الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ يَعْنِي لَيْسَ التَّوَلِّي مُطْلَقًا، بَلْ تَوَلَّ وأقْبِلْ وأعْرِضْ وادْعُ، فَلا التَّوَلِّي يَضُرُّكَ إذا كانَ عَنْهم، ولا التَّذْكِيرُ يَنْفَعُ إلّا إذا كانَ مَعَ المُؤْمِنِينَ، وفِيهِ مَعْنًى آخَرُ ألْطَفُ مِنهُ، وهو أنَّ الهادِيَ إذا كانَتْ هِدايَتُهُ نافِعَةً يَكُونُ ثَوابُهُ أكْثَرَ، فَلَمّا قالَ تَعالى: ﴿فَتَوَلَّ﴾ كانَ يَقَعُ لِمُتَوَهِّمٍ أنْ يَقُولَ: فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ لِلنَّبِيِّ ﷺ ثَوابٌ عَظِيمٌ، فَقُلْ بَلى وذَلِكَ لِأنَّ في المُؤْمِنِينَ كَثْرَةً، فَإذا ذَكَّرْتَهم زادَ هُداهم، وزِيادَةُ الهُدى مِن قَوْلِهِ كَزِيادَةِ القَوْمِ، فَإنَّ قَوْمًا كَثِيرًا إذا صَلّى كُلُّ واحِدٍ رَكْعَةً أوْ رَكْعَتَيْنِ، وقَوْمًا قَلِيلًا إذا صَلّى كُلُّ واحِدٍ ألْفَ رَكْعَةٍ تَكُونُ العِبادَةُ في الكَثْرَةِ كالعِبادَةِ عَنْ زِيادَةِ العَدَدِ، فالهادِي لَهُ عَلى عِبادَةِ كُلِّ مُهْتَدٍ أجْرٌ، ولا يَنْقُصُ أجْرُ المُهْتَدِي، قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ لَكَ لَأجْرًا﴾ [القلم: ٣] أيْ وإنْ تَوَلَّيْتَ بِسَبَبِ انْتِفاعِ المُؤْمِنِينَ بَلْ وحالَةِ إعْراضِكَ عَنِ المُعانِدِينَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: أنْ يُرادَ قُوَّةُ يَقِينِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿لِيَزْدادُوا إيمانًا﴾ [الفتح: ٤] وقالَ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا﴾ [التوبة: ١٢٤] وقالَ تَعالى: ﴿زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧] . ثانِيها: تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَعْدَكَ فَكَأنَّكَ إذا أكْثَرْتَ التَّذْكِيرَ بِالتَّكْرِيرِ نُقِلَ عَنْكَ ذَلِكَ بِالتَّواتُرِ فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَن يَجِيءُ بَعْدَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. ثالِثُها: هو أنَّ الذِّكْرى إنْ أفادَ إيمانَ كافِرٍ فَقَدْ نَفَعَ مُؤْمِنًا لِأنَّهُ صارَ مُؤْمِنًا، وإنْ لَمْ يُفِدْ يُوجِدُ حَسَنَةً ويُزادُ في حَسَنَةِ المُؤْمِنِينَ فَيَنْتَفِعُوا، وهَذا هو الَّذِي قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها﴾ [الزخرف: ٧٢] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ فِيها فَوائِدُ كَثِيرَةٌ، ولْنَذْكُرْها عَلى وجْهِ الِاسْتِقْصاءِ، فَنَقُولُ أمّا تَعَلُّقُها بِما قَبْلَها فَلِوُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وذَكِّرْ﴾ يَعْنِي أقْصى غايَةِ التَّذْكِيرِ وهو أنَّ الخَلْقَ لَيْسَ إلّا لِلْعِبادَةِ، فالمَقْصُودُ مِن إيجادِ الإنْسانِ العِبادَةُ فَذَكِّرْهم بِهِ وأعْلِمْهم أنَّ كُلَّ ما عَداهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمانِ. الثّانِي: هو أنّا ذَكَرْنا مِرارًا أنَّ شُغُلَ الأنْبِياءِ مُنْحَصِرٌ في أمْرَيْنِ عِبادَةِ اللَّهِ وهِدايَةِ الخَلْقِ، فَلَمّا قالَ تَعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم فَما أنْتَ بِمَلُومٍ﴾ بَيَّنَ أنَّ الهِدايَةَ قَدْ تَسْقُطُ عِنْدَ اليَأْسِ وعَدَمِ المُهْتَدِي، وأمّا العِبادَةُ فَهي لازِمَةٌ والخَلْقُ المُطْلَقُ لَها ولَيْسَ الخَلْقُ المُطْلَقُ لِلْهِدايَةِ، فَما أنْتَ بِمَلُومٍ إذا أتَيْتَ بِالعِبادَةِ الَّتِي هي أصْلٌ إذا تَرَكْتَ الهِدايَةَ بَعْدَ بَذْلِ الجُهْدِ فِيها. الثّالِثُ: هو أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ حالَ مَن قَبْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ لِيُبَيِّنَ سُوءَ صَنِيعِهِمْ حَيْثُ تَرَكُوا عِبادَةَ اللَّهِ فَما كانَ خَلْقُهم إلّا لِلْعِبادَةِ، وأمّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: المَلائِكَةُ أيْضًا مِن أصْنافِ المُكَلَّفِينَ ولَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ مَعَ أنَّ المَنفَعَةَ الكُبْرى في إيجادِهِ لَهم هي العِبادَةُ ولِهَذا قالَ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ فَما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ (p-١٩٩)نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ. الأوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنا في بَعْضِ الوُجُوهِ أنَّ تَعَلُّقَ الآيَةِ بِما قَبْلَها بَيانُ قُبْحِ ما يَفْعَلُهُ الكَفَرَةُ مِن تَرْكِ ما خُلِقُوا لَهُ، وهَذا مُخْتَصٌّ بِالجِنِّ والإنْسِ لِأنَّ الكُفْرَ في الجِنِّ أكْثَرُ، والكافِرُ مِنهم أكْثَرُ مِنَ المُؤْمِنِ لِما بَيَّنّا أنَّ المَقْصُودَ بَيانُ قُبْحِهِمْ وسُوءِ صَنِيعِهِمْ. الثّانِي: هو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ مَبْعُوثًا إلى الجِنِّ، فَلَمّا قالَ وذَكِّرْهم ما يُذَكَّرُ بِهِ وهو كَوْنُ الخَلْقِ لِلْعِبادَةِ خَصَّ أُمَّتَهُ بِالذِّكْرِ أيْ ذِكْرِ الجِنِّ والإنْسِ. الثّالِثُ: أنَّ عُبّادَ الأصْنامِ كانُوا يَقُولُونَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى عَظِيمُ الشَّأْنِ خَلَقَ المَلائِكَةَ وجَعَلَهم مُقَرَّبِينَ فَهم يَعْبُدُونَ اللَّهَ وخَلَقَهم لِعِبادَتِهِ ونَحْنُ لِنُزُولِ دَرَجَتِنا لا نَصْلُحُ لِعِبادَةِ اللَّهِ فَنَعْبُدُ المَلائِكَةَ وهم يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَقالَ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ولَمْ يَذْكُرِ المَلائِكَةَ لِأنَّ الأمْرَ فِيهِمْ كانَ مُسَلَّمًا بَيْنَ القَوْمِ فَذَكَرَ المُتَنازَعَ فِيهِ. الرّابِعُ: قِيلَ الجِنُّ يَتَناوَلُ المَلائِكَةَ لِأنَّ الجِنَّ أصْلُهُ مِنَ الِاسْتِتارِ وهم مُسْتَتِرُونَ عَنِ الخَلْقِ، وعَلى هَذا فَتَقْدِيمُ الجِنِّ لِدُخُولِ المَلائِكَةِ فِيهِمْ وكَوْنِهِمْ أكْثَرَ عِبادَةً وأخْلَصَها. الخامِسُ: قالَ بَعْضُ النّاسِ كُلَّما ذَكَرَ اللَّهُ الخَلْقَ كانَ فِيهِ التَّقْدِيرُ في الجِرْمِ والزَّمانِ قالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ [الفرقان: ٥٩] وقالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٩ ] وقالَ: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وما لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الأمْرِ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] وقالَ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] وقالَ تَعالى: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] والمَلائِكَةُ كالأرْواحِ مِن عالَمِ الأمْرِ أوَجَدَهم مِن غَيْرِ مُرُورِ زَمانٍ فَقَوْلُهُ: ﴿وما خَلَقْتُ﴾ إشارَةٌ إلى مَن هو مِن عالَمِ الخَلْقِ فَلا يَدْخُلُ فِيهِ المَلائِكَةُ، وهو باطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦] فالمَلَكُ مِن عالَمِ الخَلْقِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَقْدِيمُ الجِنِّ عَلى الإنْسِ لِأيَّةِ حِكْمَةٍ ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: بَعْضُها مَرَّ في المَسْألَةِ الأُولى. الثّانِي: هو أنَّ العِبادَةَ سِرِّيَّةٌ وجَهْرِيَّةٌ، ولِلسِّرِّيَّةِ فَضْلٌ عَلى الجَهْرِيَّةِ لَكِنَّ عِبادَةَ الجِنِّ سِرِّيَّةٌ لا يَدْخُلُها الرِّياءُ العَظِيمُ، وأمّا عِبادَةُ الإنْسِ فَيَدْخُلُها الرِّياءُ فَإنَّهُ قَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِأبْناءِ جِنْسِهِ، وقَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِيَسْتَخْبِرَ مِنَ الجِنِّ أوْ مَخافَةً مِنهم ولا كَذَلِكَ الجِنُّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: فِعْلُ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ لِغَرَضٍ وإلّا لَكانَ بِالغَرَضِ مُسْتَكْمِلًا وهو في نَفْسِهِ كامِلٌ فَكَيْفَ يُفْهَمُ لِأمْرِ اللَّهِ الغَرَضُ والعِلَّةُ ؟ نَقُولُ المُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ، وقالُوا: أفْعالُ اللَّهِ تَعالى لِأغْراضٍ وبالَغُوا في الإنْكارِ عَلى مُنْكِرِي ذَلِكَ، ونَحْنُ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنَّ التَّعْلِيلَ لَفْظِيٌّ ومَعْنَوِيٌّ، واللَّفْظِيُّ ما يُطْلِقُ النّاظِرُ إلَيْهِ اللَّفْظَ عَلَيْهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الحَقِيقَةِ، مِثالُهُ إذا خَرَجَ مَلِكٌ مِن بِلادِهِ ودَخَلَ بِلادَ العَدُوِّ وكانَ في قَلْبِهِ أنْ يُتْعِبَ عَسْكَرَ نَفْسِهِ لا غَيْرُ، فَفي المَعْنى المَقْصُودِ ذَلِكَ، وفي اللَّفْظِ لا يَصِحُّ ولَوْ قالَ هو: أنا ما سافَرْتُ إلّا لِابْتِغاءِ أجْرٍ أوْ لِأسْتَفِيدَ حَسَنَةً، يُقالُ: هَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ ولا يَصِحُّ عَلَيْهِ، ولَوْ قالَ قائِلٌ في مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَرَجَ لِيَأْخُذَ بِلادَ العَدُوِّ ولِيُرْهِبَهُ لَصُدِّقَ، فالتَّعْلِيلُ اللَّفْظِيُّ هو جَعْلُ المَنفَعَةِ المُعْتَبَرَةِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ الَّذِي فِيهِ المَنفَعَةُ، يُقالُ اتَّجَرَ لِلرِّبْحِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في الحَقِيقَةِ لَهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا، فَنَقُولُ: الحَقائِقُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ النّاسِ، والمَفْهُومُ مِنَ النُّصُوصِ مَعانِيها اللَّفْظِيَّةُ لَكِنَّ الشَّيْءَ إذا كانَ فِيهِ مَنفَعَةٌ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِها لَفْظًا والنِّزاعُ في الحَقِيقَةِ في اللَّفْظِ. الثّانِي: هو أنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ كالتَّمَنِّي والتَّرَجِّي في كَلامِ اللَّهِ تَعالى وكَأنَّهُ يَقُولُ العِبادَةُ عِنْدَ الخَلْقِ شَيْءٌ لَوْ كانَ ذَلِكَ مِن أفْعالِكم لَقُلْتُمْ إنَّهُ لَها، كَما قُلْنا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: ٤٤] أيْ بِحَيْثُ يَصِيرُ تَذْكِرَةً عِنْدِكم مَرْجُوًّا وقَوْلُهُ: ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٢٩] أيْ يَصِيرُ إهْلاكُهُ عِنْدَكم مَرْجُوًّا تَقُولُونَ: إنَّهُ قَرُبَ. الثّانِي: هو أنَّ اللّامَ قَدْ تَثْبُتُ فِيما لا يَصِحُّ غَرَضًا كَما في الوَقْتِ قالَ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ (p-٢٠٠)[الإسراء: ٧٨] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] والمُرادُ المُقارَنَةُ، وكَذَلِكَ في جَمِيعِ الصُّوَرِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْناهُ قَرَنْتُ الخَلْقَ بِالعِبادَةِ أيْ بِفَرْضِ العِبادَةِ أيْ خَلَقْتُهم وفَرَضْتُ عَلَيْهِمُ العِبادَةَ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى عَدَمِ جَوازِ التَّعْلِيلِ الحَقِيقِيِّ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى مُسْتَغْنٍ عَنِ المَنافِعِ فَلا يَكُونُ فِعْلُهُ لِمَنفَعَةٍ راجِعَةٍ إلَيْهِ ولا إلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ عَلى إيصالِ المَنفَعَةِ إلى الغَيْرِ مِن غَيْرِ واسِطَةِ العَمَلِ فَيَكُونُ تَوَسُّطَ ذَلِكَ لا لِيَكُونَ عِلَّةً، وإذا لَزِمَ القَوْلُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَفْعَلُ فِعْلًا هو لِمُتَوَسِّطٍ لا لِعِلَّةٍ لَزِمَهُمُ المَسْألَةُ، وأمّا النُّصُوصُ فَأكْثَرُ مِن أنْ تُعَدَّ وهي عَلى أنْواعٍ، مِنها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الإضْلالَ بِفِعْلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ [فاطر: ٨] وأمْثالِهِ، ومِنها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الأشْياءَ كُلَّها بِخَلْقِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦] ومِنها الصَّرايِحُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى عَدَمِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ ﴿يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ [ المائِدَةِ:١] والِاسْتِقْصاءُ مُفَوَّضٌ فِيهِ إلى المُتَكَلِّمِ الأُصُولِيِّ لا إلى المُفَسِّرِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾ [الحجرات: ١٣] وقالَ: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ فَهَلْ بَيْنَها اخْتِلافٌ ؟ نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى عَلَّلَ جَعْلَهم شُعُوبًا بِالتَّعارُفِ، وهَهُنا عَلَّلَ خَلْقَهم بِالعِبادَةِ وقَوْلُهُ هُناكَ: ﴿أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] دَلِيلٌ عَلى ما ذَكَرَهُ هَهُنا ومُوافِقٌ لَهُ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ أتْقى كانَ أعْبَدَ وأخْلَصَ عَمَلًا، فَيَكُونُ المَطْلُوبُ مِنهُ أتَمَّ في الوُجُودِ فَيَكُونُ أكْرَمَ وأعَزَّ، كالشَّيْءِ الَّذِي مَنفَعَتُهُ فائِدَةٌ، وبَعْضُ أفْرادِهِ يَكُونُ أنْفَعَ في تِلْكَ الفائِدَةِ، مِثالُهُ: الماءُ إذا كانَ مَخْلُوقًا لِلتَّطْهِيرِ والشُّرْبِ فالصّافِي مِنهُ أكْثَرُ فائِدَةً في تِلْكَ المَنفَعَةِ فَيَكُونُ أشْرَفَ مِن ماءٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ العَبْدُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ما هو المَطْلُوبُ مِنهُ عَلى وجْهٍ أبْلَغَ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما العِبادَةُ الَّتِي خُلِقَ الجِنُّ والإنْسُ لَها ؟ قُلْنا: التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، فَإنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَخْلُ شَرْعٌ مِنهُما، وأمّا خُصُوصُ العِباداتِ فالشَّرائِعُ مُخْتَلِفَةٌ فِيها بِالوَضْعِ والهَيْئَةِ والقِلَّةِ والكَثْرَةِ والزَّمانِ والمَكانِ والشَّرائِطِ والأرْكانِ، ولَمّا كانَ التَّعْظِيمُ اللّائِقُ بِذِي الجَلالِ والإكْرامِ لا يُعْلَمُ عَقْلًا لَزِمَ اتِّباعُ الشَّرائِعِ فِيها والأخْذُ بِقَوْلِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَقَدْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلى عِبادِهِ بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإيضاحِ السُّبُلِ في نَوْعَيِ العِبادَةِ، وقِيلَ إنَّ مَعْناهُ لِيَعْرِفُونِي، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ عَنْ رَبِّهِ ”كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأرَدْتُ أنْ أُعْرَفَ“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب