الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أشَدُّ مِنهم بَطْشًا﴾ . لَمّا أنْذَرَهم بِما بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ اليَوْمِ العَظِيمِ والعَذابِ الألِيمِ، أنْذَرَهم بِما يُعَجَّلُ لَهم مِنَ العَذابِ المُهْلِكِ والإهْلاكِ المُدْرِكِ، وبَيَّنَ لَهم حالَ مَن تَقَدَّمَهم، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في مَواضِعَ، والَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذا المَوْضِعِ أُمُورٌ: أحَدُها: إذا كانَ ذَلِكَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الإنْذارِ بِالعَذابِ العاجِلِ والعِقابِ الآجِلِ، فَلِمَ تَوَسَّطَهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ ؟ نَقُولُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دُعاءً بِالخَوْفِ والطَّمَعِ، فَذَكَرَ حالَ الكَفُورِ المُعانِدِ، وحالَ الشَّكُورِ العابِدِ في الآخِرَةِ تَرْهِيبًا وتَرْغِيبًا، ثُمَّ قالَ تَعالى: إنْ كُنْتُمْ في شَكٍّ مِنَ العَذابِ الأبَدِيِّ الدّائِمِ، فَما أنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ العَذابِ العاجِلِ المُهْلِكِ الَّذِي أهْلَكَ أمْثالَكم، فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ التَّرْهِيبِ والتَّرْغِيبِ في العاجِلَةِ، كَما جَمَعَ بَيْنَهُما في الآجِلَةِ، ولَمْ يَذْكُرْ حالَ مَن أسْلَمَ مِن قَبْلُ وأنْعَمَ عَلَيْهِ، كَما ذَكَرَ حالَ مَن أشْرَكَ بِهِ فَأهْلَكَهُ، نَقُولُ: لِأنَّ النِّعْمَةَ كانَتْ قَدْ وصَلَتْ إلَيْهِمْ، وكانُوا مُتَقَلِّبِينَ في النِّعَمِ، فَلَمْ يَذْكُرْهم بِهِ، وإنَّما كانُوا غافِلِينَ عَنِ الهَلاكِ فَأنْذَرَهم بِهِ، وأمّا في الآخِرَةِ، فَكانُوا غافِلِينَ عَنِ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَأخْبَرَهم بِهِما. الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَنَقَّبُوا في البِلادِ﴾ . فِي مَعْناهُ وُجُوهٌ: أحَدُها: هو ما قالَهُ تَعالى في حَقِّ ثَمُودَ: ﴿الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالوادِي﴾ [الفجر: ٩] مِن قُوَّتِهِمْ خَرَقُوا الطُّرُقَ ونَقَبُوها، وقَطَعُوا الصُّخُورَ وثَقَبُوها. ثانِيها: نَقَبُوا، أيْ سارُوا في الأسْفارِ ولَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً ومَهْرَبًا، وعَلى هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أهْلَ مَكَّةَ، أيْ هم سارُوا في الأسْفارِ، ورَأوْا ما فِيها مِنَ الآثارِ. ثالِثُها: ﴿فَنَقَّبُوا في البِلادِ﴾ أيْ صارُوا نُقَباءَ في الأرْضِ أرادَ ما أفادَهم بَطْشُهم وقُوَّتُهم، ويَدُلُّ عَلى هَذا الفاءُ؛ لِأنَّها تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُفِيدَةً تَرَتُّبَ الأمْرِ عَلى مُقْتَضاهُ، تَقُولُ كانَ زَيْدٌ أقْوى مِن عَمْرٍو فَغَلَبَهُ، وكانَ عَمْرٌو مَرِيضًا (p-١٥٧)فَغَلَبَهُ زَيْدٌ، كَذَلِكَ هَهُنا قالَ تَعالى: ﴿هم أشَدُّ مِنهم بَطْشًا﴾ فَصارُوا نُقَباءَ في الأرْضِ، وقُرِئَ: ﴿فَنَقَّبُوا﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وهو أيْضًا يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا في الوَجْهِ الثّالِثِ؛ لِأنَّ التَّنْقِيبَ البَحْثُ، وهو مِن نَقُبَ بِمَعْنى صارَ نَقِيبًا. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ . يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلاثَةً: الأوَّلُ: عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ يَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ هو مَفْعُولٌ، أيْ بَحَثُوا عَنِ المَحِيصِ ﴿هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ . الثّانِي: عَلى القِراءاتِ جَمِيعًا اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ أيْ لَمْ يَكُنْ لَهم مَحِيصٌ. الثّالِثُ: هو كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ ﷺ هم أُهْلِكُوا مَعَ قُوَّةِ بَطْشِهِمْ ﴿هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ لَكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ ”والمَحِيصُ“ كالمَحِيدِ غَيْرَ أنْ ”المَحِيصَ“ مَعْدَلٌ ومَهْرَبٌ عَنِ الشِّدَّةِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهم وقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ أيْ في شِدَّةٍ وضِيقٍ، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ، وإنْ كانَ لَهم بِالِاخْتِيارِ يُقالُ حادَ عَنِ الطَّرِيقِ نَظَرًا، ولا يُقالُ حاصَ عَنِ الأمْرِ نَظَرًا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ . الإشارَةُ إلى الإهْلاكِ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ هو إشارَةٌ إلى ما قالَهُ مِن إزْلافِ الجَنَّةِ ومَلْءِ جَهَنَّمَ وغَيْرِهِما، والذِّكْرى اسْمُ مَصْدَرٍ هو التَّذَكُّرُ والتَّذْكِرَةُ وهي في نَفْسِها مَصْدَرُ ذَكَرَهُ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وذِكْرى وقَوْلَهُ ﴿لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ قِيلَ: المُرادُ قَلْبٌ مَوْصُوفٌ بِالوَعْيِ، أيْ ﴿لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ واعٍ يُقالُ لِفُلانٍ مالٌ أيْ كَثِيرٌ فالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلى مَعْنًى في الكَمالِ، والأوْلى أنْ يُقالَ هو لِبَيانِ وُضُوحِ الأمْرِ بَعْدَ الذِّكْرِ وأنْ لا خَفاءَ فِيهِ لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ ما ولَوْ كانَ غَيْرَ كامِلٍ، كَما يُقالُ أعْطِهِ شَيْئًا ولَوْ كانَ دِرْهَمًا، ونَقُولُ الجَنَّةُ لِمَن عَمِلَ خَيْرًا ولَوْ حَسَنَةً، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ في ذَلِكَ لِذِكْرى لِمَن يَصِحُّ أنْ يُقالَ ﴿لَهُ قَلْبٌ﴾ وحِينَئِذٍ فَمَن لا يَتَذَكَّرُ لا قَلْبَ لَهُ أصْلًا. كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] حَيْثُ لَمْ تَكُنْ آذانُهم وألْسِنَتُهم وأعْيُنُهم مُفِيدَةً لِما يُطْلَبُ مِنها كَذَلِكَ مَن لا يَتَذَكَّرُ كَأنَّهُ لا قَلْبَ لَهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] أيْ هم كالجَمادِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: ٤] أيْ لَهم صُوَرٌ ولَيْسَ لَهم قَلْبٌ لِلذِّكْرِ ولا لِسانٌ لِلشُّكْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ أيِ اسْتَمَعَ وإلْقاءُ السَّمْعِ كِنايَةٌ في الِاسْتِماعِ؛ لِأنَّ مَن لا يَسْمَعُ فَكَأنَّهُ حَفِظَ سَمْعَهُ وأمْسَكَهُ فَإذا أرْسَلَهُ حَصَلَ الِاسْتِماعُ، فَإنْ قِيلَ عَلى قَوْلِ مَن قالَ التَّنْكِيرُ في القَلْبِ لِلتَّكْثِيرِ يَظْهَرُ حُسْنُ تَرْتِيبٍ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ ألْقى السَّمْعَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهُ يَصِيرُ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: إنَّ في ذَلِكَ لِذِكْرى لِمَن كانَ ذا قَلْبٍ واعٍ ذَكِيٍّ يَسْتَخْرِجُ الأُمُورَ بِذَكائِهِ أوْ ألْقى السَّمْعَ ويَسْتَمِعُ مِنَ المُنْذِرِ فَيَتَذَكَّرُ، وأمّا عَلى قَوْلِكَ المُرادُ مَن صَحَّ أنَّ يُقالَ (لَهُ قَلْبٌ) ولَوْ كانَ غَيْرَ واعٍ لا يَظْهَرُ هَذا الحُسْنَ، نَقُولُ عَلى ما ذَكَرْنا رُبَّما يَكُونُ التَّرْتِيبُ أحْسَنَ، وذَلِكَ لِأنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: فِيهِ ذِكْرى لِكُلِّ مَن كانَ لَهُ قَلْبٌ ذَكِيٌّ يَسْتَمِعُ ويَتَعَلَّمُ ونَحْنُ نَقُولُ التَّرْتِيبُ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى كَأنَّهُ يَقُولُ: فِيهِ ذِكْرى لِكُلِّ واحِدٍ كَيْفَ كانَ لَهُ قَلْبٌ لِظُهُورِ الأمْرِ، فَإنْ كانَ لا يَحْصُلُ لِكُلِّ أحَدٍ فَلِمَن يَسْتَمِعُ حاصِلٌ ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ ألْقى السَّمْعَ﴾ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أوِ اسْتَمَعَ لِأنَّ الِاسْتِماعَ يُنْبِئُ عَنْ طَلَبٍ زائِدٍ، وأمّا إلْقاءُ السَّمْعِ فَمَعْناهُ أنَّ الذِّكْرى حاصِلَةٌ لِمَن لا يُمْسِكُ سَمْعَهُ بَلْ يُرْسِلُهُ إرْسالًا، وإنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّماعَ كالسّامِعِ في الصَّوْتِ الهائِلِ، فَإنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ مُجَرَّدِ فَتْحِ الأُذُنِ وإنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّماعَ، والصَّوْتُ الخَفِيُّ لا يُسْمَعُ إلّا بِاسْتِماعٍ وتَطَلُّبٍ، فَنَقُولُ: الذِّكْرى حاصِلَةٌ لِمَن كانَ (p-١٥٨)لَهُ قَلْبٌ كَيْفَ كانَ قَلْبُهُ لِظُهُورِها فَإنْ لَمْ تَحْصُلْ فَلِمَن لَهُ أُذُنٌ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ كَيْفَ كانَ حالُهُ سَواءٌ اسْتَمَعَ بِاجْتِهادِهِ أوْ لَمْ يَجْتَهِدْ في سَماعِهِ، فَإنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ شَهِيدٌ﴾ لِلْحالِ وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ إلْقاءَ السَّمْعِ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كافٍ، نَقُولُ هَذا يُصَحِّحُ ما ذَكَرْناهُ لِأنّا قُلْنا بِأنَّ الذِّكْرى حاصِلَةٌ لِمَن لَهُ قَلْبٌ ما، فَإنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ فَتَحْصُلْ لَهُ إذا ألْقى السَّمْعَ وهو حاضِرٌ بِبالِهِ مِنَ القَلْبِ، وأمّا عَلى الأوَّلِ فَمَعْناهُ مَن لَيْسَ لَهُ قَلْبٌ واعٍ، يَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرُ إذا ألْقى السَّمْعَ وهو حاضِرٌ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ عِنْدَ الحُضُورِ بِقَلْبِهِ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ واعٍ، وقَدْ فُرِضَ عَدَمُهُ هَذا إذا قُلْنا بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهُوَ شَهِيدٌ﴾ بِمَعْنى الحالِ، وإذا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَلا يُرَدُّ ما ذُكِرَ وهو يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، بَيانُهُ هو أنْ يُقالَ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى القُرْآنِ وتَقْرِيرُهُ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ ﴿بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهُمْ﴾ [ق: ١ -٢] وذَكَرَ ما يَدْفَعُ تَعَجُّبَهم وبَيَّنَ كَوْنَهُ مُنْذِرًا صادِقًا وكَوْنَ الحَشْرِ أمْرًا واقِعًا ورَغَّبَ وأرْهَبَ بِالثَّوابِ والعَذابِ آجِلًا وعاجِلًا وأتَمَّ الكَلامَ قالَ: (إنَّ في ذَلِكَ) أيِ القُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ: ﴿لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ أوْ لِمَن يَسْتَمِعُ، ثُمَّ قالَ: ﴿وهُوَ شَهِيدٌ﴾ أيِ المُنْذِرُ الَّذِي تَعَجَّبْتُمْ مِنهُ شَهِيدٌ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا﴾ [الفتح: ٨] وقالَ تَعالى: ﴿ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب