَحُ في الجَزْمِ واليَقِينِ، ألا تَرى أنّا إذا نِمْنا بِاللَّيْلِ وانْتَبَهْنا بِالنَّهارِ نُجْزِمُ (p-٢٥١)بِأنَّ البِحارَ وقْتَ نَوْمِنا ما نَشِفَتْ ولا غارَتْ، والجِبالَ ما عُدِمَتْ ولا سارَتْ، مَعَ احْتِمالِ ذَلِكَ فَإنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى ذَلِكَ وقْتَ نَوْمِنا، ويُعِيدُها إلى ما كانَتْ عَلَيْهِ في يَوْمِنا، فَلَمّا رَآهُ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى وهو فَوْقَ السَّماءِ السّادِسَةِ لَمْ يُحْتَمَلْ أنْ يَكُونَ هُناكَ جِنٌّ ولا إنْسٌ، فَنَفى ذَلِكَ الِاحْتِمالَ أيْضًا فَقالَ تَعالى: ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ رَأْيَ العَيْنِ، وكَيْفَ وهو قَدْ رَآهُ في السَّماءِ فَماذا تُقَدِّرُونَ فِيهِ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الواوُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْحالِ عَلى ما بَيَّنّاهُ، أيْ كَيْفَ تُجادِلُونَهُ فِيما رَآهُ، عَلى وجْهٍ لا يَشُكُّ فِيهِ ؟ ومَعَ ذَلِكَ لا يُحْتَمَلُ إيرادُ الشُّكُوكِ عَلَيْهِ، فَإنَّ كَثِيرًا ما يَشُكُّ المُعْتَقِدُ لِشَيْءٍ فِيهِ ولَكِنَّ تُرَدَّدُ عَلَيْهِ الشُّكُوكُ، ولا يُمْكِنُهُ الجَوابُ عَنْها، ولا تَثْرِيبَ مَعَ ذَلِكَ في أنَّ الأمْرَ كَما ذَكَرْنا مِنَ المِثالِ، لِأنّا لا نَشُكُّ في أنَّ البِحارَ ما صارَتْ ذَهَبًا والجِبالَ ما صارَتْ عِهْنًا، وإذا أوْرَدَ عَلَيْنا مُورِدٌ شَكًّا، وقالَ وقْتَ نَوْمِكَ يُحْتَمَلُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَلَبَها ثُمَّ أعادَها لا يُمْكِنُنا الجَوابُ عَنْهُ مَعَ أنّا لا نَشُكُّ في اسْتِمْرارِها عَلى ما هي عَلَيْهِ، لا يُقالُ اللّامُ تُنافِي كَوْنَ الواوِ لِلْحالِ، فَإنَّ المُسْتَعْمَلَ يُقالُ أفَتُمارُونَهُ، وقَدْ رَأى مِن غَيْرِ لامٍ، لِأنّا نَقُولُ الواوُ الَّتِي لِلْحالِ تَدْخُلُ عَلى جُمْلَةٍ والجُمْلَةُ تَتَرَكَّبُ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، وهُنا فِعْلٌ وفاعِلٌ، وكِلاهُما يَجُوزُ فِيهِ اللّامُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ ﴿نَزْلَةً﴾ فَعْلَةٌ مِنَ النُّزُولِ فَهي كَجَلْسَةٍ مِنَ الجُلُوسِ، فَلا بُدَّ مِن نُزُولٍ، فَذَلِكَ النُّزُولُ لِمَن كانَ ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ، وهي مُرَتَّبَةٌ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في رَآهُ عائِدٌ إلى مَن ؟ وفِيهِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى أيْ رَأى اللَّهَ نَزْلَةً أُخْرى، وهَذا عَلى قَوْلِ مَن قالَ ﴿ما رَأى﴾ في قَوْلِهِ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ هو اللَّهُ تَعالى. وقَدْ قِيلَ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ مَرَّتَيْنِ، وعَلى هَذا فالنَّزْلَةُ تَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها لِلَّهِ، وعَلى هَذا فَوَجْهانِ: أحَدُهُما: قَوْلُ مَن يُجَوِّزُ عَلى اللَّهِ تَعالى الحَرَكَةَ والِانْتِقالَ وهو باطِلٌ. وثانِيهِما: النُّزُولُ بِالقُرْبِ المَعْنَوِيِّ لا الحِسِّيِّ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يَقْرُبُ بِالرَّحْمَةِ والفَضْلِ مِن عَبْدِهِ ولا يَراهُ العَبْدُ، ولِهَذا قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رَبِّ أرِنِي﴾ [ الأعْرافِ: ١٤٣] أيْ أزِلْ بَعْضَ حُجُبِ العَظَمَةِ والجَلالِ، وادْنُ مِنَ العَبْدِ بِالرَّحْمَةِ والإفْضالِ لِأراكَ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأى اللَّهَ نَزْلَةً أُخْرى، وحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ عَلى مَتْنِ الهَوى ومَرْكَبِ النَّفْسِ؛ ولِهَذا يُقالُ لِمَن رَكِبَ مَتْنَ هَواهُ إنَّهُ عَلا في الأرْضِ واسْتَكْبَرَ، قالَ تَعالى: ﴿عَلا في الأرْضِ﴾ [ القَصَصِ: ٤] . ثانِيهِما: أنَّ المُرادَ مِنَ النَّزْلَةِ ضِدُّها وهي العَرْجَةُ، كَأنَّهُ قالَ رَآهُ عَرْجَةً أُخْرى، وإنَّما اخْتارَ النَّزْلَةَ، لِأنَّ العَرْجَةَ الَّتِي في الآخِرَةِ لا نَزْلَةَ لَها، فَقالَ نَزْلَةً لِيُعْلَمَ أنَّها مِنَ الَّذِي كانَ في الدُّنْيا. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ عائِدٌ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أيْ رَأى جِبْرِيلَ نَزْلَةً أُخْرى، والنَّزْلَةُ حِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ كَما ذَكَرْناهُ، لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلى ما ورَدَ في بَعْضِ أخْبارِ لَيْلَةِ المِعْراجِ، جاوَزَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لاحْتَرَقْتُ ثُمَّ عادَ إلَيْهِ فَذَلِكَ نَزْلَةٌ. فَإنْ قِيلَ فَكَيْفَ قالَ: (أُخْرى) ؟ نَقُولُ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ في أمْرِ الصَّلاةِ تَرَدَّدَ مِرارًا فَرُبَّما كانَ يُجاوِزُ كُلَّ مَرَّةٍ، ويَنْزِلُ إلى جِبْرِيلَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكِلاهُما مَنقُولٌ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فَنَزْلَةٌ أُخْرى ظاهِرٌ، لِأنَّ جِبْرِيلَ كانَ لَهُ نَزَلاتٌ وكانَ لَهُ نَزْلَتانِ عَلَيْهِ وهو عَلى صُورَتِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ المَشْهُورُ أنَّ السِّدْرَةَ شَجَرَةٌ في السَّماءِ السّابِعَةِ وعَلَيْها مِثْلُ النَّبْقِ، وقِيلَ في السَّماءِ السّادِسَةِ، ووَرَدَ في الخَبَرِ أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«نَبْقُها كَقِلالِ هَجَرَ (p-٢٥٢)ووَرَقُها كَآذانِ الفِيَلَةِ» “ وقِيلَ سِدْرَةُ المُنْتَهى هي الحَيْرَةُ القُصْوى مِنَ السِّدْرَةِ، والسِّدْرَةُ كالرُّكْبَةِ مِنَ الرّاكِبِ عِنْدَما يُحارُ العَقْلُ حَيْرَةً لا حَيْرَةَ فَوْقَها، ما حارَ النَّبِيُّ ﷺ وما غابَ ورَأى ما رَأى، وقَوْلُهُ (عِنْدَ) ظَرْفُ مَكانٍ، أوْ ظَرْفُ زَمانٍ في هَذا المَوْضِعِ ؟ نَقُولُ: المَشْهُورُ أنَّهُ ظَرْفُ مَكانٍ تَقْدِيرُهُ رَأى جِبْرِيلَ أوْ غَيْرَهُ بِقُرْبِ سِدْرَةِ المُنْتَهى، وقِيلَ ظَرْفُ زَمانٍ، كَما يُقالُ صَلَّيْتُ عِنْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وتَقْدِيرُهُ رَآهُ عِنْدَ الحَيْرَةِ القُصْوى، أيْ في الزَّمانِ الَّذِي تُحارُ فِيهِ عُقُولُ العُقَلاءِ، والرُّؤْيَةُ مِن أتَمِّ العُلُومِ وذَلِكَ الوَقْتُ مِن أشَدِّ أوْقاتِ الجَهْلِ والحَيْرَةِ، فَهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما حارَ وقْتًا مِن شَأْنِهِ أنْ يَحارَ العاقِلُ فِيهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنْ قُلْنا مَعْناهُ رَأى اللَّهَ كَيْفَ يُفْهَمُ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ ؟ قُلْنا فِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: قَوْلُ مَن يَجْعَلُ اللَّهَ في مَكانٍ وهو باطِلٌ، وقَدْ بالَغْنا في بَيانِ بُطْلانِهِ في سُورَةِ السَّجْدَةِ. الثّانِي: رَآهُ مُحَمَّدٌ ﷺ وهو ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ لِأنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا لِلرّائِي كَما ذَكَرْنا مِنَ المِثالِ يُقالُ رَأيْتُ الهِلالَ، فَيُقالُ لِقائِلِهِ أيْنَ رَأيْتَهُ ؟ فَيَقُولُ عَلى السَّطْحِ ورُبَّما يَقُولُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الفُلانِيَّةِ، وأمّا إنْ قُلْنا إنَّ المُرادَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فالوَجْهانِ ظاهِرانِ، وكَوْنُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى أظْهَرُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إضافَةُ السِّدْرَةِ إلى المُنْتَهى مِن أيِّ [ أنْواعِ ] الإضافَةِ ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: إضافَةُ الشَّيْءِ إلى مَكانِهِ، يُقالُ أشْجارُ بَلْدَةِ كَذا لا تَطُولُ مِنَ البَرْدِ، ويُقالُ أشْجارُ الجَنَّةِ لا تَيْبَسُ ولا تَخْلُو مِنَ الثِّمارِ، فالمُنْتَهى حِينَئِذٍ مَوْضِعٌ لا يَتَعَدّاهُ مَلَكٌ، وقِيلَ لا يَتَعَدّاهُ رُوحٌ مِنَ الأرْواحِ. وثانِيها: إضافَةُ المَحَلِّ إلى الحالِّ فِيهِ، يُقالُ: كِتابُ الفِقْهِ، ومَحَلُّ السَّوادِ، وعَلى هَذا فالمُنْتَهى عِنْدَ ”السِّدْرَةِ“ تَقْدِيرُهُ سِدْرَةٌ عِنْدَ مُنْتَهى العُلُومِ. ثالِثُها: إضافَةُ المُلْكِ إلى مالِكِهِ يُقالُ دارُ زَيْدٍ وأشْجارُ زَيْدٍ، وحِينَئِذٍ فالمُنْتَهى إلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ”سِدْرَةُ المُنْتَهى“ إلَيْهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ [ النَّجْمِ: ٤٢] فالمُنْتَهى إلَيْهِ هو اللَّهُ، وإضافَةُ السِّدْرَةِ إلَيْهِ حِينَئِذٍ كَإضافَةِ البَيْتِ إلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ والتَّعْظِيمِ، ويُقالُ في التَّسْبِيحِ: يا غايَةَ مُناهُ، ويا مُنْتَهى أمَلاهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب