الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ. أحَدُها: أنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ يُؤْفَكُ عَنِ القَوْلِ المُخْتَلِفِ ويُصْرَفُ مِن صُرِفَ عَنْ ذَلِكَ القَوْلِ ويُرْشَدُ إلى القَوْلِ المُسْتَوِي. وثانِيها: أنَّهُ ذَمٌّ مَعْناهُ يُؤْفَكُ عَنِ الرَّسُولِ. ثالِثُها: يُؤْفَكُ عَنِ القَوْلِ بِالحَشْرِ. رابِعُها: يُؤْفَكُ عَنِ القُرْآنِ، وقُرِئَ يُؤْفَنُ عَنْهُ مَن أُفِنَ، أيْ يُحْرَمُ، وقُرِئَ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أفَكَ، أيْ كَذَبَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ أنَّهم غَيْرُ ثابِتِينَ عَلى أمْرٍ وغَيْرُ جازِمِينَ بَلْ هم يَظُنُّونَ ويَخْرُصُونَ، ومَعْناهُ لُعِنَ الخَرّاصُونَ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَكْرُوهٍ، ثُمَّ وصَفَهم فَقالَ: ﴿الَّذِينَ هم في غَمْرَةٍ ساهُونَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ إحْداهُما لَفْظِيَّةٌ والأُخْرى مَعْنَوِيَّةٌ: أمّا اللَّفْظِيَّةُ: فَقَوْلُهُ: ﴿ساهُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، والمُبْتَدَأُ هو قَوْلُهُ: ﴿هُمْ﴾ وتَقْدِيرُهُ هم (p-١٧١)كائِنُونَ في غَمْرَةٍ ساهُونَ، كَما يُقالُ زَيْدٌ جاهِلٌ جائِرٌ لا عَلى قَصْدِ وصْفِ الجاهِلِ بِالجائِرِ، بَلِ الإخْبارِ بِالوَصْفَيْنِ عَنْ زَيْدٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: ﴿ساهُونَ﴾ خَبَرًا و﴿فِي غَمْرَةٍ﴾ ظَرْفٌ لَهُ، كَما يُقالُ: زَيْدٌ في بَيْتِهِ قاعِدٌ يَكُونُ الخَبَرُ هو القاعِدَ لا غَيْرُ وفي بَيْتِهِ لِبَيانِ ظَرْفِ القُعُودِ كَذَلِكَ: ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾ لِبَيانِ ظَرْفِ السَّهْوِ الَّذِي يَصِحُّ وصْفُ المَعْرِفَةِ بِالجُمْلَةِ، ولَوْلاها لَما جازَ وصْفُ المَعْرِفَةِ بِالجُمْلَةِ. وأمّا المَعْنَوِيَّةُ: فَهي أنَّ وصْفَ الخَرّاصِ بِالسَّهْوِ والِانْهِماكِ في الباطِلِ، يُحَقِّقُ ذَلِكَ كَوْنَ الخَرّاصِ صِفَةَ ذَمٍّ، وذَلِكَ لِأنَّ ما لا سَبِيلَ إلَيْهِ إلّا الظَّنُّ إذا خَرَصَ الخارِصُ وأُطْلِقَ عَلَيْهِ الخَرّاصُ لا يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدُ نَقْصٍ، كَما يُقالُ في خَرّاصِ الفَواكِهِ والعَساكِرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا الخَرْصُ في مَحَلِّ المَعْرِفَةِ واليَقِينِ فَهو ذَمٌّ فَقالَ: ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ جاهِلُونَ ساهُونَ لا الَّذِينَ تَعَيَّنَ طَرِيقُهم في التَّخْمِينِ والحَزْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ساهُونَ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾ يُفِيدُ أنَّهم وقَعُوا في جَهْلٍ وباطِلٍ ونَسُوا أنْفُسَهم فِيهِ فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْهُ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَسْألُونَ أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ فَإنْ قِيلَ: الزَّمانُ يُجْعَلُ ظَرْفَ الأفْعالِ ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الزَّمانُ ظَرْفًا لِظَرْفٍ آخَرَ، وهَهُنا جُعِلَ ”أيّانَ“ ظَرْفَ اليَوْمِ فَقالَ: ﴿أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ ويُقالُ مَتى يَقْدَمُ زَيْدٌ، فَيُقالُ: يَوْمَ الجُمُعَةِ ولا يُقالُ: مَتى يَوْمُ الجُمُعَةِ، فالجَوابُ: التَّقْدِيرُ مَتى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ وأيّانَ يَكُونُ يَوْمُ الدِّينِ، وأيّانَ مِنَ المُرَكَّباتِ رُكِّبَ مِن أيِّ الَّتِي يَقَعُ بِها الِاسْتِفْهامُ وآنَ الَّتِي هي الزَّمانُ أوْ مِن أيْ وأوانٍ فَكَأنَّهُ قالَ أيُّ أوانٍ فَلَمّا رُكِّبَ بُنِيَ وهَذا مِنهم جَوابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾ فَكَأنَّهم قالُوا أيّانَ يَقَعُ اسْتِهْزاءٌ، وتَرْكُ المَسْؤُولِ في قَوْلِهِ: ﴿يَسْألُونَ﴾ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ يَسْألُونَ مَن، يَدُلُّ عَلى أنَّ غَرَضَهم لَيْسَ الجَوابَ وإنَّما يَسْألُونَ اسْتِهْزاءً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب