الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ . وقَدْ ذَكَرْنا مِرارًا أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعْدَ ذِكْرِ تَعْظِيمِ نَفْسِهِ يَذْكُرُ الشَّفَقَةَ عَلى خَلْقِهِ، ولا شَكَّ أنَّ قَلِيلَ الهُجُوعِ المُسْتَغْفِرَ في وُجُوهِ الأسْحارِ وُجِدَ مِنهُ التَّعْظِيمُ العَظِيمُ، فَأشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أضافَ المالَ إلَيْهِمْ، وقالَ في مَواضِعَ: ﴿أنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ [يس: ٤٧] وقالَ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ نَقُولُ: سَبَبُهُ أنَّ في تِلْكَ المَواضِعِ كانَ الذِّكْرُ لِلْحَثِّ، فَذَكَرَ مَعَهُ ما يَدْفَعُ الحَثَّ ويَرْفَعُ المانِعَ، فَقالَ: هو رِزْقُ اللَّهِ واللَّهُ يُزْرُقُكم فَلا تَخافُوا الفَقْرَ وأعْطُوا، وأمّا هَهُنا فَمَدَحَ عَلى ما فَعَلُوهُ فَلَمْ يَكُنْ إلى (p-١٧٧)الحِرْصِ حاجَةٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَشْهُورُ في الحَقِّ أنَّهُ هو القَدْرُ الَّذِي عُلِمَ شَرْعًا وهو الزَّكاةُ وحِينَئِذٍ لا يَبْقى هَذا صِفَةُ مَدْحٍ؛ لِأنَّ كَوْنَ المُسْلِمِ في مالِهِ حَقٌّ وهو الزَّكاةُ لَيْسَ صِفَةَ مَدْحٍ لِأنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ، بَلِ الكافِرُ إذا قُلْنا إنَّهُ مُخاطَبٌ بِفُرُوعِ الإسْلامِ في مالِهِ حَقٌّ مَعْلُومٌ غَيْرَ أنَّهُ إذا أسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ وإنْ ماتَ عُوقِبَ عَلى تَرْكِهِ، وإنْ أدّى مِن غَيْرِ الإسْلامِ لا يَقَعُ المَوْقِعُ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ كَوْنُهُ مَدْحًا ؟ نَقُولُ الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنّا نُفَسِّرُ السّائِلَ بِمَن يَطْلُبُ شَرْعًا، والمَحْرُومَ الَّذِي لا مَكِنَةَ لَهُ مِنَ الطَّلَبِ ومَنعَهُ الشّارِعُ مِنَ المُطالَبَةِ، ثُمَّ إنَّ المَنعَ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الطّالِبِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ، وقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ المَطْلُوبِ مِنهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلا يُطالَبُ فَقالَ تَعالى في مالِهِ حَقٌّ لِلطّالِبِ وهو الزَّكاةُ ولِغَيْرِ الطّالِبِ وهو الصَّدَقَةُ المُتَطَوَّعُ بِها فَإنَّ ذَلِكَ المالِكَ لا يُطالَبُ بِها ويُحْرَمُ الطّالِبُ مِنهُ طَلَبًا عَلى سَبِيلِ الجِزْيَةِ والزَّكاةِ، بَلْ يَسْألُ سُؤالًا اخْتِيارِيًّا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كَأنَّهُ قالَ في مالِهِ زَكاةٌ وصَدَقَةٌ والصَّدَقَةُ في المالِ لا تَكُونُ إلّا بِفَرْضِهِ هو ذَلِكَ وتَقْدِيرِهِ وإفْرازِهِ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ. الجَوابُ الثّانِي: هو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ﴾ أيْ مالُهم ظَرْفٌ لِحُقُوقِهِمْ فَإنَّ كَلِمَةَ في لِلظَّرْفِيَّةِ لَكِنَّ الظَّرْفَ لا يُطْلَبُ إلّا لِلْمَظْرُوفِ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ هم لا يَطْلُبُونَ المالَ ولا يَجْمَعُونَهُ إلّا ويَجْعَلُونَهُ ظَرْفًا لِلْحَقِّ، ولا شَكَّ أنَّ المَطْلُوبَ مِنَ الظَّرْفِ هو المَظْرُوفُ، والظَّرْفُ مالُهم فَجَعَلَ مالَهم ظَرْفًا لِلْحُقُوقِ ولا يَكُونُ فَوْقَ هَذا مَدْحٌ فَإنْ قِيلَ فَلَوْ قِيلَ مالُهم لِلسّائِلِ هَلْ كانَ أبْلَغَ ؟ قُلْنا: لا وذَلِكَ لِأنَّ مَن يَكُونُ لَهُ أرْبَعُونَ دِينارًا فَتَصَدَّقَ بِها لا تَكُونُ صَدَقَتُهُ دائِمَةً لَكِنْ إذا اجْتَهَدَ واتَّجَرَ وعاشَ سِنِينَ وأدّى الزَّكاةَ والصَّدَقَةَ يَكُونُ مِقْدارُ المُؤَدّى أكْثَرَ وهَذا كَما في الصَّلاةِ والصَّوْمِ ولَوْ أضْعَفَ واحِدٌ نَفْسَهُ بِهِما حَتّى عَجَزَ عَنْهُما لا يَكُونُ مِثْلَ مَنِ اقْتَصَدَ فِيهِما، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ﷺ: ”«إنَّ هَذا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإنَّ المُنْبَتَّ لا أرْضًا قَطَعَ ولا ظَهْرًا أبْقى» “ وفي السّائِلِ والمَحْرُومِ وُجُوهٌ. أحَدُها: أنَّ السّائِلَ هو النّاطِقُ وهو الآدَمِيُّ والمَحْرُومُ كُلُّ ذِي رُوحٍ غَيْرُهُ مِنَ الحَيَواناتِ المَحْرُومَةِ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«لِكُلِّ كَبِدٍ حَرّى أجْرٌ» “ . وثانِيها: وهو الأظْهَرُ والأشْهَرُ، أنَّ السّائِلَ هو الَّذِي يَسْألُ، والمَحْرُومَ المُتَعَفِّفُ الَّذِي يَحْسَبُهُ بَعْضُ النّاسِ غَنِيًّا فَلا يُعْطِيهِ شَيْئًا. والأوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُوا وارْعَوْا أنْعامَكُمْ﴾ [طه: ٥٤] . والثّانِي: كَقَوْلِهِ: ﴿وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرَّ﴾ [الحج: ٣٦] فالقانِعُ كالمَحْرُومِ فَإنْ قِيلَ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ التَّرْتِيبُ في غايَةِ الحُسْنِ، فَإنَّ دَفْعَ حاجَةِ النّاطِقِ مُقَدَّمٌ عَلى دَفْعِ حاجَةِ البَهائِمِ، فَما وجْهُ التَّرْتِيبِ في الوَجْهِ الثّانِي ؟ نَقُولُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ السّائِلَ انْدِفاعُ حاجَتِهِ قَبْلَ انْدِفاعِ حاجَةِ المَحْرُومِ في الوُجُودِ لِأنَّهُ يُعْرَفُ حالُهُ بِمَقالِهِ ويَطْلُبُ لِقِلَّةِ مالِهِ فَيُقَدَّمُ بِدَفْعِ حاجَتِهِ، والمَحْرُومَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلا تَنْدَفِعُ حاجَتُهُ إلّا بَعْدَ الِاطِّلاعِ عَلَيْهِ، فَكانَ الذِّكْرُ عَلى التَّرْتِيبِ الواقِعِ. وثانِيهِما: هو أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى كَثْرَةِ العَطاءِ فَيَقُولُ يُعْطِي السّائِلَ فَإذا لَمْ يَجِدْهم يَسْألْ هو عَنِ المُحْتاجِينَ فَيَكُونُ سائِلًا ومَسْؤُولًا. الثّالِثُ: هو أنَّ المَحاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ في الكَلامِ الحِكَمِيِّ، فَإنَّ قَوْلَ القائِلِ إنَّ رُجُوعَهم إلَيْنا وعَلَيْنا حِسابُهم لَيْسَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٦] والكَلامُ لَهُ جِسْمٌ وهو اللَّفْظُ ولَهُ رُوحٌ وهو المَعْنى، وكَما أنَّ الإنْسانَ الَّذِي نَوَّرَ رُوحَهُ بِالمَعْرِفَةِ يَنْبَغِي أنْ يُنَوِّرَ جِسْمَهُ الظّاهِرَ بِالنَّظافَةِ، كَذَلِكَ الكَلامُ ورُبَّ كَلِمَةٍ حِكَمَيَّةٍ لا تُؤَثِّرُ في النُّفُوسِ لِرَكاكَةِ لَفْظِها، إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ أحْسَنُ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ مِن قَوْلِنا وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ، وفي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلْمَحْرُومِ والسّائِلِ، فَإنْ قِيلَ قُدِّمَ السّائِلُ عَلى المَحْرُومِ هَهُنا لِما ذَكَرْتَ مِنَ الوُجُوهِ، ولِمَ قُدِّمَ المَحْرُومُ عَلى السّائِلِ في قَوْلِهِ: ﴿القانِعَ والمُعْتَرَّ﴾ [الحَجِّ: (p-١٧٨)٣٦ ] لِأنَّ (القانِعَ) هو الَّذِي لا يَسْألُ (والمُعْتَرَّ) السّائِلُ ؟ نَقُولُ قَدْ قِيلَ إنَّ (القانِعَ) هو (السّائِلُ) (والمُعْتَرَّ) الَّذِي لا يَسْألُ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ المَوْضِعَيْنِ، وقِيلَ بِأنَّ (القانِعَ والمُعْتَرَّ) كِلاهُما لا يَسْألُ لَكِنَّ (القانِعَ) لا يَتَعَرَّضُ ولا يَخْرُجُ مَن بَيْتِهِ (والمُعْتَرَّ) يَتَعَرَّضُ لِلْأخْذِ بِالسَّلامِ والتَّرَدُّدِ ولا يَسْألُ، وقِيلَ بِأنَّ (القانِعَ) لا يَسْألُ (والمُعْتَرَّ) يَسْألُ، فَعَلى هَذا فَلَحْمُ البَدَنَةِ يُفَرَّقُ مِن غَيْرِ مُطالَبَةِ ساعٍ أوْ مُسْتَحِقِّ مُطالَبَةِ جِزْيَةٍ، والزَّكاةُ لَها طالِبٌ وسائِلٌ هو السّاعِي والإمامُ، فَقَوْلُهُ: ﴿لِلسّائِلِ﴾ إشارَةٌ إلى الزَّكاةِ، وقَوْلُهُ: ﴿والمَحْرُومِ﴾ أيِ المَمْنُوعِ إشارَةٌ إلى الصَّدَقَةِ المُتَطَوَّعِ بِها وإحْداهُما قَبْلَ الأُخْرى بِخِلافِ إعْطاءِ اللَّحْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب