الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أوْحى إلى مُحَمَّدٍ ﷺ ما أوْحاهُ إلى جِبْرِيلَ أيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أنَّهُ وحْيٌ أوْ خَلَقَ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا. ثانِيهِما: أوْحى إلى جِبْرِيلَ ما أوْحى إلى مُحَمَّدٍ دَلِيلَهُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ أنَّهُ وحْيٌ، فَعَلى هَذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ ما مَصْدَرِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ فَأوْحى إلى مُحَمَّدٍ ﷺ الإيحاءَ أيِ العِلْمَ بِالإيحاءِ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَ المَلَكِ والجِنِّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الفُؤادُ فُؤادُ مَن ؟ نَقُولُ المَشْهُورُ أنَّهُ فُؤادُ مُحَمَّدٍ ﷺ مَعْناهُ أنَّهُ ما كَذَبَ فُؤادُهُ واللّامُ لِتَعْرِيفِ ما عُلِمَ حالُهُ لِسَبْقِ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في قَوْلِهِ ﴿إلى عَبْدِهِ﴾ وفي قَوْلِهِ ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ﴾ أيْ جِنْسُ الفُؤادِ لِأنَّ المُكَذَّبَ هو الوَهْمُ والخَيالُ يَقُولُ كَيْفَ يَرى اللَّهَ أوْ كَيْفَ يَرى جِبْرِيلَ مَعَ أنَّهُ ألْطَفُ مِنَ الهَوى، والهَواءُ لا يُرى، وكَذَلِكَ يَقُولُ الوَهْمُ والخَيالُ إنْ رَأى رَبَّهُ رَآهُ في جِهَةٍ ومَكانٍ وعَلى هَيْئَةٍ، والكُلُّ يُنافِي كَوْنَ المَرْئِيِّ إلَهًا، ولَوْ رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أنَّهُ صارَ عَلى صُورَةِ دِحْيَةَ أوْ غَيْرِهِ فَقَدِ انْقَلَبَتْ حَقِيقَتُهُ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لارْتَفَعَ الأمانُ عَنِ المَرْئِيّاتِ، فَنَقُولُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى ورُؤْيَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما رَآهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جائِزَةٌ عِنْدَ مَن لَهُ قَلْبٌ، فالفُؤادُ لا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وإنْ كانَتِ النَّفْسُ المُتَوَهِّمَةُ والمُتَخَيِّلَةُ تُنْكِرُهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما مَعْنى ﴿ما كَذَبَ﴾ ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وهو أنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَكْذِبْ وما قالَ إنَّ ما رَآهُ بَصَرُكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، ولَوْ قالَ فُؤادُهُ ذَلِكَ لَكانَ كاذِبًا فِيما قالَهُ وهو قَرِيبٌ مِمّا قالَهُ المُبَرِّدُ حَيْثُ قالَ: مَعْناهُ صَدَقَ الفُؤادُ فِيما رَأى، [ رَأى] شَيْئًا فَصَدَقَ فِيهِ. الثّانِي: قُرِئَ ”ما كَذَّبَ الفُؤادُ“ بِالتَّشْدِيدِ ومَعْناهُ ما قالَ إنَّ المَرْئِيَّ خَيالٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ. الثّالِثُ: هو أنَّ هَذا مُقَرِّرٌ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمّا رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا عَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ بِخَيالٍ ولَيْسَ هو عَلى ما ذَكَرْنا قَصْدَ الحَقِّ، وتَقْدِيرُهُ ما جَوَّزَ أنْ يَكُونَ كاذِبًا وفي الوُقُوعِ وإرادَةِ نَفْيِ الجَوازِ كَثِيرٌ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يَخْفى عَلى اللَّهِ مِنهم شَيْءٌ﴾ [ غافِرٍ: ١٦] وقالَ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [ الأنْعامِ: ١٠٣] وقالَ: ﴿وما رَبُّكَ بِغافِلٍ﴾ [ الأنْعامِ: ١٣٢] والكُلُّ لِنَفِيَ الجَوازِ بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ [ يُوسُفَ: ٥٦] ﴿لا نُضِيعُ أجْرَ مَن أحْسَنَ عَمَلًا﴾، ﴿لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [ النِّساءِ: ٤٨] فَإنَّهُ لِنَفْيِ الوُقُوعِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الرّائِي في قَوْلِهِ ﴿ما رَأى﴾ هو الفُؤادُ أوِ البَصَرُ أوْ غَيْرُهُما ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: الفُؤادُ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ﴾ ما رَآهُ الفُؤادُ أيْ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ جِنِّيٌّ أوْ شَيْطانٌ بَلْ تَيَقَّنَ أنَّ ما رَآهُ بِفُؤادِهِ صِدْقٌ صَحِيحٌ. الثّانِي: البَصَرُ أيْ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ﴾ ما رَآهُ البَصَرُ، ولَمْ يَقُلْ إنَّ ما رَآهُ البَصَرُ خَيالٌ. الثّالِثُ: ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهَذا عَلى قَوْلِنا الفُؤادُ لِلْجِنْسِ ظاهِرٌ أيِ القُلُوبُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ ما رَآهُ مُحَمَّدٌ ﷺ [ مِنَ الرُّؤْيا] وإنْ كانَتِ الأوْهامُ لا تَعْتَرِفُ بِها. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ما المَرْئِيُّ في قَوْلِهِ ﴿ما رَأى﴾ ؟ نَقُولُ عَلى الِاخْتِلافِ السّابِقِ والَّذِي يَحْتَمِلُ الكَلامَ (p-٢٥٠)وُجُوهٌ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: الرَّبُّ تَعالى. والثّانِي: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. والثّالِثُ: الآياتُ العَجِيبَةُ الإلَهِيَّةُ، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ تُمْكِنُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى بِحَيْثُ لا يَقْدَحُ فِيهِ ولا يَلْزَمُ مِنهُ كَوْنُهُ جِسْمًا في جِهَةٍ ؟ نَقُولُ، اعْلَمْ أنَّ العاقِلَ إذا تَأمَّلَ وتَفَكَّرَ في رَجُلٍ مَوْجُودٍ في مَكانٍ، وقالَ هَذا مَرْئِيُّ اللَّهِ تَعالى يَراهُ اللَّهُ، و[ إذا] تَفَكَّرَ في أمْرٍ لا يُوجَدُ أصْلًا وقالَ هَذا مَرْئِيُّ اللَّهِ تَعالى يَراهُ اللَّهُ تَعالى يَجِدُ بَيْنَهُما فَرْقًا وعَقْلُهُ يُصَحِّحُ الكَلامَ الأوَّلَ ويُكَذِّبُ الكَلامَ الثّانِيَ، فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْنى كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِأنَّهُ لَوْ قالَ المَوْجُودُ مَعْلُومُ اللَّهِ والمَعْدُومُ مَعْلُومُ اللَّهِ لَما وجَدَ في كَلامِهِ خَلَلًا واسْتِبْعادًا فاللَّهُ راءٍ بِمَعْنى كَوْنِهِ عالِمًا ثُمَّ إنَّ اللَّهَ يَكُونُ رائِيًا ولا يَصِيرُ مُقابِلًا لِلْمَرْئِيِّ، ولا يَحْصُلُ في جِهَةٍ ولا يَكُونُ مُقابِلًا لَهُ، وإنَّما يَصْعُبُ عَلى الوَهْمِ ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا إلّا في جِهَةٍ فَيَقُولُ إنَّ ذَلِكَ واجِبٌ، ومِمّا يُصَحِّحُ هَذا أنَّكَ تَرى في الماءِ قَمَرًا وفي الحَقِيقَةِ ما رَأيْتَ القَمَرَ حالَةَ نَظَرِكَ إلى الماءِ إلّا في مَكانِهِ فَوْقَ السَّماءِ فَرَأيْتَ القَمَرَ في الماءِ، لِأنَّ الشُّعاعَ الخارِجَ مِنَ البَصَرِ اتَّصَلَ بِهِ فَرَدَّ الماءُ ذَلِكَ الشُّعاعَ إلى السَّماءِ، لَكِنَّ وهْمَكَ لَمّا رَأى أكْثَرَ ما رَآهُ في المُقابَلَةِ لَمْ يَعْهَدْ رُؤْيَةَ شَيْءٍ يَكُونُ خَلْفَهُ إلّا بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، قالَ إنِّي أرى القَمَرَ، ولا رُؤْيَةَ إلّا إذْ كانَ المَرْئِيُّ في مُقابَلَةِ الحَدَقَةِ ولا مُقابِلَ لِلْحَدَقَةِ إلّا الماءُ، فَحُكِمَ إذَنْ بِناءً عَلى هَذا أنَّهُ يَرى القَمَرَ في الماءِ، فالوَهْمُ يَغْلِبُ العَقْلَ في العالَمِ لِكَوْنِ الأُمُورِ العاجِلَةِ أكْثَرُها وهْمِيَّةٌ، حِسِّيَّةٌ، وفي الآخِرَةِ تَزُولُ الأوْهامُ وتَنْجَلِي الأفْهامُ فَتَرى الأشْياءَ لِوُجُودِها لا لِتَحَيُّزِها، واعْلَمْ أنَّ مَن يُنْكِرُ جَوازَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، يَلْزَمُهُ أنْ يُنْكِرَ جَوازَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفِيهِ إنْكارُ الرِّسالَةِ وهو كُفْرٌ، وفِيهِ ما يَكادُ أنْ يَكُونَ كُفْرًا، وذَلِكَ لِأنَّ مَن شَكَّ في رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى يَقُولُ لَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى جائِزَ الرُّؤْيَةِ لَكانَ واجِبَ الرُّؤْيَةِ لَأنَّ حَواسَّنا سَلِيمَةٌ، واللَّهُ تَعالى لَيْسَ مِن وراءِ حِجابٍ ولا هو في غايَةِ البُعْدِ عَنّا لِعَدَمِ كَوْنِهِ في جِهَةٍ ولا مَكانٍ، فَلَوْ جازَ أنْ يُرى ولا نَراهُ، لَلَزِمَ القَدْحُ في المَحْسُوساتِ المُشاهَداتِ، إذْ يَجُوزُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ عِنْدَنا جَبَلٌ ولا نَراهُ، فَيُقالُ لِذَلِكَ القائِلِ قَدْ صَحَّ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَنْزِلُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ وعِنْدَهُ غَيْرُهُ وهو يَراهُ ولَوْ وجَبَ ما يَجُوزُ لَرَآهُ كُلُّ أحَدٍ، فَإنْ قِيلَ إنَّ هُناكَ حِجابًا نَقُولُ وجَبَ أنْ يَرى هُناكَ حِجابًا فَإنَّ الحِجابَ لا يُحْجَبُ إذا كانَ مَرْئِيًّا عَلى مَذْهَبِهِمْ، ثُمَّ إنَّ النُّصُوصَ ورَدَتْ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأى رَبَّهُ بِفُؤادِهِ فَجُعِلَ بَصَرُهُ في فُؤادِهِ أوْ رَآهُ بِبَصَرِهِ فَجُعِلَ فُؤادُهُ في بَصَرِهِ، وكَيْفَ لا، وعَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ الرُّؤْيَةُ بِالإرادَةِ لا بِقُدْرَةِ العَبْدِ، فَإذا حَصَّلَ اللَّهُ تَعالى العِلْمَ بِالشَّيْءِ مِن طَرِيقِ البَصَرِ كانَ رُؤْيَةً، وإنْ حَصَّلَهُ مِن طَرِيقِ القَلْبِ كانَ مَعْرِفَةً واللَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُحَصِّلَ العِلْمَ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْمَعْلُومِ في البَصَرِ كَما قَدَرَ عَلى أنْ يُحَصِّلَهُ بِخَلْقٍ مُدْرَكٍ في القَلْبِ، والمَسْألَةُ مَذْكُورَةٌ في الأُصُولِ فَلا نُطَوِّلُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب