الباحث القرآني

(p-٢١٥)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وفِيهِ لَطائِفُ: الأُولى: أنَّ شَفَقَةَ الأُبُوَّةِ كَما هي في الدُّنْيا مُتَوَفِّرَةٌ كَذَلِكَ في الآخِرَةِ، ولِهَذا طَيَّبَ اللَّهُ تَعالى قُلُوبَ عِبادِهِ بِأنَّهُ لا يُوَلِّهَهم بِأوْلادِهِمْ بَلْ يَجْمَعُ بَيْنَهم، فَإنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتَ في تَفْسِيرِ بَعْضِ الآياتِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُسَلِّي الآباءَ عَنِ الأبْناءِ وبِالعَكْسِ، ولا يَتَذَكَّرُ الأبُ الَّذِي هو مِن أهْلِ الجَنَّةِ الِابْنَ الَّذِي هو مِن أهْلِ النّارِ، نَقُولُ: الوَلَدُ الصَّغِيرُ وجَدَ في والِدِهِ الأُبُوَّةَ الحَسَنَةَ ولَمْ يُوجَدْ لَها مُعارِضٌ ولِهَذا ألْحَقَ اللَّهُ الوَلَدَ بِالوالِدِ في الإسْلامِ في دارِ الدُّنْيا عِنْدَ الصِّغَرِ وإذا كَبِرَ اسْتَقَلَّ، فَإنْ كَفَرَ يُنْسَبْ إلى غَيْرِ أبِيهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإسْلامَ لِلْمُسْلِمِينَ كالأبِ ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [ الحُجُراتِ: ١٠] جَمْعُ أخٍ بِمَعْنى أُخُوَّةِ الوِلادَةِ، والإخْوانُ جَمْعُهُ بِمَعْنى أُخُوَّةِ الصَّداقَةِ والمَحَبَّةِ، فَإذَنِ الكُفْرُ مِن حَيْثُ الحِسُّ والعُرْفُ أبٌ، فَإنْ خالَفَ دِينُهُ دِينَ أبِيهِ صارَ لَهُ مِن حَيْثُ الشَّرْعُ أبٌ آخَرُ، وفِيهِ إرْشادُ الآباءِ إلى أنْ لا يَشْغَلَهم شَيْءٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلى الوَلَدِ، فَيَكُونُ مِنَ القَبِيحِ الفاحِشِ أنْ يَشْتَغِلَ الإنْسانُ بِالتَّفَرُّجِ في البُسْتانِ مَعَ الأحِبَّةِ الإخْوانِ عَنْ تَحْصِيلِ قُوتِ الوِلْدانِ، وكَيْفَ لا يَشْتَغِلُ أهْلُ الجَنَّةِ بِما في الجَنَّةِ مِنَ الحُورِ العِينِ عَنْ أوْلادِهِمْ حَتّى ذَكَرُوهم فَأراحَ اللَّهُ قُلُوبَهم بِقَوْلِهِ ﴿ألْحَقْنا بِهِمْ﴾ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَما ظَنُّكَ بِالفاسِقِ الَّذِي يُبَذِّرُ مالَهُ في الحَرامِ ويَتْرُكُ أوْلادَهُ يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ اللِّئامِ والكِرامِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن يُورِّثُ أوْلادَهُ مالًا حَلالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، ولِهَذا لَمْ يَجُزْ لِلْمَرِيضِ التَّصَرُّفُ في أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. اللَّطِيفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ فَهَذا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلى أنّا في الآخِرَةِ نُلْحَقُ بِهِمْ لِأنَّ في دارِ الدُّنْيا مُراعاةَ الأسْبابِ أكْثَرُ. ولِهَذا لَمْ يُجْرِ اللَّهُ عادَتَهُ عَلى أنْ يُقْدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ الإنْسانِ طَعامًا مِنَ السَّماءِ، فَما يَتَسَبَّبُ لَهُ بِالزِّراعَةِ والطَّحْنِ والعَجْنِ لا يَأْكُلُهُ، وفي الآخِرَةِ يُؤْتِيهِ ذَلِكَ مِن غَيْرِ سَعْيٍ جَزاءً لَهُ عَلى ما سَعى لَهُ مِن قَبْلُ، فَيَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظاهِرًا عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يُلْحِقُ بِهِ ولَدَهُ وإنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا كَما اتَّبَعَهُ، وإنْ لَمْ يَشْهَدْ ولَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا. اللَّطِيفَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِإيمانٍ﴾ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أتْبَعَ الوَلَدَ الوالِدَيْنِ في الإيمانِ ولَمْ يُتْبِعْهُ أباهُ في الكُفْرِ بِدَلِيلِ أنَّ مَن أسْلَمَ مِنَ الكُفّارِ حُكِمَ بِإسْلامِ أوْلادِهِ، ومَنِ ارْتَدَّ مِنَ المُسْلِمِينَ والعِياذُ بِاللَّهِ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِ ولَدِهِ. اللَّطِيفَةُ الرّابِعَةُ: قالَ في الدُّنْيا ﴿وأتْبَعْناهُمْ﴾ [ القَصَصِ: ٤٢] وقالَ في الآخِرَةِ ﴿ألْحَقْنا بِهِمْ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ في الدُّنْيا لا يُدْرِكُ الصَّغِيرُ التَّبِعُ مُساواةَ المَتْبُوعِ، وإنَّما يَكُونُ هو تَبَعًا والأبُ أصْلًا لِفَضْلِ السّاعِي عَلى غَيْرِ السّاعِي، وأمّا في الآخِرَةِ فَإذا ألْحَقَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ ولَدَهُ بِهِ جُعِلَ لَهُ مِنَ الدَّرَجَةِ مِثْلُ ما لِأبِيهِ. (p-٢١٦)اللَّطِيفَةُ الخامِسَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما ألَتْناهُمْ﴾ تَطْيِيبٌ لِقَلْبِهِمْ وإزالَةٌ لِوَهْمِ المُتَوَهِّمِ أنَّ ثَوابَ عَمَلِ الأبِ يُوَزَّعُ عَلى الوالِدِ والوَلَدِ بَلْ لِلْوالِدِ أجْرُ عَمَلِهِ بِفَضْلِ السَّعْيِ ولِأوْلادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةً. اللَّطِيفَةُ السّادِسَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن عَمَلِهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ مِن أجْرِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما ألَتْناهم مِن عَمَلِهِمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى بَقاءِ عَمَلِهِمْ كَما كانَ والأجْرُ عَلى العَمَلِ مَعَ الزِّيادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ الإشارَةُ إلى بَقاءِ العَمَلِ الَّذِي لَهُ الأجْرُ الكَبِيرُ الزّائِدُ عَلَيْهِ العَظِيمُ العائِدُ إلَيْهِ، ولَوْ قالَ: ما ألَتْناهم مِن أجْرِهِمْ، لَكانَ ذَلِكَ حاصِلًا بِأدْنى شَيْءٍ؛ لِأنَّ كُلَّ ما يُعْطِي اللَّهُ عَبْدَهُ عَلى عَمَلِهِ فَهو أجْرٌ كامِلٌ، ولِأنَّهُ لَوْ قالَ تَعالى ما ألَتْناهم مِن أجْرِهِمْ، كانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالأجْرِ الكامِلِ عَلى العَمَلِ النّاقِصِ، وأعْطاهُ الأجْرَ الجَزِيلَ، مَعَ أنَّ عَمَلَهُ كانَ لَهُ ولِوَلَدِهِ جَمِيعًا، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: (والَّذِينَ آمَنُوا) عُطِفَ عَلى ماذا ؟ نَقُولُ عَلى قَوْلِهِ (إنَّ المُتَّقِينَ) . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إذا كانَ كَذَلِكَ فَلِمَ أعادَ لَفْظَ (الَّذِينَ آمَنُوا) وكانَ المَقْصُودُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ تَعالى: و﴿ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿وزَوَّجْناهُمْ﴾ وكانَ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وزَوَّجْناهم وألْحَقْنا بِهِمْ ؟ نَقُولُ فِيهِ فائِدَةٌ وهو أنَّ المُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ والمَعْصِيَةَ وهُمُ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [ الرَّعْدِ: ٢٩] وقالَ هاهُنا (الَّذِينَ آمَنُوا) أيْ بِوُجُودِ الإيمانِ يَصِيرُ ولَدُهُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ إنِ ارْتَكَبَ الأبُ كَبِيرَةً أوْ صَغِيرَةً عَلى صَغِيرَةٍ لا يُعاقَبُ بِهِ ولَدُهُ، بَلِ الوالِدُ ورُبَّما يَدْخُلُ الجَنَّةَ الِابْنُ قَبْلَ الأبِ، وفِيهِ لَطِيفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وهو أنَّهُ ورَدَ في الأخْبارِ أنَّ الوَلَدَ الصَّغِيرَ يَشْفَعُ لِأبِيهِ وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الجَزاءِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَلْ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ نَقُولُ نَعَمْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: (والَّذِينَ آمَنُوا) عَطْفًا عَلى ﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ تَقْدِيرُهُ: زَوَّجْناهم بِحُورٍ عِينٍ، أيْ قَرَنّاهم بِهِنَّ، وبِالَّذِينِ آمَنُوا، إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [ الحِجْرِ: ٤٧] أيْ جَمَعْنا شَمْلَهم بِالأزْواجِ والإخْوانِ والأوْلادِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأتْبَعْناهُمْ﴾ [ القَصَصِ: ٤٢] وهَذا الوَجْهُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ والأوَّلُ أحْسَنُ وأصَحُّ، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ عَلى هَذا الوَجْهِ الإخْبارُ بِلَفْظِ الماضِي مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بَعْدَما قَرَنَ بَيْنَهم ؟ قُلْنا صَحَّ في وزَوَّجْناهم عَلى ما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مِن تَزْوِيجِهِنَّ مِنّا مِن يَوْمِ خَلَقَهُنَّ وإنْ تَأخَّرَ زَمانُ الِاقْتِرانِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ (ذُرِّيّاتهِمْ) في المَوْضِعَيْنِ بِالجَمْعِ (وذُرِّيَّتهم) فِيهِما بِالفَرْدِ، وقُرِئَ في الأوَّلِ (ذُرِّيّاتُهِمْ) وفي الثّانِيَةِ (ذُرِّيَّتَهم) فَهَلْ لِلثّالِثِ وجْهٌ ؟ نَقُولُ نَعَمْ مَعْنَوِيٌّ لا لَفْظِيٌّ وذَلِكَ لِأنَّ المُؤْمِنَ تَتَّبِعُهُ ذُرِّيّاتُهُ في الإيمانِ، وإنْ لَمْ تُوجَدْ عَلى مَعْنًى أنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَهُ ألْفُ ولَدٍ لَكانُوا أتْباعَهُ في الإيمانِ حُكْمًا، وأمّا الإلْحاقُ فَلا يَكُونُ حُكْمًا إنَّما هو حَقِيقَةٌ، وذَلِكَ في المَوْجُودِ فالتّابِعُ أكْثَرُ مِنَ المَلْحُوقِ فَجُمِعَ في الأوَّلِ وأُفْرِدَ الثّانِي. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما الفائِدَةُ في تَنْكِيرِ الإيمانِ في قَوْلِهِ ”وأتْبَعْناهم ذُرِّيّاتِهِمْ بِإيمانٍ“ ؟ نَقُولُ هو إمّا التَّخْصِيصُ أوِ التَّنْكِيرُ كَأنَّهُ يَقُولُ: أتْبَعْناهم ذُرِّيّاتِهِمْ بِإيمانٍ مُخْلِصٍ كامِلٍ أوْ يَقُولُ أتْبَعْناهم بِإيمانٍ ما أيُّ شَيْءٍ مِنهُ فَإنَّ الإيمانَ كامِلًا لا يُوجَدُ في الوَلَدِ بِدَلِيلِ أنَّ مَن لَهُ ولَدٌ صَغِيرٌ حُكِمَ بِإيمانِهِ فَإذا بَلَغَ وصَرَّحَ بِالكُفْرِ وأنْكَرَ التَّبَعِيَّةَ قِيلَ بِأنَّهُ لا يَكُونُ مُرْتَدًّا وتَبَيَّنَ بِقَوْلِ إنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْ وقِيلَ بِأنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا لِأنَّهُ كَفَرَ بَعْدَما حُكِمَ بِإيمانِهِ (p-٢١٧)كالمُسْلِمِ الأصْلِيِّ فَإذَنْ بِهَذا الخِلافِ تَبَيَّنَ أنَّ إيمانَهُ يَقْوى وهَذانَ الوَجْهانِ ذَكَرَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ غَيْرَ هَذا وهو أنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ [ البَقَرَةِ: ٢٥١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُلًّا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنى﴾ [ النِّساءِ: ٩٥] وبَيانُهُ هو أنَّ التَّقْدِيرَ أتْبَعْناهم ذُرِّيّاتِهِمْ بِإيمانٍ أيْ بِسَبَبِ إيمانِهِمْ لِأنَّ الإتْباعَ لَيْسَ بِإيمانٍ كَيْفَ كانَ ومِمَّنْ كانَ، وإنَّما هو إيمانُ الآباءِ لَكِنَّ الإضافَةَ تُنْبِئُ عَنْ تَقْيِيدِ وعَدَمِ كَوْنِ الإيمانِ إيمانًا عَلى الإطْلاقِ، فَإنَّ قَوْلَ القائِلِ ماءُ الشَّجَرِ وماءُ الرُّمّانِ يَصِحُّ وإطْلاقُ اسْمِ الماءِ مِن غَيْرِ إضافَةٍ لا يَصِحُّ فَقَوْلُهُ ﴿بِإيمانٍ﴾ يُوهِمُ أنَّهُ إيمانٌ مُضافٌ إلَيْهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [ غافِرٍ: ٨٥] حَيْثُ أثْبَتَ الإيمانَ المُضافَ ولَمْ يَكُنْ إيمانًا، فَقَطَعَ الإضافَةَ مَعَ إرادَتِها لِيُعْلَمَ أنَّهُ إيمانٌ صَحِيحٌ وعَوَّضَ التَّنْوِينَ لِيُعْلَمَ أنَّهُ لا يُوجِبُ الأمانَ في الدُّنْيا إلّا إيمانُ الآباءِ وهَذا وجْهٌ حَسَنٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: هَذا عَوْدٌ إلى ذِكْرِ أهْلِ النّارِ فَإنَّهم مُرْتَهِنُونَ في النّارِ، وأمّا المُؤْمِنُ فَلا يَكُونُ مُرْتَهِنًا قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ﴿إلّا أصْحابَ اليَمِينِ﴾ [ المُدَّثِّرِ: ٣٨ ٣٩] وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾ عامٌّ في كُلِّ أحَدٍ مَرْهُونٍ عِنْدَ اللَّهِ بِالكَسْبِ فَإنْ كَسَبَ خَيْرًا فَكَّ رَقَبَتَهُ وإلّا أُرْبِقَ بِالرَّهْنِ، والَّذِي يَظْهَرُ مِنهُ أنَّهُ عامٌّ في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ، وفي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ الرَّهِينُ فَعَيْلًا بِمَعْنى الفاعِلِ، فَيَكُونُ المَعْنى واللَّهُ أعْلَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ راهِنٌ أيْ دائِمٌ، إنْ أحْسَنَ فَفي الجَنَّةِ مُؤَبَّدًا، وإنْ أساءَ فَفي النّارِ مُخَلَّدًا، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ في الدُّنْيا دَوامَ الأعْمالِ بِدَوامِ الأعْيانِ فَإنَّ العَرَضَ لا يَبْقى إلّا في جَوْهَرٍ ولا يُوجَدُ إلّا فِيهِ، وفي الآخِرَةِ دَوامُ الأعْيانِ بِدَوامِ الأعْمالِ فَإنَّ اللَّهَ يُبْقِي أعْمالَهم لِكَوْنِها عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِنَ الباقِياتِ الصّالِحاتِ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ، والباقِي يَبْقى مَعَ عامِلِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب