الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ . بِمَعْنى قَرِيبًا أوْ بِمَعْنى قَرِيبٍ، والأوَّلُ أظْهَرُ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ما وجْهُ التَّقْرِيبِ، مَعَ أنَّ الجَنَّةَ مَكانٌ والأمْكِنَةُ يَقْرُبُ مِنها وهي لا تَقْرُبُ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ: عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الجَنَّةَ لا تُزالُ ولا تُنْقَلُ، ولا المُؤْمِنُ يُؤْمَرُ في ذَلِكَ اليَوْمِ بِالِانْتِقالِ إلَيْها مَعَ بُعْدِها، لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يَطْوِي المَسافَةَ الَّتِي بَيْنَ المُؤْمِنِ والجَنَّةِ فَهو التَّقْرِيبُ. فَإنْ قِيلَ: فَعَلى هَذا لَيْسَ إزْلافُ الجَنَّةِ مِنَ المُؤْمِنِ بِأوْلى مِن إزْلافِ المُؤْمِنِ مِنَ الجَنَّةِ، فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ ؟ نَقُولُ: إكْرامًا لِلْمُؤْمِنِ، كَأنَّهُ تَعالى أرادَ بَيانَ شَرَفِ المُؤْمِنِ المُتَّقِي أنَّهُ مِمَّنْ يُمْشى إلَيْهِ ويُدْنى مِنهُ. الثّانِي: قُرِّبَتْ مِنَ الحُصُولِ في الدُّخُولِ، لا بِمَعْنى القُرْبِ المَكانِيِّ، يُقالُ يَطْلُبُ مِنَ المَلِكِ أمْرًا خَطِيرًا، والمَلِكُ بِعِيدٌ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إذا رَأى مِنهُ مَخايِلَ إنْجازِ حاجَتِهِ يُقالُ قُرِّبَ المَلِكُ، وما زِلْتُ أُنْهِي إلَيْهِ حالَكَ حَتّى قَرَّبْتَهُ، فَكَذَلِكَ الجَنَّةُ كانَتْ بَعِيدَةَ الحُصُولِ؛ لِأنَّها بِما فِيها لا قِيمَةَ لَها، ولا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلى تَحْصِيلِها لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ تَعالى، كَما قالَ ﷺ: «”ما مِن أحَدٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى، فَقِيلَ: ولا أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ: ولا أنا“» (p-١٥١)وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ ”غَيْرَ“ نُصِبَ عَلى الحالِ، تَقْدِيرُهُ قُرِّبَتْ مِنَ الحُصُولِ، ولَمْ تَكُنْ بَعِيدَةً في المَسافَةِ حَتّى يُقالَ كَيْفَ قُرِّبَتْ. الثّالِثُ: هو أنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ عَلى نَقْلِ الجَنَّةِ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ فَيُقَرِّبُها لِلْمُؤْمِنِ. وأمّا إنْ قُلْنا إنَّها قُرِّبَتْ، فَمَعْناهُ جُمِعَتْ مَحاسِنُها، كَما قالَ تَعالى: ﴿فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾ [فصلت: ٣١] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: عَلى هَذا الوَجْهِ وعَلى قَوْلِنا قُرِّبَتْ تَقْرِيبَ حُصُولٍ ودُخُولٍ، فَهو يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ﴾ أيْ في ذَلِكَ اليَوْمِ ولَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، وأمّا في جَمْعِ المَحاسِنِ فَرُبَّما يَزِيدُ اللَّهُ فِيها زِينَةَ وقْتِ الدُّخُولِ، وأمّا في الحُصُولِ فَلِأنَّ الدُّخُولَ قَبْلَ ذَلِكَ كانَ مُسْتَبْعَدًا إذا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ دُخُولَ المُؤْمِنِينَ الجَنَّةَ في الدُّنْيا ووَعَدَ بِهِ في الآخِرَةِ فَقُرِّبَتْ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ﴾ أيْ أُزْلِفَتْ في الدُّنْيا، إمّا بِمَعْنى جَمْعِ المَحاسِنِ فَلِأنَّها مَخْلُوقَةٌ وخُلِقَ فِيها كُلُّ شَيْءٍ، وإمّا بِمَعْنى تَقْرِيبِ الحُصُولِ فَلِأنَّها تَحْصُلُ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ وإمّا عَلى تَفْسِيرِ الإزْلافِ بِالتَّقْرِيبِ المَكانِيِّ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا إلّا عَلى ذَلِكَ الوَقْتِ أيْ أُزْلِفَتْ في ذَلِكَ اليَوْمِ لِلْمُتَّقِينَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنْ حُمِلَ عَلى القُرْبِ المَكانِيِّ، فَما الفائِدَةُ في الِاخْتِصاصِ بِالمُتَّقِينَ مَعَ أنَّ المُؤْمِنَ والكافِرَ في عَرْصَةٍ واحِدَةٍ ؟ فَنَقُولُ قَدْ يَكُونُ شَخْصانِ في مَكانٍ واحِدٍ وهُناكَ مَكانٌ آخَرُ هو إلى أحَدِهِما في غايَةِ القُرْبِ، وعَنِ الآخَرِ في غايَةِ البُعْدِ، مِثالُهُ مَقْطُوعُ الرِّجْلَيْنِ والسَّلِيمُ الشَّدِيدُ العَدْوِ إذا اجْتَمَعا في مَوْضِعٍ وبِحَضْرَتِهِما شَيْءٌ لا تَصِلُ إلَيْهِ اليَدُ بِالمَدِّ فَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ المَقْطُوعِ وهو في غايَةِ القُرْبِ مِنَ العادِي، أوْ نَقُولُ: إذا اجْتَمَعَ شَخْصانِ في مَكانِ وأحَدُهُما أُحِيطَ بِهِ سَدٌّ مِن حَدِيدٍ ووُضِعَ بِقُرْبِهِ شَيْءٌ لا تَنالُهُ يَدُهُ بِالمَدِّ والآخَرُ لَمْ يُحِطْ بِهِ ذَلِكَ السَّدُّ يَصِحُّ أنْ يُقالَ هو بَعِيدٌ عَنِ المَسْدُودِ وقَرِيبٌ مِنَ المَحْظُوظِ والمَجْدُودِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى الظَّرْفِ يُقالُ اجْلِسْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنِّي أيْ مَكانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وذَلِكَ لِأنَّ القَرِيبَ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ، فَإنَّ المَكانَ الَّذِي هو عَلى مَسِيرَةِ يَوْمٍ قَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إلى البِلادِ النّائِيَةِ وبَعِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مُتَنَزَّهاتِ المَدِينَةِ، فَإذا قالَ قائِلٌ أيُّما أقْرَبُ المَسْجِدُ الأقْصى أوِ البَلَدُ الَّذِي هو بِأقْصى المَغْرِبِ أوِ المَشْرِقِ ؟ يُقالُ لَهُ المَسْجِدُ الأقْصى قَرِيبٌ، وإنْ قالَ أيُّهُما أقْرَبُ هو أوِ البَلَدُ ؟ يُقَلْ لَهُ هو بَعِيدٌ. فَقَوْلُهُ تَعالى:”وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ...... غَيْرَ بَعِيدٍ“ أيْ قُرِّبَتْ قُرْبًا حَقِيقِيًّا لا نِسْبِيًّا حَيْثُ لا يُقالُ فِيها إنَّها بَعِيدَةٌ عَنْهُ مُقايَسَةً أوْ مُناسِبَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى الحالِ تَقْدِيرُهُ: قَرُبَتْ حالَ كَوْنِ ذَلِكَ غايَةَ التَّقْرِيبِ أوْ نَقُولُ عَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ مَعْنى أُزْلِفَتْ قَرُبَتْ وهي غَيْرُ بَعِيدٍ، فَيَحْصُلُ المَعْنَيانِ جَمِيعًا الإقْرابُ والِاقْتِرابُ أوْ يَكُونُ المُرادُ القُرْبَ والحُصُولَ لا لِلْمَكانِ فَيَحْصُلُ مَعْنَيانِ القُرْبُ المَكانِيُّ بِقَوْلِهِ ”غَيْرَ بَعِيدٍ“ والحُصُولُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُزْلِفَتْ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿أُزْلِفَتْ﴾ عَلى التَّأْنِيثِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: إذا قُلْنا إنَّ غَيْرَ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ مَكانًا غَيْرَ. الثّانِي: التَّذْكِيرُ فِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦] إجْراءٌ لِفَعِيلٍ بِمَعْنى فاعِلٍ مَجْرى فَعِيلٍ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. الثّالِثُ: أنْ يُقالَ ”غَيْرَ“ مَنصُوبٌ نَصْبًا عَلى المَصْدَرِ عَلى أنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ إزْلافًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أيْ عَنْ قُدْرَتِنا فَإنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ الجَنَّةَ مَكانٌ، والمَكانُ لا يَقْرُبُ وإنَّما يُقْرَبُ مِنهُ، فَقالَ: الإزْلافُ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ قُدْرَتِنا فَإنّا نَطْوِي المَسافَةَ بَيْنَهُما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب