الباحث القرآني

(p-١٢٥)[ سُورَةُ ق ] أرْبَعُونَ وخَمْسُ آياتٍ، مَكِّيَّةٌ ﷽ ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ ﷽ ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ وقَبْلَ التَّفْسِيرِ نَقُولُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ وهي أُمُورٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُقْرَأُ في صَلاةِ العِيدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى فِيها: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ﴾ [ق: ٤٢] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ [ق: ١١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤] فَإنَّ العِيدَ يَوْمُ الزِّينَةِ، فَيَنْبَغِي أنْ لا يَنْسى الإنْسانُ خُرُوجَهُ إلى عَرْصاتِ الحِسابِ، ولا يَكُونُ في ذَلِكَ اليَوْمِ فَرِحًا فَخُورًا، ولا يَرْتَكِبُ فِسْقًا ولا فُجُورًا، ولَمّا أمَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِالتَّذْكِيرِ بِقَوْلِهِ في آخِرِ السُّورَةِ: ﴿فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] ذَكَّرَهم بِما يُناسِبُ حالَهم في يَوْمِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ق والقُرْآنِ﴾ . الثّانِي: هَذِهِ السُّورَةُ، وسُورَةُ ”ص“ تَشْتَرِكانِ في افْتِتاحِ أوَّلِهِما بِالحُرُوفِ المُعْجَمِ، والقَسَمِ بِالقُرْآنِ، وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ﴾ [ق: ٢]، والتَّعَجُّبِ، ويَشْتَرِكانِ في شَيْءٍ آخَرَ، وهو أنْ أوَّلَ السُّورَتَيْنِ وآخِرَهُما مُتَناسِبانِ، وذَلِكَ لِأنَّ في ”ص“ قالَ في أوَّلِها: ﴿والقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص: ١] وقالَ في آخِرِها: ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ [ص: ٨٧] وفي ”ق“ قالَ في أوَّلِها: ﴿والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ وقالَ في آخِرِها: ﴿فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] فافْتَتَحَ بِما اخْتَتَمَ بِهِ. والثّالِثُ: وهو أنَّ في تِلْكَ السُّورَةِ صَرْفَ العِنايَةِ إلى تَقْرِيرِ الأصْلِ الأوَّلِ وهو التَّوْحِيدُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا﴾ [ص: ٥] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ﴾ [ص: ٦] وفي هَذِهِ السُّورَةِ إلى تَقْرِيرِ الأصْلِ الآخَرِ وهو الحَشْرُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣] ولَمّا كانَ افْتِتاحُ السُّورَةِ في ”ص“ في تَقْرِيرِ المَبْدَأِ، قالَ في آخِرِها: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ (p-١٢٦)[ص: ٧١] وخَتَمَهُ بِحِكايَةِ بَدْءِ [ خَلْقِ ] آدَمَ؛ لِأنَّهُ دَلِيلُ الوَحْدانِيَّةِ. ولَمّا كانَ افْتِتاحُ هَذِهِ لِبَيانِ الحَشْرِ، قالَ في آخِرِها: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهم سِراعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤] وأمّا التَّفْسِيرُ، فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قِيلَ ﴿ق﴾ اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بِالعالَمِ، وقِيلَ: مَعْناهُ حِكْمَةٌ، هي قَوْلُنا: قُضِيَ الأمْرُ. وفي ”ص“: صَدَقَ اللَّهُ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الحُرُوفَ تَنْبِيهاتٌ قُدِّمَتْ عَلى القُرْآنِ، لِيَبْقى السّامِعُ مُقْبِلًا عَلى اسْتِماعِ ما يَرِدُ عَلَيْهِ، فَلا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الكَلامِ الرّائِقِ والمَعْنى الفائِقِ. وذَكَرْنا أيْضًا أنَّ العِبادَةَ مِنها قَلْبِيَّةٌ، ومِنها لِسانِيَّةٌ، ومِنها خارِجِيَّةٌ ظاهِرَةٌ، ووُجِدَ في الجارِحِيَّةِ ما عُقِلَ مَعْناهُ، ووُجِدَ مِنها ما لَمْ يُعْقَلْ مَعْناهُ، كَأعْمالِ الحَجِّ مِنَ الرَّمْيِ والسَّعْيِ وغَيْرِهِما، ووُجِدَ في القَلْبِيَّةِ ما عُقِلَ بِدَلِيلٍ، كَعِلْمِ التَّوْحِيدِ، وإمْكانِ الحَشْرِ، وصِفاتِ اللَّهِ تَعالى، وصِدْقِ الرُّسُلِ، ووُجِدَ فِيها ما يُبْعِدُها عَنْ كَوْنِها مَعْقُولَةَ المَعْنى، أُمُورٌ لا يُمْكِنُ التَّصْدِيقُ والجَزْمُ بِها لَوْلا السَّمْعُ، كالصِّراطِ المَمْدُودِ الأحَدِّ مِنَ السَّيْفِ الأرَقِّ مِنَ الشَّعْرِ، والمِيزانُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ الأعْمالُ، فَكَذَلِكَ كانَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الأذْكارُ الَّتِي هي العِبادَةُ اللِّسانِيَّةُ مِنها ما يُعْقَلُ مَعْناهُ كَجَمِيعِ القُرْآنِ إلّا قَلِيلًا مِنهُ، ومِنها ما لا يُعْقَلُ ولا يُفْهَمُ كَحَرْفِ التَّهَجِّي؛ لِكَوْنِ التَّلَفُّظِ بِهِ مَحْضَ الِانْقِيادِ لِلْأمْرِ، لا لِما يَكُونُ في الكَلامِ مِن طِيبِ الحِكايَةِ والقَصْدِ إلى غَرَضٍ، كَقَوْلِنا: ﴿واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] بَلْ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ تَعَبُّدًا مَحْضًا، ويُؤَيِّدُ هَذا وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ مُقْسَمٌ بِها؛ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أقْسَمَ بِالتِّينِ والزَّيْتُونِ كانَ تَشْرِيفًا لَهُما، فَإذا أقْسَمَ بِالحُرُوفِ الَّتِي هي أصْلُ الكَلامِ الشَّرِيفِ الَّذِي هو دَلِيلُ المَعْرِفَةِ وآلَةُ التَّعْرِيفِ كانَ أوْلى، وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ عَلى هَذا فِيهِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: القَسَمُ مِنَ اللَّهِ وقَعَ بِأمْرٍ واحِدٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والعَصْرِ﴾ [العصر: ١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والنَّجْمِ﴾ [النجم: ١] وبِحَرْفٍ واحِدٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ص﴾ و﴿ن﴾، ووَقَعَ بِأمْرَيْنِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والضُّحى﴾ ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ [الضحى: ١] وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ [الطارق: ١]، وبِحَرْفَيْنِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿طه﴾ و﴿طس﴾ و﴿يس﴾ و﴿حم﴾، وبِثَلاثَةِ أُمُورٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والصّافّاتِ﴾ (﴿فالزّاجِراتِ﴾ ﴿فالتّالِياتِ﴾، وبِثَلاثَةِ أحْرُفٍ كَما في ﴿الم﴾ وفي ﴿طسم﴾ ﴿الر﴾، وبِأرْبَعَةِ أُمُورٍ كَما في ﴿والذّارِياتِ﴾ [الذاريات: ١] وفي ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البروج: ١] وفي ﴿والتِّينِ﴾ [التين: ١]، وبِأرْبَعَةِ أحْرُفٍ كَما في ﴿المص﴾ و﴿المر﴾، وبِخَمْسَةِ أُمُورٍ كَما في ﴿والطُّورِ﴾ [الطور: ١] وفي ﴿والمُرْسَلاتِ﴾ [المرسلات: ١] وفي ﴿والنّازِعاتِ﴾ [النازعات: ١] وفي ﴿والفَجْرِ﴾ [الفجر: ١]، وبِخَمْسَةِ أحْرُفٍ كَما في ﴿كهيعص﴾ ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ولَمْ يُقْسِمْ بِأكْثَرَ مِن خَمْسَةِ أشْياءَ إلّا في سُورَةٍ واحِدَةٍ وهي ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ [الشمس: ١] ولَمْ يُقْسِمْ بِأكْثَرَ مِن خَمْسَةِ أُصُولٍ؛ لِأنَّهُ يَجْمَعُ كَلِمَةَ الِاسْتِثْقالِ، ولَمّا اسْتُثْقِلَ حِينَ رُكِّبَ لِمَعْنًى كانَ اسْتِثْقالُها حِينَ رُكِّبَ مِن غَيْرِ إحاطَةِ العِلْمِ بِالمَعْنى أوْ لا لِمَعْنًى كانَ أشَدَّ. البَحْثُ الثّانِي: عِنْدَ القَسَمِ بِالأشْياءِ المَعْهُودَةِ، ذَكَرَ حَرْفَ القَسَمِ وهي الواوُ، فَقالَ: ﴿والطُّورِ﴾ ( ﴿والنَّجْمِ﴾ ﴿والشَّمْسِ﴾ وعِنْدَ القَسَمِ بِالحُرُوفِ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ القَسَمِ، فَلَمْ يَقُلْ: و﴿ق﴾ و﴿حم﴾ لِأنَّ القَسَمَ لَمّا كانَ بِنَفْسِ الحُرُوفِ كانَ الحَرْفُ مُقْسَمًا بِهِ، فَلَمْ يُورِدْهُ في مَوْضِعِ كَوْنِهِ آلَةَ القَسَمِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الحُرُوفِ. (p-١٢٧)البَحْثُ الثّالِثُ: أقْسَمَ اللَّهُ بِالأشْياءِ: كالتِّينِ والطُّورِ، ولَمْ يُقْسِمْ بِأُصُولِها، وهي الجَواهِرُ الفَرْدَةُ والماءُ والتُّرابُ. وأقْسَمَ بِالحُرُوفِ مِن غَيْرِ تَرْكِيبٍ؛ لِأنَّ الأشْياءَ عِنْدَهُ يُرَكِّبُها عَلى أحْسَنِ حالِها، وأمّا الحُرُوفُ إنْ رُكِّبَتْ بِمَعْنًى، يَقَعُ الحَلِفُ بِمَعْناهُ لا بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِنا: ﴿السَّماءَ والأرْضَ﴾ [الأنبياء: ١٦] وإنْ رُكِّبَتْ لا بِمَعْنًى، كانَ المُفْرَدُ أشْرَفَ، فَأقْسَمَ بِمُفْرَداتِ الحُرُوفِ. البَحْثُ الرّابِعُ: أقْسَمَ بِالحُرُوفِ في أوَّلِ ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ سُورَةً، وبِالأشْياءِ الَّتِي عَدَدُها عَدَدُ الحُرُوفِ، وهي غَيْرُ ﴿والشَّمْسِ﴾ [الشمس: ١] في أرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً؛ لِأنَّ القَسَمَ بِالأُمُورِ غَيْرُ الحُرُوفِ وقَعَ في أوائِلِ السُّوَرِ وفي أثْنائِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَلّا والقَمَرِ﴾ ﴿واللَّيْلِ إذْ أدْبَرَ﴾ [المدثر: ٣٣] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّيْلِ وما وسَقَ﴾ [الانشقاق: ١٧] وقَوْلِهِ: ﴿واللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ﴾ [التكوير: ١٧] والقَسَمُ بِالحُرُوفِ لَمْ يُوجَدْ ولَمْ يَحْسُنْ إلّا في أوائِلِ السُّوَرِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ ما لا يُفْهَمُ مَعْناهُ في أثْناءِ الكَلامِ المَنظُومِ المَفْهُومِ يُخِلُّ بِالفَهْمِ، ولَمّا كانَ القَسَمُ بِالأشْياءِ لَهُ مَوْضِعانِ والقَسَمُ بِالحُرُوفِ لَهُ مَوْضِعٌ واحِدٌ، جُعِلَ القَسَمُ بِالأشْياءِ في أوائِلِ السُّوَرِ عَلى نِصْفِ القَسَمِ بِالحُرُوفِ في أوائِلِها. البَحْثُ الخامِسُ: القَسَمُ بِالحُرُوفِ وقَعَ في النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ في كُلِّ سَبْعٍ، وبِالأشْياءِ المَعْدُودَةِ لَمْ يُوجَدْ إلّا في النِّصْفِ الأخِيرِ، بَلْ لَمْ يُوجَدْ إلّا في السَّبْعِ الأخِيرِ غَيْرَ والصّافّاتِ، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ القَسَمَ بِالحُرُوفِ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ ذِكْرِ القُرْآنِ أوِ الكِتابِ أوِ التَّنْزِيلِ بَعْدَهُ إلّا نادِرًا، فَقالَ تَعالى: ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ [يس: ٢] ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ﴾ [غافر: ١] ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ١] ولَمّا كانَ جَمِيعُ القُرْآنِ مُعْجِزَةً مُؤَدّاةً بِالحُرُوفِ وُجِدَ ذَلِكَ عامًّا في جَمِيعِ المَواضِعِ ولا كَذَلِكَ القَسَمُ بِالأشْياءِ المَعْدُودَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا شَيْئًا مِن ذَلِكَ في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ. ولْنَذْكُرْ ما يَخْتَصُّ بِقافٍ، قِيلَ: إنَّهُ اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بِالأرْضِ عَلَيْهِ أطْرافُ السَّماءِ، وهو ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ القِراءَةَ الكَثِيرَةَ الوَقْفُ، ولَوْ كانَ اسْمَ جَبَلٍ لَما جازَ الوَقْفُ في الإدْراجِ؛ لِأنَّ مَن قالَ ذَلِكَ قالَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أقْسَمَ بِهِ. وثانِيها: أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَذُكِرَ بِحَرْفِ القَسَمِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والطُّورِ﴾ [الطور: ١] وذَلِكَ لِأنَّ حَرْفَ القَسَمِ يُحْذَفُ حَيْثُ يَكُونُ المُقْسَمُ بِهِ مُسْتَحِقًّا لِأنْ يُقْسَمَ بِهِ، كَقَوْلِنا: اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ كَذا، واسْتِحْقاقُهُ لِهَذا غَنِيٌّ عَنِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، ولا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: زَيْدٍ لَأفْعَلَنَّ. ثالِثُها: هو أنَّهُ لَوْ كانَ كَما ذَكَرَ لَكانَ يُكْتَبُ قافٌ مَعَ الألِفِ والفاءِ كَما يُكْتَبُ ﴿عَيْنٌ جارِيَةٌ﴾ [الغاشية: ١٢] ويُكْتَبُ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] وفي جَمِيعِ المَصاحِفِ يُكْتَبُ حَرْفُ ﴿ق﴾ . ورابِعُها: هو أنَّ الظّاهِرَ أنَّ الأمْرَ فِيهِ كالأمْرِ في ﴿ص﴾ ﴿ن )﴾ ﴿حم﴾ وهي حُرُوفٌ لا كَلِماتٌ، وكَذَلِكَ في ﴿ق﴾ فَإنْ قِيلَ: هو مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، نَقُولُ: المَنقُولُ عَنْهُ أنَّ (قافْ) اسْمُ جَبَلٍ، وأمّا أنَّ المُرادَ في هَذا المَوْضِعِ بِهِ ذَلِكَ فَلا، وقِيلَ: إنَّ مَعْناهُ قُضِيَ الأمْرُ، وفي ﴿ص﴾ صَدَقَ اللَّهُ، وقِيلَ: هو اسْمُ الفاعِلِ مِن قَفا يَقْفُو و”ص“ مِن صادَ مِنَ المُصاداةِ، وهي المُعارَضَةُ، مَعْناهُ هَذا قافٍ جَمِيعَ الأشْياءِ بِالكَشْفِ، ومَعْناهُ حِينَئِذٍ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] إذا قُلْنا: إنَّ الكِتابَ هُناكَ القُرْآنُ. هَذا ما قِيلَ في ﴿ق﴾ وأمّا القِراءَةُ فِيهِ فَكَثِيرَةٌ وحَصْرُها بَيانُ مَعْناها، فَنَقُولُ: إنْ قُلْنا هي مَبْنِيَّةٌ عَلى ما بَيَّنّا فَحَقُّها الوَقْفُ، إذْ لا عامِلَ فِيها فَيُشْبِهُ بِناءَ الأصْواتِ، ويَجُوزُ الكَسْرُ حَذَرًا مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، ويَجُوزُ الفَتْحُ اخْتِيارًا لِلْأخَفِّ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جازَ اخْتِيارُ الفَتْحِ هَهُنا ولَمْ يَجُزْ عِنْدَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ إذا كانَ أحَدُهُما آخِرَ كَلِمَةٍ، والآخَرُ أوَّلَ أُخْرى كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البينة: ١] ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢] ؟ نَقُولُ: لِأنَّ هُناكَ إنَّما وجَبَ التَّحْرِيكُ وعُيِّنَ الكَسْرُ في الفِعْلِ (p-١٢٨)لِشُبْهَةِ تَحَرُّكِ الإعْرابِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ مَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الرَّفْعُ والنَّصْبُ ولا يُوجَدُ فِيهِ الجَرُّ، فاخْتِيرَتِ الكَسْرَةُ الَّتِي لا يَخْفى عَلى أحَدٍ أنَّها لَيْسَتْ بِجَرٍّ؛ لِأنَّ الفِعْلَ لا يَجُوزُ فِيهِ الجَرُّ ولَوْ فُتِحَ لاشْتَبَهَ بِالنَّصْبِ، وأمّا في أواخِرِ الأسْماءِ، فَلا اشْتِباهَ، لِأنَّ الأسْماءَ مَحَلٌّ تَرِدُ عَلَيْهِ الحَرَكاتُ الثَّلاثُ فَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ فاخْتارُوا الأخَفَّ، وأمّا إنْ قُلْنا: إنَّها حَرْفٌ مُقْسَمٌ بِهِ، فَحَقُّها الجَرُّ، ويَجُوزُ النَّصْبُ بِجَعْلِهِ مَفْعُولًا بِأقْسَمَ عَلى وجْهِ الِاتِّصالِ، وتَقْدِيرُ الباءِ كَأنْ لَمْ يُوجَدْ، وإنْ قُلْنا: هي اسْمُ السُّورَةِ، فَإنْ قُلْنا: مُقْسَمٌ بِها مَعَ ذَلِكَ فَحَقُّها الفَتْحُ؛ لِأنَّها لا تَنْصَرِفُ حِينَئِذٍ، فَفَتَحَ في مَوْضِعِ الجَرِّ، كَما تَقُولُ: وإبْراهِيمَ وأحْمَدَ، في القَسَمِ بِهِما، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ لَيْسَ مُقْسَمًا بِها وقُلْنا: اسْمُ السُّورَةِ، فَحَقُّها الرَّفْعُ إنْ جَعَلْناها خَبَرًا تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ ق، وإنْ قُلْنا: هو مِن قَفا يَقْفُو، فَحَقُّهُ التَّنْوِينُ كَقَوْلِنا: هَذا داعٍ وراعٍ، وإنْ قُلْنا: اسْمُ جَبَلٍ، فالجَرُّ والتَّنْوِينُ، وإنْ كانَ قَسَمًا. ولْنَعُدْ إلى التَّفْسِيرِ، فَنَقُولُ: الوَصْفُ قَدْ يَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ، وهو الأكْثَرُ، كَقَوْلِنا: ”الكَلامُ القَدِيمُ“؛ لِيَتَمَيَّزَ عَنِ الحادِثِ، و”الرَّجُلُ الكَرِيمُ“؛ لِيَمْتازَ عَنِ اللَّئِيمِ، وقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ المَدْحِ، كَقَوْلِنا: اللَّهُ الكَرِيمُ، إذْ لَيْسَ في الوُجُودِ إلَهٌ آخَرُ حَتّى نُمَيِّزَهُ عَنْهُ بِالكَرِيمِ، وفي هَذا المَوْضِعِ يَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لِمُجَرَّدِ المَدْحِ، وأمّا التَّمْيِيزُ فَبِأنْ نَجْعَلَ القُرْآنَ اسْمًا لِلْمَقْرُوءِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ [الرعد: ٣١] والمَجِيدُ العَظِيمُ، وقِيلَ: المَجِيدُ هو كَثِيرُ الكَرَمِ، وعَلى الوَجْهَيْنِ القُرْآنُ مَجِيدٌ، أمّا عَلى قَوْلِنا: المَجِيدُ هو العَظِيمُ، فَلِأنَّ القُرْآنَ عَظِيمُ الفائِدَةِ، ولِأنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ العَظِيمِ، وذِكْرُ العَظِيمِ عَظِيمٌ، ولِأنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ، وهو آيَةُ العَظَمَةِ، يُقالُ: مَلِكٌ عَظِيمٌ، إذا لَمْ يَكُنْ يُغْلَبُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] أيِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى مَثَلِهِ أحَدٌ لِيُكُونَ مُعْجِزَةً دالَّةً عَلى نُبُوَّتِكَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢] أيْ مَحْفُوظٌ مِن أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أحَدٌ إلّا بِإطْلاعِهِ تَعالى، فَلا يُبَدَّلُ ولا يُغَيَّرُ، و﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢] فَهو غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَهو عَظِيمٌ، وأمّا عَلى قَوْلِنا: المَجِيدُ هو كَثِيرُ الكَرَمِ، فالقُرْآنُ كَرِيمٌ، كُلُّ مَن طَلَبَ مِنهُ مَقْصُودَهُ وجَدَهُ، وإنَّهُ مُغْنٍ كُلَّ مَن لاذَ بِهِ، وإغْناءُ المُحْتاجِ غايَةُ الكَرَمِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ هو أنَّ المَجِيدَ مَقْرُونٌ بِالحَمِيدِ في قَوْلِنا: إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فالحَمِيدُ هو المَشْكُورُ، والشُّكْرُ عَلى الإنْعامِ والمُنْعِمُ كَرِيمٌ، فالمَجِيدُ هو الكَرِيمُ البالِغُ في الكَرَمِ، وفِيهِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: القُرْآنُ مُقْسَمٌ بِهِ، فالمُقْسَمُ عَلَيْهِ ماذا ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ وضَبْطُها بِأنْ نَقُولَ: ذَلِكَ إمّا أنْ يُفْهَمَ بِقَرِينَةٍ حالِيَّةٍ أوْ قَرِينَةٍ مَقالِيَّةٍ، والمَقالِيَّةُ إمّا أنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلى المُقْسَمِ بِهِ أوْ مُتَأخِّرَةً، فَإنْ قُلْنا بِأنَّهُ مَفْهُومٌ مِن قَرِينَةٍ مَقالِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَلا مُتَقَدِّمَ هُناكَ لَفْظًا إلّا ﴿ق﴾ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَذا ق والقُرْآنِ المَجِيدِ، أوْ ”ق“ أنْزَلَها اللَّهُ تَعالى: ﴿والقُرْآنِ﴾ كَما يَقُولُ هَذا حاتِمٌ واللَّهِ، أيْ هو المَشْهُورُ بِالسَّخاءِ، ويَقُولُ: الهِلالُ رَأيْتُهُ واللَّهِ، وإنْ قُلْنا بِأنَّهُ مَفْهُومٌ مِن قَرِينَةٍ مَقالِيَّةٍ مُتَأخِّرَةٍ، فَنَقُولُ: ذَلِكَ أمْرانِ: أحَدُهُما: المُنْذِرُ، والثّانِي: الرَّجْعُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: والقُرْآنِ المَجِيدِ إنَّكَ المُنْذِرُ، أوْ: والقُرْآنِ المَجِيدِ إنَّ الرَّجْعَ لَكائِنٌ؛ لِأنَّ الأمْرَيْنِ ورَدَ القَسَمُ عَلَيْهِما ظاهِرًا، أمّا الأوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ ﴿إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢] إلى أنْ قالَ: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] . وأمّا الثّانِي: فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والطُّورِ﴾ ﴿وكِتابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: ٢] إلى أنْ قالَ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ وهَذا الوَجْهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ غايَةَ الظُّهُورِ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: ”ق“ اسْمُ جَبَلٍ، فَإنَّ القَسَمَ يَكُونُ بِالجَبَلِ والقُرْآنِ، وهُناكَ القَسَمُ بِالطُّورِ والكِتابِ المَسْطُورِ، وهو الجَبَلُ والقُرْآنُ، فَإنْ قِيلَ: أيُّ الوَجْهَيْنِ مِنهُما أظْهَرُ عِنْدَكَ ؟ قُلْتُ: (الأوَّلُ)؛ لِأنَّ المُنْذِرَ أقْرَبُ مِنَ الرَّجْعِ، ولِأنَّ الحُرُوفَ رَأيْناها مَعَ القُرْآنِ والمُقْسَمُ كَوْنُهُ (p-١٢٩)مُرْسِلًا ومُنْذِرًا، وما رَأيْنا الحُرُوفَ ذُكِرَتْ وبَعْدَها الحَشْرُ، واعْتَبِرْ ذَلِكَ في سُورَةٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هو الحَقُّ مِن رَبِّكَ لِتُنْذِرَ﴾ [السجدة: ١] ولِأنَّ القُرْآنَ مُعْجِزَةٌ دالَّةٌ عَلى كَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولَ اللَّهِ، فالقَسَمُ بِهِ عَلَيْهِ يَكُونُ إشارَةً إلى الدَّلِيلِ عَلى طَرِيقَةِ القَسَمِ، ولَيْسَ هو بِنَفْسِهِ دَلِيلًا عَلى الحَشْرِ، بَلْ فِيهِ أماراتٌ مُفِيدَةٌ لِلْجَزْمِ بِالحَشْرِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وأمّا إنْ قُلْنا: هو مَفْهُومٌ بِقَرِينَةٍ حالِيَّةٍ، فَهو كَوْنُ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى الحَقِّ ولِكَلامِهِ صِفَةُ الصِّدْقِ، فَإنَّ الكُفّارَ كانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، والمُخْتارُ ما ذَكَرْناهُ. والثّانِي: ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ هُناكَ أمْرٌ مُضْرَبٌ عَنْهُ فَما ذَلِكَ ؟ نَقُولُ: قالَ الواحِدِيُّ، ووافَقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهُ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ: ما الأمْرُ، كَما يَقُولُونَ، ونَزِيدُهُ وُضُوحًا، فَنَقُولُ عَلى ما اخْتَرْناهُ: فَإنَّ التَّقْدِيرَ - واللَّهُ أعْلَمُ - ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ إنَّكَ لَتُنْذِرُ، فَكَأنَّهُ قالَ بَعْدَهُ: وإنَّهم شَكُّوا فِيهِ فاضْرِبْ عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب