الباحث القرآني

(p-١٨٩)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وفِي مُوسى إذْ أرْسَلْناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ وقالَ ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ . قَوْلُهُ: ﴿وفِي مُوسى﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَعْلُومٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَذْكُورٍ، أمّا الأوَّلُ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ ذَلِكَ في إبْراهِيمَ وفي مُوسى؛ لِأنَّ مَن ذَكَرَ إبْراهِيمَ يَعْلَمُ ذَلِكَ. الثّانِي: لِقَوْمِكَ في لُوطٍ وقَوْمِهِ عِبْرَةٌ، وفي مُوسى وفِرْعَوْنَ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ هُناكَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: تَفَكَّرُوا في إبْراهِيمَ ولُوطٍ وقَوْمِهِما، وفي مُوسى وفِرْعَوْنَ، والكُلُّ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ. وأمّا الثّانِي فَفِيهِ أيْضًا وُجُوهٌ. أحَدُها: أنَّهُ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾، ﴿وفِي مُوسى﴾ وهو بَعِيدٌ لِبُعْدِهِ في الذِّكْرِ، ولِعَدَمِ المُناسِبَةِ بَيْنَهُما. ثانِيها: أنَّهُ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ﴾، ﴿وفِي مُوسى﴾ أيْ: وجَعَلْنا في مُوسى عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا، وتَقَلَّدْتُ سَيْفًا ورُمْحًا، وهو أقْرَبُ، ولا يَخْلُو عَنْ تَعَسُّفٍ إذا قُلْنا بِما قالَ بِهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَرَكْنا فِيها﴾ عائِدٌ إلى القَرْيَةِ. ثالِثُها: أنْ نَقُولَ ”فِيها“ راجِعٌ إلى الحِكايَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وتَرَكْنا في حِكايَتِهِمْ آيَةً أوْ في قِصَّتِهِمْ، فَيَكُونُ: وفي قِصَّةِ مُوسى آيَةٌ، وهو قَرِيبٌ مِنَ الِاحْتِمالِ الأوَّلِ، وهو العَطْفُ عَلى المَعْلُومِ. رابِعُها: أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى هَلْ أتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْراهِيمَ وتَقْدِيرُهُ: وفي مُوسى حَدِيثٌ إذْ أرْسَلْناهُ، وهو مُناسِبٌ إذْ جَمَعَ اللَّهُ كَثِيرًا مِن ذِكْرِ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما في صُحُفِ مُوسى﴾ ﴿وإبْراهِيمَ الَّذِي وفّى﴾ [النجم: ٣٦] وقالَ تَعالى: ﴿صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى﴾ والسُّلْطانُ القُوَّةُ بِالحُجَّةِ والبُرْهانِ، والمُبِينُ الفارِقُ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ ما كانَ مَعَهُ مِنَ البَراهِينِ القاطِعَةِ الَّتِي حاجَّ بِها فِرْعَوْنَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ المُعْجِزُ الفارِقُ بَيْنَ سِحْرِ السّاحِرِ وأمْرِ المُرْسَلِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: الباءُ لِلْمُصاحَبَةِ، والرَّكْنُ إشارَةٌ إلى القَوْمِ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: أعْرَضَ مَعَ قَوْمِهِ، يُقالُ نَزَلَ فُلانٌ بِعَسْكَرِهِ عَلى كَذا، ويَدُلُّ عَلى هَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأراهُ الآيَةَ الكُبْرى﴾ ﴿فَكَذَّبَ وعَصى﴾ ﴿ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى﴾ [النازعات: ٢٢ - ٢٣] قالَ: ﴿أدْبَرَ﴾ وهو بِمَعْنى تَوَلّى وقَوْلُهُ: ﴿فَحَشَرَ فَنادى﴾ [النازعات: ٢٣] في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِرُكْنِهِ﴾ . الثّانِي: ﴿فَتَوَلّى﴾ أيِ اتَّخَذَ ولِيًّا، والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ حِينَئِذٍ يَعْنِي تَقَوّى بِجُنْدِهِ. والثّالِثُ: تَوَلّى أمْرَ مُوسى بِقُوَّتِهِ، كَأنَّهُ قالَ: أقْتُلُ مُوسى لِئَلّا يُبَدِّلُ دِينَكم، ولا يُظْهِرَ في الأرْضِ الفَسادَ، فَتَوَلّى أمْرَهُ بِنَفْسِهِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ المَفْعُولُ غَيْرَ مَذْكُورٍ، ورُكْنُهُ هو نَفْسُهُ القَوِيَّةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن رُكْنِهِ هامانَ، فَإنَّهُ كانَ وزِيرَهُ، وعَلى هَذا الوَجْهِ الثّانِي أظْهَرُ. ﴿وقالَ ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ أيْ هَذا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ، وقَوْلُهُ: ﴿ساحِرٌ﴾ أيْ يَأْتِي الجِنَّ بِسِحْرِهِ أوْ يَقْرُبُ مِنهم، والجِنُّ يَقْرُبُونَ مِنهُ ويَقْصِدُونَهُ إنْ كانَ هو لا يَقْصِدُهم، فالسّاحِرُ والمَجْنُونُ كِلاهُما أمْرُهُ مَعَ الجِنِّ، غَيْرَ أنَّ السّاحِرَ يَأْتِيهِمْ بِاخْتِيارِهِ، والمَجْنُونَ يَأْتُونَهُ مِن غَيْرِ اخْتِيارِهِ، فَكَأنَّهُ أرادَ صِيانَةَ كَلامِهِ عَنِ الكَذِبِ. فَقالَ هو يَسْحَرُ الجِنَّ أوْ يُسْحَرُ، فَإنْ كانَ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنهُ خَبَرٌ، ولا يَقْصِدُ ذَلِكَ فالجِنُّ يَأْتُونَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب