الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أمْ تَأْمُرُهم أحْلامُهم بِهَذا أمْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ وأمْ هَذِهِ أيْضًا عَلى ما ذَكَرْنا مُتَّصِلَةٌ تَقْدِيرُها أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ ؟ أمْ تَأْمُرُهم أحْلامُهم بِهَذا ؟ وذَلِكَ لِأنَّ الأشْياءَ إمّا أنْ تَثْبُتَ بِسَمْعٍ وإمّا أنْ تَثْبُتَ بِعَقْلٍ فَقالَ هَلْ ورَدَ أمْرٌ سَمْعِيٌّ ؟ أمْ عُقُولُهم تَأْمُرُهم بِما كانُوا يَقُولُونَ ؟ أمْ هم قَوْمٌ طاغُونَ يَغْتَرُّونَ، ويَقُولُونَ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ سَمْعًا ولا مُقْتَضًى لَهُ عَقْلًا ؟ والطُّغْيانُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيانِ، وكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ ظاهِرُهُ مَكْرُوهٌ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ﴾ [ الحاقَّةِ: ١١] وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إذا كانَ المُرادُ ما ذَكَرْتَ فَلِمَ أسْقَطَ ما يُصَدَّرُ بِهِ ؟ نَقُولُ لِأنَّ كَوْنَ ما يَقُولُونَ بِهِ مُسْنَدًا (p-٢٢١)إلى نَقْلٍ مَعْلُومٍ عَدَمُهُ لا يَنْفِي، وأمّا كَوْنُهُ مَعْقُولًا فَهم كانُوا يَدَّعُونَ أنَّهُ مَعْقُولٌ، وأمّا كَوْنُهم طاغِينَ فَهو حَقٌّ، فَخَصَّ اللَّهُ تَعالى بِالذِّكْرِ ما قالُوا بِهِ وقالَ اللَّهُ بِهِ، فَهم قالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ العَقْلَ، واللَّهُ تَعالى قالَ هم طاغُونَ، فَذَكَرَ الأمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وقَعَ فِيهِما الخِلافُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ ﴿تَأْمُرُهم أحْلامُهُمْ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ ما لا يَكُونُ عَلى وفْقِ العَقْلِ، لا يَنْبَغِي أنْ يُقالَ، وإنَّما يَنْبَغِي أنْ يُقالَ ما يَجِبُ قَوْلُهُ عَقْلًا، فَهَلْ صارَ [ كُلُّ] واجِبٍ عَقْلًا مَأْمُورًا بِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما الأحْلامُ ؟ نَقُولُ جَمْعُ حِلْمٍ وهو العَقْلُ وهُما مِن بابٍ واحِدٍ مِن حَيْثُ المَعْنى، لِأنَّ العَقْلَ يَضْبِطُ المَرْءَ فَيَكُونُ كالبَعِيرِ المَعْقُولِ لا يَتَحَرَّكُ مِن مَكانِهِ، والحُلْمُ مِنَ الحِلْمِ وهو أيْضًا سَبَبُ وقارِ المَرْءِ وثَباتِهِ، وكَذَلِكَ يُقالُ لِلْعُقُولِ النُّهى مِنَ النَّهْيِ وهو المَنعُ، وفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وهو أنَّ الحُلْمَ في أصْلِ اللُّغَةِ هو ما يَراهُ النّائِمُ فَيُنْزِلُ ويَلْزَمُهُ الغُسْلُ، وهو سَبَبُ البُلُوغِ وعِنْدَهُ يَصِيرُ الإنْسانُ مُكَلَّفًا، وكَأنَّ اللَّهَ تَعالى مِن لَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَرَنَ الشَّهْوَةَ بِالعَقْلِ، وعِنْدَ ظُهُورِ الشَّهْوَةِ كَمُلَ العَقْلُ، فَأشارَ إلى العَقْلِ بِالإشارَةِ إلى ما يُقارِنُهُ وهو الحُلْمُ، لِيَعْلَمَ أنَّهُ نَذِيرُ كَمالِ العَقْلِ، لا العَقْلُ الَّذِي بِهِ يَحْتَرِزُ الإنْسانُ الشِّرْكَ ودُخُولَ النّارِ، وعَلى هَذا فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِما ذَكَرْنا أنَّ الإنْسانَ لا يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ كُلَّ مَعْقُولٍ، بَلْ لا يَقُولُ إلّا ما يَأْمُرُ بِهِ العَقْلُ الرَّزِينُ الَّذِي يُصَحِّحُ التَّكْلِيفَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَذا إشارَةٌ إلى ماذا ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ هَذا إشارَةً مُهِمَّةً، أيْ بِهَذا الَّذِي يَظْهَرُ مِنهم قَوْلًا وفِعْلًا حَيْثُ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ والأوْثانَ ويَقُولُونَ الهَذَيانَ مِنَ الكَلامِ. الثّانِي: هَذا إشارَةٌ إلى قَوْلِهِمْ هو كاهِنٌ هو شاعِرٌ هو مَجْنُونٌ. الثّالِثُ: هَذا إشارَةٌ إلى التَّرَبُّصِ فَإنَّهم لَمّا قالُوا نَتَرَبَّصُ قالَ اللَّهُ تَعالى أعُقُولُهم تَأْمُرُهم بِتَرَبُّصِ هَلاكِهِمْ فَإنَّ أحَدًا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَلاكَ نَبِيِّهِ إلّا وهَلَكَ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ أمْ في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى بَلْ ؟ نَقُولُ نَعَمْ، تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ: إنَّهُ شاعِرٌ قَوْلًا، بَلْ يَعْتَقِدُونَهُ عَقْلًا ويَدْخُلُ في عُقُولِهِمْ ذَلِكَ، أيْ لَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا مِنهم مِن غَيْرِ عَقْلٍ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كاهِنًا ومَجْنُونًا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ، لَكِنْ بَلْ هاهُنا واضِحٌ وفي قَوْلِهِ بَلْ تَأْمُرُهم أحْلامُهم خَفِيٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب