الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ﴾ . إشارَةً إلى دَلِيلٍ آخَرَ وهو ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَيَكُونُ الِاسْتِدْلالُ بِالسَّماءِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما، وذَلِكَ إنْزالُ [ الماءِ مِن ] السَّماءِ مِن فَوْقُ، وإخْراجُ النَّباتِ مِن تَحْتُ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذا الِاسْتِدْلالُ قَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ فَما الفائِدَةُ في إعادَتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ ؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ: (فَأنْبَتْنا) اسْتِدْلالٌ بِنَفْسِ النَّباتِ أيِ الأشْجارِ تَنْمُو وتَزِيدُ، فَكَذَلِكَ بَدَنُ الإنْسانِ بَعْدَ المَوْتِ يَنْمُو ويَزِيدُ بِأنْ يُرْجِعَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ قُوَّةَ النُّشُوءِ والنَّماءِ كَما يُعِيدُها إلى الأشْجارِ بِواسِطَةِ ماءِ السَّماءِ ﴿وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وحَبَّ الزَّرْعِ الحَصِيدِ، وهو المَحْصُودُ، أيْ (p-١٣٦)أنْشَأْنا جَنّاتٍ يُقْطَفُ ثِمارُها وأُصُولُها باقِيَةٌ، وزَرْعًا يُحْصَدُ كُلَّ سَنَةٍ ويُزْرَعُ في كُلِّ عامٍ أوْ عامَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: التَّقْدِيرُ: ونُنْبِتُ الحَبَّ الحَصِيدَ، والأوَّلُ هو المُخْتارُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ﴾ إشارَةٌ إلى المُخْتَلِطِ مِن جِنْسَيْنِ؛ لِأنَّ الجَنّاتِ تُقْطَفُ ثِمارُها وتُثْمِرُ مِن غَيْرِ زِراعَةٍ كُلَّ سَنَةٍ، لَكِنَّ النَّخْلَ يُؤَبَّرُ، ولَوْلا التَّأْبِيرُ لَمْ يُثْمِرْ، فَهو جِنْسٌ مُخْتَلِطٌ مِنَ الزَّرْعِ والشَّجَرِ، وخُلِقَ المُرَكَّبُ مِن جِنْسَيْنِ في الأثْمارِ؛ لِأنَّ بَعْضَ الثِّمارِ فاكِهَةً ولا قُوتَ فِيهِ، وأكْثَرُ الزَّرْعِ قُوتٌ والثَّمَرُ فاكِهَةٌ وقُوتٌ، والباسِقاتُ الطِّوالُ مِنَ النَّخِيلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿باسِقاتٍ﴾ يُؤَكِّدُ كَمالَ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ الزَّرْعَ إنْ قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقْطَفَ مِن ثَمَرَتِهِ لِضَعْفِهِ وضَعْفِ حَجْمِهِ، فَكَذَلِكَ يَحْتاجُ إلى إعادَتِهِ كُلَّ سَنَةٍ، والجَنّاتُ لِكِبَرِها وقُوَّتِها تَبْقى وتُثْمِرُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، فَيُقالُ: ألَيْسَ النَّخْلُ الباسِقاتُ أكْثَرَ وأقْوى مِنَ الكَرْمِ الضَّعِيفِ، والنَّخْلُ مُحْتاجَةٌ كُلَّ سَنَةٍ إلى عَمَلِ عامِلٍ، والكَرْمُ غَيْرُ مُحْتاجٍ، فاللَّهُ تَعالى هو الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ لا لِلْكِبَرِ والصِّغَرِ والطُّولِ والقِصَرِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ أيْ مَنضُودٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في أكْمامِها في سُنْبُلِهِ الزَّرْعُ وهو عَجِيبٌ، فَإنَّ الأشْجارَ الطِّوالَ أثْمارُها بارِزُها مُتَمَيِّزٌ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، لِكُلِّ واحِدٍ مِنها أصْلٌ يَخْرُجُ مِنهُ كالجَوْزِ واللَّوْزِ وغَيْرِهِما، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَةِ الواحِدَةِ يَكُونُ عَلى أصْلٍ واحِدٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رِزْقًا لِلْعِبادِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ؛ لِأنَّ الإنْباتَ رِزْقٌ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: أنْبَتْناها لِلْعِبادِ. والثّانِي: نَصْبٌ عَلى كَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ، كَأنَّهُ قالَ: أنْبَتْناها لِرِزْقِ العِبادِ، وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ في خَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ: ﴿تَبْصِرَةً وذِكْرى﴾ وفي الثِّمارِ قالَ: (رِزْقًا) والثِّمارُ أيْضًا فِيها تَبْصِرَةٌ، وفي السَّماءِ والأرْضِ أيْضًا مَنفَعَةٌ غَيْرُ التَّبْصِرَةِ والتَّذْكِرَةِ، فَما الحِكْمَةُ في اخْتِيارِ الأمْرَيْنِ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ، أحَدُها: أنْ نَقُولَ: الِاسْتِدْلالُ وقَعَ لِوُجُودِ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما الإعادَةُ. والثّانِي البَقاءُ بَعْدَ الإعادَةِ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُخْبِرُهم بِحَشْرٍ وجَمْعٍ يَكُونُ بَعْدَهُ الثَّوابُ الدّائِمُ والعِقابُ الدّائِمُ، وأنْكَرُوا ذَلِكَ، فَأمّا الأوَّلُ فاللَّهُ القادِرُ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ قادِرٌ عَلى خَلْقِ الخَلْقِ بَعْدَ الفَناءِ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ البَقاءَ في الدُّنْيا بِالرِّزْقِ، والقادِرُ عَلى إخْراجِ الأرْزاقِ مِنَ النَّجْمِ والشَّجَرِ قادِرٌ عَلى أنْ يَرْزُقَ العَبْدَ في الجَنَّةِ ويَبْقى، فَكَأنَّ الأوَّلَ تَبْصِرَةٌ وتَذْكِرَةٌ بِالخَلْقِ، والثّانِي تَذْكِرَةٌ بِالبَقاءِ بِالرِّزْقِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا الفَصْلِ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ: ﴿تَبْصِرَةً وذِكْرى﴾ حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الآيَتَيْنِ، ثُمَّ بَدَأ بِذِكْرِ الماءِ وإنْزالِهِ وإنْباتِهِ النَّباتَ. ثانِيها: أنَّ مَنفَعَةَ الثِّمارِ الظّاهِرَةِ هي الرِّزْقُ، فَذَكَرَها، ومَنفَعَةَ السَّماءِ الظّاهِرَةِ لَيْسَتْ أمْرًا عائِدًا إلى انْتِفاعِ العِبادِ لِبُعْدِها عَنْ ذِهْنِهِمْ، حَتّى أنَّهم لَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ الزَّرْعِ والثَّمَرِ لَظَنُّوا أنْ يَهْلَكُوا، ولَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ السَّماءِ فَوْقَهم لَقالُوا: لا يَضُرُّنا ذَلِكَ مَعَ أنَّ الأمْرَ بِالعَكْسِ أوْلى؛ لِأنَّ السَّماءَ سَبَبُ الأرْزاقِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وفِيها غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ المَنافِعِ، والثِّمارُ وإنْ لَمْ تَكُنْ [ ما ] كانَ العَيْشُ، كَما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى قَوْمٍ المَنَّ والسَّلْوى وعَلى قَوْمٍ المائِدَةَ مِنَ السَّماءِ، فَذَكَرَ الأظْهَرَ لِلنّاسِ في هَذا المَوْضِعِ، ثالِثُها: قَوْلُهُ: (رِزْقًا) إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ مُنْعِمًا لِكَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ في غايَةِ القُبْحِ، فَإنَّهُ يَكُونُ إشارَةً [ لِلتَّكْذِيبِ ] بِالمُنْعِمِ، وهو أقْبَحُ ما يَكُونُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ: ﴿تَبْصِرَةً وذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ فَقَيَّدَ العَبْدَ بِكَوْنِهِ مُنِيبًا وجَعَلَ خَلْقَها ﴿تَبْصِرَةً﴾ لِعِبادِهِ المُخْلِصِينَ، وقالَ: ﴿رِزْقًا لِلْعِبادِ﴾ مُطْلَقًا؛ لِأنَّ الرِّزْقَ حَصَلَ لِكُلِّ أحَدٍ، غَيْرَ أنَّ المُنِيبَ يَأْكُلُ ذاكِرًا شاكِرًا لِلْإنْعامِ، وغَيْرَهُ يَأْكُلُ كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ فَلَمْ يُخَصِّصِ الرِّزْقَ بِقَيْدٍ. (p-١٣٧)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أُمُورًا ثَلاثَةً أيْضًا وهي: إنْباتُ الجَنّاتِ والحَبِّ والنَّخِيلِ، كَما ذَكَرَ في السَّماءِ والأرْضِ في كُلِّ واحِدَةٍ أُمُورًا ثَلاثَةً، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ في الآيَتَيْنِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ مُتَناسِبَةٌ، فَهَلْ هي كَذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ إشارَةٌ إلى الأجْناسِ الثَّلاثَةِ، وهي الَّتِي يَبْقى أصْلُها سِنِينَ، ولا تَحْتاجُ إلى عَمَلِ عامِلٍ، والَّتِي لا يَبْقى أصْلُها وتَحْتاجُ كُلَّ سَنَةٍ إلى عَمَلِ عامِلٍ، والَّتِي يَجْتَمِعُ فِيها الأمْرانِ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الثِّمارِ والزُّرُوعِ خارِجًا عَنْهُ أصْلًا، كَما أنَّ أُمُورَ الأرْضِ مُنْحَصِرَةٌ في ثَلاثَةٍ: ابْتِداءٌ وهو المَدُّ، ووَسَطٌ وهو النَّباتُ بِالجِبالِ الرّاسِيَةِ، وثالِثُها هو غايَةُ الكَمالِ وهو الإنْباتُ والتَّزْيِينُ بِالزَّخارِفِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ عَطْفًا عَلى (أنْبَتْنا بِهِ) وفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: إنْ قُلْنا: إنَّ الِاسْتِدْلالَ بِإنْباتِ الزَّرْعِ وإنْزالِ الماءِ كانَ لِإمْكانِ البَقاءِ بِالرِّزْقِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ دَلِيلٌ عَلى الإعادَةِ كَما أنَّهُ دَلِيلٌ عَلى البَقاءِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ اسْتِدْلالًا وإنْزالُ الماءِ كانَ لِبَيانِ البَقاءِ مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ وقالَ: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ فَيَكُونُ الِاسْتِدْلالُ عَلى البَقاءِ قَبْلَ الِاسْتِدْلالِ عَلى الإحْياءِ، والإحْياءُ سابِقٌ عَلى الإبْقاءِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُبَيِّنَ أوَّلًا أنَّهُ يُحْيِي المَوْتى ثُمَّ يُبَيِّنَ أنَّهُ يُبْقِيهِمْ ؟ نَقُولُ: لَمّا كانَ الِاسْتِدْلالُ بِالسَّماواتِ والأرْضِ عَلى الإعادَةِ كافِيًا بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الإحْياءِ، ذَكَرَ دَلِيلَ الإبْقاءِ، ثُمَّ عادَ واسْتَدْرَكَ فَقالَ: هَذا الدَّلِيلُ الدّالُّ عَلى الإبْقاءِ دالٌّ عَلى الإحْياءِ، وهو غَيْرُ مُحْتاجٍ إلَيْهِ؛ لِسَبْقِ دَلِيلَيْنِ قاطِعَيْنِ، فَبَدَأ بِبَيانِ البَقاءِ وقالَ: ﴿فَأنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ﴾ ثُمَّ ثَنّى بِإعادَةِ ذِكْرِ الإحْياءِ فَقالَ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ﴾ وإنْ قُلْنا: إنَّ الِاسْتِدْلالَ بِإنْزالِ الماءِ وإنْباتِ الزَّرْعِ لا لِبَيانِ إمْكانِ الحَشْرِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ﴾ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِقَوْلِهِ: (فَأنْبَتْنا بِهِ) بِخِلافِ ما لَوْ قُلْنا بِالقَوْلِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ الإحْياءَ وإنْ كانَ غَيْرَ الإنْباتِ لَكِنَّ الِاسْتِدْلالَ لَمّا كانَ بِهِ عَلى أمْرَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ جازَ العَطْفُ، تَقُولُ: خَرَجَ لِلتِّجارَةِ وخَرَجَ لِلزِّيارَةِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: خَرَجَ لِلتِّجارَةِ وذَهَبَ لِلتِّجارَةِ إلّا إذا كانَ الذَّهابُ غَيْرَ الخُرُوجِ، فَنَقُولُ: الإحْياءُ غَيْرُ إنْباتِ الرِّزْقِ؛ لِأنَّ بِإنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ يَخْضَرُّ وجْهُ الأرْضِ ويَخْرُجُ مِنها أنْواعٌ مِنَ الأزْهارِ، ولا يُتَغَذّى بِهِ ولا يُقْتاتُ، وإنَّما يَكُونُ بِهِ زِينَةُ وجْهِ الأرْضِ، وهو أعَمُّ مِنَ الزَّرْعِ والشَّجَرِ؛ لِأنَّهُ يُوجَدُ في كُلِّ مَكانٍ، والزَّرْعُ والثَّمَرُ لا يُوجَدانِ في كُلِّ مَكانٍ، فَكَذَلِكَ هَذا الإحْياءُ، فَإنْ قِيلَ: فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يُقَدَّمَ في الذِّكْرِ لِأنَّ اخْضِرارَ وجْهِ الأرْضِ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِ الزَّرْعِ والثَّمَرِ؛ ولِأنَّهُ يُوجَدُ في كُلِّ مَكانٍ بِخِلافِ الزَّرْعِ والثَّمَرِ، نَقُولُ: لَمّا كانَ إنْباتُ الزَّرْعِ والثَّمَرِ أكْمَلَ نِعْمَةً قَدَّمَهُ في الذِّكْرِ. الثّانِي: في قَوْلِهِ: ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ نَقُولُ: جازَ إثْباتُ التّاءِ في المَيْتِ وحَذْفُها عِنْدَ وصْفِ المُؤَنَّثِ بِها؛ لِأنَّ المَيْتَ تَخْفِيفٌ لِلْمَيِّتِ، والمَيِّتُ فَيْعِلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، فَيَجُوزُ فِيهِ إثْباتُ التّاءِ؛ لِأنَّ التَّسْوِيَةَ في الفَعِيلِ بِمَعْنى المَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦] فَإنْ قِيلَ: لِمَ سَوّى بَيْنَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ في الفَعِيلِ بِمَعْنى المَفْعُولِ ؟ قُلْنا: لِأنَّ الحاجَةَ إلى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ أشَدُّ مِنَ الحاجَةِ إلى التَّمْيِيزِ بَيْنَ المَفْعُولِ المُذَكَّرِ والمَفْعُولِ المُؤَنَّثِ نَظَرًا إلى المَعْنى ونَظَرًا إلى اللَّفْظِ، فَأمّا المَعْنى فَظاهِرٌ، وأمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّ المُخالَفَةَ بَيْنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ لَهُ، إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: في الفَعِيلِ لَمْ يَتَمَيَّزِ الفاعِلُ بِحَرْفٍ، فَإنَّ فَعِيلًا جاءَ بِمَعْنى الفاعِلِ كالنَّصِيرِ والبَصِيرِ، وبِمَعْنى المَفْعُولِ كالكَسِيرِ والأسِيرِ، ولا يَتَمَيَّزُ بِحَرْفٍ عِنْدَ المُخالَفَةِ إلّا الأقْوى، فَلا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ المُخالَفَةِ الأدْنى، والتَّحْقِيقُ فِيهِ أنَّ فَعِيلًا وُضِعَ لِمَعْنًى لَفْظِيٍّ، والمَفْعُولَ وُضِعَ لِمَعْنًى حَقِيقِيٍّ (p-١٣٨)فَكَأنَّ القائِلَ قالَ: اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ المَفْعُولِ لِلْمَعْنى الفُلانِيِّ، واسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الفَعِيلِ مَكانَ لَفْظِ المَفْعُولِ، فَصارَ فَعِيلٌ كالمَوْضُوعِ لِلْمَفْعُولِ، والمَفْعُولُ كالمَوْضُوعِ لِلْمَعْنى، ولَمّا كانَ تَغَيُّرُ اللَّفْظِ تابِعًا لِتَغَيُّرِ المَعْنى تَغَيَّرَ المَفْعُولُ لِكَوْنِهِ بِإزاءِ المَعْنى، ولَمْ يَتَغَيَّرِ الفَعِيلُ لِكَوْنِهِ بِإزاءِ اللَّفْظِ في أوَّلِ الأمْرِ، فَإنْ قِيلَ: فَما الفَرْقُ بَيْنَ هَذا المَوْضِعِ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها﴾ [يس: ٣٣] حَيْثُ أثْبَتَ التّاءَ هُناكَ ؟ نَقُولُ: الأرْضُ أرادَ بِها الوَصْفَ فَقالَ: ﴿الأرْضُ المَيْتَةُ﴾ لِأنَّ مَعْنى الفاعِلِيَّةِ ظاهِرٌ هُناكَ، والبَلْدَةُ الأصْلُ فِيها الحَياةُ؛ لِأنَّ الأرْضَ إذا صارَتْ حَيَّةً صارَتْ آهِلَةً، وأقامَ بِها النّاسُ وعَمَّرُوها، فَصارَتْ بَلْدَةً فَأسْقَطَ التّاءَ؛ لِأنَّ مَعْنى الفاعِلِيَّةِ ثَبَتَ فِيها، والَّذِي بِمَعْنى الفاعِلِ لا يَثْبُتُ فِيهِ التّاءُ، وتَحْقِيقُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ [سبأ: ١٥] حَيْثُ أثْبَتَ التّاءَ حَيْثُ ظَهَرَ بِمَعْنى الفاعِلِ، ولَمْ يَثْبُتْ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ، وهَذا بَحْثٌ عَزِيزٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ أيْ كالإحْياءِ (الخُرُوجُ) فَإنْ قِيلَ: الإحْياءُ يُشَبَّهُ بِهِ الإخْراجُ لا الخُرُوجُ، فَنَقُولُ: تَقْدِيرُهُ: أحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا فَتَشَقَّقَتْ وخَرَجَ مِنها النَّباتُ كَذَلِكَ تَشَقَّقُ ويَخْرُجُ مِنها الأمْواتُ، وهَذا يُؤَكِّدُ قَوْلَنا: الرَّجْعُ بِمَعْنى الرُّجُوعِ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَهم ما اسْتَبْعَدُوهُ فَلَوِ اسْتَبْعَدُوا الرَّجْعَ الَّذِي هو مِنَ المُتَعَدِّي لَناسَبَ أنْ يَقُولَ: كَذَلِكَ الإخْراجُ، ولَمّا قالَ: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ فُهِمَ أنَّهم أنْكَرُوا الرُّجُوعَ فَقالَ: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ نَقُولُ: فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ عَلى القَوْلِ الآخَرِ، وذَلِكَ لِأنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا الرَّجْعَ الَّذِي هو مِنَ المُتَعَدِّي بِمَعْنى الإخْراجِ، واللَّهُ تَعالى أثْبَتَ الخُرُوجَ، وفِيهِما مُبالِغَةٌ تَنْبِيهًا عَلى بَلاغَةِ القُرْآنِ مَعَ أنَّها مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ البَيانِ، ووَجْهُها هو أنَّ الرَّجْعَ والإخْراجَ كالسَّبَبِ لِلرُّجُوعِ والخُرُوجِ، والسَّبَبُ إذا انْتَفى يَنْتَفِي المُسَبَّبُ جَزْمًا، وإذا وُجِدَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ المُسَبَّبُ لِمانِعٍ، تَقُولُ: كَسَرْتُهُ فَلَمْ يَنْكَسِرْ، وإنْ كانَ مَجازًا والمُسَبَّبُ إذا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ، وإذا انْتَفى لا يَنْتَفِي السَّبَبُ؛ لِما تَقَدَّمَ، إذا عُلِمَ هَذا فَهم أنْكَرُوا وُجُودَ السَّبَبِ ونَفَوْهُ، ويَنْتَفِي المُسَبَّبُ عِنْدَ انْتِفائِهِ جَزْمًا فَبالَغُوا وأنْكَرُوا الأمْرَ جَمِيعًا؛ لِأنَّ نَفْيَ السَّبَبِ نَفْيُ المُسَبَّبِ، فَأثْبَتَ اللَّهُ الأمْرَيْنِ بِالخُرُوجِ كَما نَفُوا الأمْرَيْنِ جَمِيعًا بِنَفْيِ الإخْراجِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب