الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَراغَ إلى أهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ ﴿فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قالَ ألا تَأْكُلُونَ﴾ بِفاءِ التَّعْقِيبِ فَدَلَّ عَلى أنَّ تَقْرِيبَ الطَّعامِ مِنهم بَعْدَ حُصُولِ الإنْكارِ لَهم، فَما الوَجْهُ فِيهِ ؟ نَقُولُ: جازَ أنْ يَحْصُلَ أوَّلًا عِنْدَهُ مِنهم نُكْرٌ ثُمَّ زادَ عِنْدَ إمْساكِهِمْ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى هَذا هو أنَّهم كانُوا عَلى شَكْلٍ وهَيْئَةٍ غَيْرَ ما يَكُونُ عَلَيْهِ النّاسُ وكانُوا في أنْفُسِهِمْ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ مُنْكَرِينَ، واشْتَرَكَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وغَيْرُهُ فِيهِ، ولِهَذا لَمْ يَقُلْ أنْكَرْتُكم، بَلْ قالَ: ﴿قالَ إنَّكم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الحِجْرِ: ٦٢ ] في أنْفُسِكم عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ مِنّا، ثُمَّ إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَفَرَّدَ بِمُشاهَدَةِ أمْرٍ مِنهم هو الإمْساكُ فَنَكِرَهم فَوْقَ ما كانَ مِنهم بِالنِّسْبَةِ إلى الكُلِّ، لَكِنَّ الحالَةَ في سُورَةِ هُودٍ مَحْكِيَّةٌ عَلى وجْهٍ أبْسَطَ مِمّا ذَكَرَهُ هَهُنا، فَإنَّ هَهُنا لَمْ يُبَيِّنِ المُبَشَّرَ بِهِ، وهُناكَ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ وهو إسْحاقُ، ولَمْ يُقِلْ هَهُنا إنَّ القَوْمَ قَوْمُ مَن وهُناكَ قالَ قَوْمُ لُوطٍ، وفي الجُمْلَةِ مَن يَتَأمَّلُ السُّورَتَيْنِ يَعْلَمُ أنَّ الحِكايَةَ مَحْكِيَّةٌ هُناكَ عَلى وجْهِ الإضافَةِ أبْسَطَ، فَذَكَرَ فِيها النُّكْتَةَ الزّائِدَةَ، ولَمْ يَذْكُرْ هَهُنا. ولْنَعُدْ إلى بَيانِ ما أتى بِهِ مِن آدابِ الإضافَةِ وما أتَوْا بِهِ مِن آدابِ الضِّيافَةِ، فالإكْرامُ أوَّلًا مِمَّنْ جاءَهُ ضَيْفٌ قَبْلَ أنْ يَجْتَمِعَ بِهِ ويُسَلِّمَ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ أنْواعٌ مِنَ الإكْرامِ وهي اللِّقاءُ الحَسَنُ والخُرُوجُ إلَيْهِ والتَّهَيُّؤُ لَهُ ثُمَّ السَّلامُ مِنَ الضَّيْفِ عَلى الوَجْهِ الحَسَنِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصْبُ في قَوْلِهِ: ﴿سَلامًا﴾ إمّا لِكَوْنِهِ مُؤَكَّدًا بِالمَصْدَرِ أوْ لِكَوْنِهِ مُبَلِّغًا مِمَّنْ هو أعْظَمُ مِنهُ، ثُمَّ الرَّدُّ الحَسَنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الرَّفْعُ والإمْساكُ عَنِ الكَلامِ لا يَكُونُ فِيهِ وفاءٌ فَإنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكم بَلْ قالَ أمْرِي مُسالِمَةٌ أوْ قَوْلُكم سَلامٌ وسَلامُكم مُنْكَرٌ فَإنَّ ذَلِكَ وإنْ كانَ مُخِلًّا بِالإكْرامِ، لَكِنَّ العُذْرَ لَيْسَ مِن شِيَمِ الكِرامِ، ومَوَدَّةُ أعْداءِ اللَّهِ لا تَلِيقُ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. ثُمَّ تَعْجِيلُ القِرى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَبِثَ أنْ جاءَ﴾ [هود: ٦٩] (p-١٨٤)وقَوْلُهُ هَهُنا: ﴿فَراغَ﴾ فَإنَّ الرَّوَغانَ يَدُلُّ عَلى السُّرْعَةِ والرَّوْغِ الَّذِي بِمَعْنى النَّظَرِ الخَفِيِّ أوِ الرَّواحِ المَخْفِيِّ أيْضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ الإخْفاءُ فَإنَّ المُضِيفَ إذا أحْضَرَ شَيْئًا يَنْبَغِي أنْ يُخْفِيَهُ عَنِ الضَّيْفِ كَيْ لا يَمْنَعَهُ مِنَ الإحْضارِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ راغَ هو ولَمْ يَقُلْ هاتُوا، وغَيْبَةُ المُضِيفِ لَحْظَةً مِنَ الضَّيْفِ مُسْتَحْسَنٌ لِيَسْتَرِيحَ ويَأْتِيَ بِدَفْعِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ ويَمْنَعُهُ الحَياءُ مِنهُ. ثُمَّ اخْتِيارُ الأجْوَدِ بِقَوْلِهِ: ﴿سَمِينٍ﴾ ثُمَّ تَقْدِيمُ الطَّعامِ إلَيْهِمْ لا نَقْلُهم إلى الطَّعامِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ﴾ لِأنَّ مَن قَدَّمَ الطَّعامَ إلى قَوْمٍ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مُسْتَقِرًّا في مَقَرِّهِ لا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ المَكانُ فَإنْ نَقَلَهم إلى مَكانِ الطَّعامِ رُبَّما يَحْصُلُ هُناكَ اخْتِلافُ جُلُوسٍ فَيُقَرَّبُ الأدْنى ويُضَيَّقُ عَلى الأعْلى. ثُمَّ العَرْضُ لا الأمْرُ حَيْثُ قالَ: ﴿ألا تَأْكُلُونَ﴾ ولَمْ يَقُلْ كُلُوا. ثُمَّ كَوْنُ المُضِيفِ مَسْرُورًا بِأكْلِهِمْ غَيْرَ مَسْرُورٍ بِتَرْكِهِمُ الطَّعامَ كَما يُوجَدُ في بَعْضِ البُخَلاءِ المُتَكَلِّفِينَ الَّذِينَ يُحْضِرُونَ طَعامًا كَثِيرًا، ويَكُونُ نَظَرُهُ ونَظَرُ أهْلِ بَيْتِهِ في الطَّعامِ مَتى يُمْسِكُ الضَّيْفُ يَدَهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب