الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ وفِيهِ جَوابُ سُؤالٍ وهو أنَّ الخَلْقَ لِلْغَرَضِ يُنْبِئُ عَنِ الحاجَةِ، فَقالَ ما خَلَقْتُهم لِيُطْعِمُونِ، والنَّفْعُ فِيهِ لَهم لا لِي، وذَلِكَ لِأنَّ مَنفَعَةَ العَبْدِ في حَقِّ السَّيِّدِ أنْ يَكْتَسِبَ لَهُ، إمّا بِتَحْصِيلِ المالِ لَهُ أوْ بِحِفْظِ المالِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّ العَبْدَ إنْ كانَ لِلْكَسْبِ فَغَرَضُ التَّحْصِيلِ فِيهِ ظاهِرٌ، وإنْ كانَ لِلشُّغُلِ فَلَوْلا العَبْدُ لاحْتاجَ السَّيِّدُ إلى اسْتِئْجارِ مَن يَفْعَلُ الشُّغُلَ لَهُ فَيَحْتاجُ إلى إخْراجِ مالٍ، والعَبْدُ يَحْفَظُ مالَهُ عَلَيْهِ ويُغْنِيهِ عَنِ الإخْراجِ فَهو نَوْعُ كَسْبٍ فَقالَ تَعالى: ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ أيْ لَسْتُ كالسّادَةِ في طَلَبِ العِبادَةِ بَلْ هُمُ الرّابِحُونَ في عِبادَتِهِمْ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يُقالَ هَذا تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ لِلْعِبادَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الفِعْلَ في العُرْفِ لا بُدَّ لَهُ مِن مَنفَعَةٍ، لَكِنَّ العَبِيدَ عَلى (p-٢٠١)قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِنهم يَكُونُ لِلْعَظَمَةِ والجَمالِ كَمَمالِيكِ المُلُوكِ يُطْعِمُهُمُ المَلِكُ ويَسْقِيهِمْ ويُعْطِيهِمُ الأطْرافَ مِنَ البِلادِ ويُؤْتِيهِمُ الطِّرافَ بَعْدَ التِّلادِ، والمُرادُ مِنهُمُ التَّعْظِيمُ والمُثُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ووَضْعُ اليَمِينِ عَلى الشِّمالِ لَدَيْهِ، وقِسْمٌ مِنهم لِلِانْتِفاعِ بِهِمْ في تَحْصِيلِ الأرْزاقِ أوْ لِإصْلاحِها فَقالَ تَعالى إنِّي خَلَقْتُهم فَلا بُدَّ فِيهِمْ مِن مَنفَعَةٍ فَلْيَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ هَلْ هم مِن قَبِيلِ أنْ يُطْلُبَ مِنهم تَحْصِيلُ رِزْقٍ ولَيْسُوا كَذَلِكَ، فَما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ، أوْ هَلْ هم مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنهم إصْلاحُ قُوتٍ كالطَّبّاخِ والخِوانِيِّ الَّذِي يُقَرُّبُ الطَّعامَ ولَيْسُوا كَذَلِكَ فَما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ، فَإذَنْ هم عَبِيدٌ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ أنْ لا يَتْرُكُوا التَّعْظِيمَ، وفِيهِ لِطائِفُ نَذْكُرُها في مَسائِلَ:
المَسْألَةُ الأُولى: ما الفائِدَةُ في تَكْرارِ الإرادَتَيْنِ، ومَن لا يُرِيدُ مِن أحَدٍ رِزْقًا لا يُرِيدُ أنْ يُطْعِمَهُ ؟ نَقُولُ هو لِما ذَكَرْناهُ مِن قَبْلُ، وهو أنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَطْلُبُ مِنَ العَبْدِ الكَسْبَ لَهُ، وهو طَلَبُ الرِّزْقِ مِنهُ، وقَدْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مالٌ وافِرٌ يَسْتَغْنِي عَنِ الكَسْبِ لَكِنَّهُ يَطْلُبُ مِنهُ قَضاءَ حَوائِجَهُ بِمالِهِ مِنَ المالِ وإحْضارَ الطَّعامِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِن مالِهِ، فالسَّيِّدُ قالَ لا أُرِيدُ ذَلِكَ ولا هَذا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِمَ قَدَّمَ طَلَبَ الرِّزْقِ عَلى طَلَبِ الإطْعامِ ؟ نَقُولُ ذَلِكَ مِن بابِ الِارْتِقاءِ كَقَوْلِ القائِلِ لا أطْلُبُ مِنكَ الإعانَةَ ولا مِمَّنْ هو أقْوى ولا يُعْكَسُ، ويُقالُ فُلانٌ يُكْرِمُهُ الأُمَراءُ بَلِ السَّلاطِينُ ولا يُعْكَسُ، فَقالَ هَهُنا لا أطْلُبُ مِنكم رِزْقًا ولا ما هو دُونَ ذَلِكَ وهو تَقْدِيمُ طَعامٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّيِّدِ فَإنَّ ذَلِكَ أمْرٌ كَثِيرُ الطَّلَبِ مِنَ العِبادِ وإنْ كانَ الكَسْبُ لا يُطْلَبُ مِنهم.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لَوْ قالَ ما أُرِيدُ مِنهم أنْ يَرْزُقُونِ وما أُرِيدُ مِنهم مَنِ الطَّعامِ هَلْ تَحْصُلُ هَذِهِ الفائِدَةُ ؟ نَقُولُ: عَلى ما فَصَّلَ لا وذَلِكَ لِأنَّ بِالتَّكَسُّبِ يُطْلَبُ الغِنى لا الفِعْلُ فَإنِ اشْتَغَلَ بِشُغُلٍ، ولَمْ يَحْصُلْ لَهُ غِنًى لا يَكُونُ كَمَن حَصَلَ لَهُ غِنًى، وإنْ لَمْ يَشْتَغِلْ، كالعَبْدِ المُتَكَسِّبِ إذا تَرَكَ الشُّغُلَ لِحاجَتِهِ ووَجَدَ مَطْلَبًا يَرْضى مِنهُ السَّيِّدُ إذا كانَ شُغُلُهُ التَّكَسُّبَ، وأمّا مَن يُرادُ مِنهُ الفِعْلُ لِذاتِ الفِعْلِ، كالجائِعِ إذا بَعَثَ عَبْدَهُ لِإحْضارِ الطَّعامِ فاشْتَغَلَ بِأخْذِ المالِ مِن مَطْلَبٍ فَرُبَّما لا يَرْضى بِهِ السَّيِّدُ فالمَقْصُودُ مِنَ الرِّزْقِ الغِنى، فَلَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ الفِعْلِ والمَقْصُودُ مِنَ الإطْعامِ الفِعْلُ نَفْسُهُ فَذُكِرَ بِلَفْظِ الفِعْلِ، ولَمْ يَقُلْ وما أُرِيدُ مِنهم مِن طَعامٍ هَذا مَعَ ما في اللَّفْظَيْنِ مِنَ الفَصاحَةِ والجَزالَةِ لِلتَّنْوِيعِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إذا كانَ المَعْنى بِهِ ما ذَكَرْتَ، فَما فائِدَةُ الإطْعامِ وتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ المَقْصُودَ عَدَمُ طَلَبِ فِعْلٍ مِنهم غَيْرَ التَّعْظِيمِ ؟ نَقُولُ لَمّا عَمَّمَ في المَطْلَبِ الأوَّلِ اكْتَفى بِقَوْلِهِ: ﴿مِن رِزْقٍ﴾ فَإنَّهُ يُفِيدُ العُمُومَ، وأشارَ إلى التَّعْظِيمِ فَذَكَرَ الإطْعامَ، وذَلِكَ لِأنَّ أدْنى دَرَجاتِ الأفْعالِ أنْ يَسْتَعِينَ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ أوْ جارِيَتِهِ في تَهْيِئَةِ أمْرِ الطَّعامِ، ونَفْيُ الأدْنى يَسْتَتْبِعُهُ نَفْيُ الأعْلى بِطَرِيقِ الأوْلى فَصارَ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ما أُرِيدُ مِنهُمْ﴾ مِن عَيْنٍ ولا عَمَلٍ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: عَلى ما ذَكَرْتُ لا تَنْحَصِرُ المَطالِبُ فِيما ذَكَرَهُ؛ لِأنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَشْتَرِي العَبْدَ لا لِطَلَبِ عَمَلٍ مِنهُ ولا لِطَلَبِ رِزْقٍ ولا لِلتَّعْظِيمِ، بَلْ يَشْتَرِيهِ لِلتِّجارَةِ والرِّبْحِ فِيهِ، نَقُولُ: عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ﴾ يَتَناوَلُ ذَلِكَ فَإنَّ مَنِ اشْتَرى عَبَدًا لِيَتَّجِرَ فِيهِ فَقَدْ طَلَبَ مِنهُ رِزْقًا.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ”ما أُرِيدُ“ في العَرَبِيَّةِ يُفِيدُ النَّفْيَ في الحالِ، والتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ يُوهِمُ نَفْيَ ما عَدا المَذْكُورِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُرِيدُ مِنهم رِزْقًا لا في الحالِ ولا في الِاسْتِقْبالِ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: ”لا أُرِيدُ مِنهم مِن (p-٢٠٢)رِزْقٍ“ ؟ و”لا أُرِيدُ“ ؟ نَقُولُ ما لِلنَّفْيِ في الحالِ، ولا لِلنَّفْيِ في الِاسْتِقْبالِ، فالقائِلُ إذا قالَ فُلانٌ لا يَفْعَلُ هَذا الفِعْلَ وهو في الفِعْلِ لا يَصْدُقُ، لَكِنَّهُ إذا تَرَكَ مَعَ فَراغِهِ مِن قَوْلِهِ يَصْدُقُ القائِلُ، ولَوْ قالَ ما يَفْعَلُ لَما صَدَقَ فِيما ذَكَرْنا مِنَ الصُّورَةِ، مِثالُهُ إذا كانَ الإنْسانُ في الصَّلاةِ وقالَ قائِلٌ: إنَّهُ ما يُصَلِّي فانْظُرْ إلَيْهِ فَإذا كانَ نَظَرَ إلَيْهِ النّاظِرُ وقَدْ قَطَعَ صَلاةَ نَفْسِهِ صَحَّ أنْ يَقُولَ إنَّكَ لا تُصَلِّي، ولَوْ قالَ القائِلُ إنَّهُ ما يُصَلِّي في تِلْكَ الحالَةِ لَما صَدَقَ، فَإذا عَلِمْتَ هَذا فَكُلُّ واحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ لِلنّافِيَةِ فِيهِ خُصُوصٌ لَكِنَّ النَّفْيَ في الحالِ أوْلى لِأنَّ المُرادَ مِنَ الحالِ الدُّنْيا، والِاسْتِقْبالُ هو في أمْرِ الآخِرَةِ فالدُّنْيا وأُمُورُها كُلُّها حالِيَّةٌ فَقَوْلُهُ: ﴿ما أُرِيدُ﴾ أيْ في هَذِهِ الحالَةِ الرّاهِنَةِ الَّتِي هي ساعَةُ الدُّنْيا، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ العَبْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ لا يَصْلُحُ أنْ يُطْلَبَ مِنهُ رِزْقٌ أوْ عَمَلٌ فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿ما أُرِيدُ﴾ مُفِيدًا لِلنَّفْيِ العامِّ، ولَوْ قالَ لا أُرِيدُ لَما أفادَ ذَلِكَ.
{"ayah":"مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











