الباحث القرآني

وقالَ: ﴿بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ﴾ . يَعْنِي لَمْ يَقْتَنِعُوا بِالشَّكِّ في صِدْقِ الأمْرِ وطَرْحِهِ بِالتَّرْكِ وبَعْدَ الإمْكانِ، بَلْ جَزَمُوا بِخِلافِهِ حَتّى جَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ العَجِيبَةِ، فَإنْ قِيلَ: فَما الحِكْمَةُ في هَذا الِاخْتِصارِ العَظِيمِ، في مَوْضِعٍ واحِدٍ حَذَفَ المُقْسَمَ عَلَيْهِ والمُضْرَبَ عَنْهُ، وأتى بِأمْرٍ لا يُفْهَمُ إلّا بَعْدَ الفِكْرِ العَظِيمِ، ولا يُفْهَمُ مَعَ الفِكْرِ إلّا بِالتَّوْفِيقِ العَزِيزِ ؟ فَنَقُولُ: إنَّما حُذِفَ المُقْسَمُ عَلَيْهِ لِأنَّ التَّرْكَ في بَعْضِ المَواضِعِ يُفْهَمُ مِنهُ ظُهُورٌ لا يُفْهَمُ مِنَ الذِّكْرِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن ذَكَرَ المَلِكَ العَظِيمَ في مَجْلِسٍ وأثْنى عَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ عَظَّمَهُ، فَإذا قالَ لَهُ غَيْرُهُ: هو لا يُذْكَرُ في هَذا المَجْلِسِ يَكُونُ بِالإرْشادِ إلى تَرْكِ الذِّكْرِ دالًّا عَلى عَظَمَتِهِ فَوْقَ ما يَسْتَفِيدُ صاحِبُهُ بِذِكْرِهِ، فاللَّهُ تَعالى يَقُولُ: لِبَيانِ رِسالَتِكَ أظْهَرُ مِن أنْ يُذْكَرَ، وأمّا حَذْفُ المُضْرَبِ عَنْهُ، فَلِأنَّ المُضْرَبَ عَنْهُ إذا ذُكِرَ وأُضْرِبَ عَنْهُ بِأمْرٍ آخَرَ، إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ بَيْنَ المَذْكُورَيْنِ تَفاوُتٌ ما، فَإذا عَظُمَ التَّفاوُتُ لا يَحْسُنُ ذِكْرُهُما مَعَ الإضْرابِ، مِثالُهُ يَحْسُنُ أنْ يُقالَ:: الوَزِيرُ يُعَظِّمُ فُلانًا، بَلِ المَلِكُ يُعَظِّمُهُ، ولا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: البَوّابُ يُعَظِّمُ فُلانًا، بَلِ المَلِكُ يُعَظِّمُهُ، لِكَوْنِ البَوْنِ بَيْنَهُما بَعِيدًا، إذِ الإضْرابُ لِلتَّدَرُّجِ، فَإذا تَرَكَ المُتَكَلِّمُ المُضْرَبَ عَنْهُ صَرِيحًا وأتى بِحَرْفِ الإضْرابِ اسْتُفِيدَ مِنهُ أمْرانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يُشِيرُ إلى أمْرٍ آخَرَ قَبْلَهُ، وثانِيهِما: أنَّهُ يَجْعَلُ الثّانِيَ تَفاوُتًا عَظِيمًا مِثْلَ ما يَكُونُ ومِمّا لا يُذْكَرُ، وهَهُنا كَذَلِكَ لِأنَّ الشَّكَّ بَعْدَ قِيامِ البُرْهانِ بَعِيدٌ، لَكِنَّ القَطْعَ بِخِلافِهِ في غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ البُعْدِ. المَبْحَثُ الثّالِثُ: أنَّ مَعَ الفِعْلِ يَكُونُ بِمَثابَةِ ذِكْرِ المَصْدَرِ، تَقُولُ: أُمِرْتُ بِأنْ أقُومَ وأُمِرْتُ بِالقِيامِ، وتَقُولُ: ما كانَ جَوابُهُ إلّا أنْ قالَ: وما كانَ جَوابُهُ إلّا قَوْلَهُ كَذا وكَذا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنِ الإتْيانِ بِالمَصْدَرِ حَيْثُ جازَ أنْ يُقالَ: أُمِرْتُ أنْ أقُومَ مِن غَيْرِ حَرْفِ الإلْصاقِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: أُمِرْتُ القِيامَ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ الباءِ؛ ولِذَلِكَ قالُوا أيْ عَجِبُوا مِن مَجِيئِهِ، نَقُولُ: ﴿أنْ جاءَهُمْ﴾ وإنْ كانَ في المَعْنى قائِمًا مَقامَ المَصْدَرِ لَكِنَّهُ في الصُّورَةِ فِعْلٌ وحَرْفٌ، وحُرُوفُ التَّعْدِيَةِ كُلُّها حُرُوفٌ جارَّةٌ والجارُّ لا يَدْخُلُ عَلى الفِعْلِ، فَكانَ الواجِبُ أنْ لا يَدْخُلَ، فَلا أقَلَّ مِن أنْ يَجُوزَ عَدَمُ الدُّخُولِ، فَجازَ أنْ يُقالَ ﴿عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ﴾ ولا يَجُوزُ مَجِيئُهم لِعَدَمِ المانِعِ مِن إدْخالِ الحُرُوفِ عَلَيْهِ. * * وقَوْلُهُ تَعالى: (مِنهم) يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَذْكُورًا كالمُقَرِّرِ لِتَعَجُّبِهِمْ، ويَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَذْكُورًا لِإبْطالِ تَعَجُّبِهِمْ، أمّا التَّقْرِيرُ فَلِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: ﴿أبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر: ٢٤] و﴿قالُوا ما أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [يس: ١٥] إشارَةً إلى أنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ اخْتِصاصُكم بِهَذِهِ المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مَعَ اشْتِراكِنا في الحَقِيقَةِ واللَّوازِمِ، وأمّا الإبْطالُ فَلِأنَّهُ إذا كانَ واحِدًا مِنهم ويُرى بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، وظَهَرَ عَلَيْهِ ما عَجَزَ عَنْهُ كُلُّهم ومَن بَعْدَهم كانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يَقُولُوا: هَذا لَيْسَ مِن عِنْدِهِ ولا مِن عِنْدِ أحَدٍ مِن جِنْسِنا، فَهو مِن عِنْدِ اللَّهِ، بِخِلافِ ما لَوْ جاءَهم واحِدٌ مِن خِلافِ جِنْسِهِمْ وأتى بِما يَعْجَزُونَ عَنْهُ، فَإنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ لا نَقْدِرُ لِأنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ خاصِّيَّةً، فَإنَّ خاصِّيَّةَ النَّعامَةِ بَلْعُ النّارِ، والطُّيُورِ الطَّيْرُ في الهَواءِ، وابْنُ آدَمَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإنْ قِيلَ: الإبْطالُ جائِزٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهم كانَ باطِلًا، ولَكِنَّ تَقْرِيرَ الباطِلِ كَيْفَ يَجُوزُ، نَقُولُ: المُبَيِّنُ لِبُطْلانِ الكَلامِ يَجِبُ أنْ يُورِدَهُ عَلى أبْلَغِ ما يُمْكِنُ ويَذْكُرَ فِيهِ كُلَّ ما يُتَوَهَّمُ أنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُبْطِلُهُ، فَلِذَلِكَ قالَ: عَجِبْتُمْ بِسَبَبِ أنَّهُ مِنكم، وهو في الحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِهَذا التَّعَجُّبِ، فَإنْ قِيلَ: النَّبِيُّ ﷺ كانَ بَشِيرًا ونَذِيرًا، واللَّهُ تَعالى في جَمِيعِ المَواضِعِ قَدَّمَ كَوْنَهُ بَشِيرًا عَلى كَوْنِهِ نَذِيرًا، فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ: عَجِبُوا أنْ جاءَهم بَشِيرٌ مِنهم ؟ نَقُولُ: هو لَمّا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْبِشارَةِ مَوْضِعًا كانَ في حَقِّهِمْ مُنْذِرًا لا غَيْرُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقالَ الكافِرُونَ هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا تَعَجُّبٌ آخَرُ مِن أمْرٍ آخَرَ وهو الحَشْرُ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣] فَعَجِبُوا مِن كَوْنِهِ مُنْذِرًا مِن وُقُوعِ الحَشْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ في أوَّلِ سُورَةِ ص حَيْثُ قالَ فِيهِ: ﴿عَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ﴾ وقالَ: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥] ذَكَرَ تَعَجُّبَهم مِن أمْرَيْنِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهم: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ إشارَةٌ إلى مَجِيءِ المُنْذِرِ لا إلى الحَشْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: هو أنَّ هُناكَ ذَكَرَ ﴿إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥] بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ فَقالَ: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ وقالَ هَهُنا: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ولَمْ يَكُنْ ما يَقَعُ الإشارَةُ إلَيْهِ إلّا مَجِيءَ المُنْذِرِ. ثُمَّ قالُوا: ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ الثّانِي: هَهُنا وُجِدَ بَعْدَ الِاسْتِيعادِ بِالِاسْتِفْهامِ أمْرٌ يُؤَدِّي مَعْنى التَّعَجُّبِ وهو قَوْلُهم: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ فَإنَّهُ اسْتِبْعادٌ وهو كالتَّعَجُّبِ، فَلَوْ كانَ التَّعَجُّبُ أيْضًا عائِدًا إلَيْهِ لَكانَ كالتَّكْرارِ، فَإنْ قِيلَ: التَّكْرارُ الصَّرِيحُ يَلْزَمُ مِن جَعْلِ قَوْلِكَ: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ عائِدًا إلى مَجِيءِ المُنْذِرِ، فَإنَّ تَعَجُّبَهم مِنهُ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ يَكُونُ تَكْرارًا، نَقُولُ: ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرارٍ بَلْ هو تَقْرِيرٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ بِصِيغَةِ الفِعْلِ، وجازَ أنْ يَتَعَجَّبَ الإنْسانُ مِمّا لا يَكُونُ عَجِيبًا كَما قالَ تَعالى: ﴿أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [هود: ٧٣] ويُقالُ في العُرْفِ: لا وجْهَ لِتَعَجُّبِكَ، مِمّا لَيْسَ بِعَجَبٍ، فَكَأنَّهم لَمّا عَجِبُوا قِيلَ لَهم: لا مَعْنى لِفِعْلِكم وعَجَبِكم، فَقالُوا: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ فَكَيْفَ لا نَعْجَبُ مِنهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى قالَ هَهُنا: ﴿فَقالَ الكافِرُونَ﴾ بِحَرْفِ الفاءِ، وقالَ في ”ص“: ﴿وقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ [ص: ٤] لِأنَّ قَوْلَهم: ﴿ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ كانَ تَعَنُّتًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلى ما تَقَدَّمَ، و﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أمْرٌ مُرَتَّبٌ عَلى ما تَقَدَّمَ أيْ عَجِبُوا وأنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقالُوا: ﴿هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ فَكَيْفَ لا نَعْجَبُ مِنهُ، ويَدُلُّ (p-١٣١)عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ بِلَفْظِ الإشارَةِ إلى البُعْدِ، وقَوْلُهُ هَذا إشارَةٌ إلى الحاضِرِ القَرِيبِ، فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المُشارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ غَيْرَ المُشارِ إلَيْهِ بِهَذا، وذَلِكَ لا يَصِحُّ إلّا عَلى قَوْلِنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب