الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأحْسَنُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ آيَةُ تَحْرِيمِ الخَمْرِ قالَتِ الصَّحابَةُ: إنَّ إخْوانَنا كانُوا قَدْ شَرِبُوا الخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا، فَكَيْفَ حالُهم ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، والمَعْنى: لا إثْمَ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ لِأنَّهم شَرِبُوها حالَ ما كانَتْ مُحَلَّلَةً، وهَذِهِ الآيَةُ مُشابِهَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ إلى الكَعْبَةِ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] أيْ أنَّكم حِينَ اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ فَقَدِ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ بِأمْرِي فَلا أُضِيعُ ذَلِكَ، كَما قالَ: ﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهم أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكم مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾ [آل عمران: ١٩٥] . (p-٧٠)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الطَّعامُ في الأغْلَبِ مِنَ اللُّغَةِ خِلافُ الشَّرابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الطُّعْمُ خِلافَ الشُّرْبِ، إلّا أنَّ اسْمَ الطَّعامِ قَدْ يَقَعُ عَلى المَشْرُوباتِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي﴾ [البَقَرَةِ: ٢٤٩] وعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾ أيْ شَرِبُوا الخَمْرَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الطُّعْمِ راجِعًا إلى التَّلَذُّذِ بِما يُؤْكَلُ ويُشْرَبُ، وقَدْ تَقُولُ العَرَبُ: تَطَعَّمْ تَطْعَمْ، أيْ ذُقْ حَتّى تَشْتَهِيَ، وإذا كانَ مَعْنى الكَلِمَةِ راجِعًا إلى الذَّوْقِ صَلُحَ لِلْمَأْكُولِ والمَشْرُوبِ مَعًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: زَعَمَ بَعْضُ الجُهّالِ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَداوَةِ والبَغْضاءِ وصادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا جُناحَ عَلى مَن طَعِمَها إذا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِن تِلْكَ المَفاسِدِ، بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أنْواعُ المَصالِحِ مِنَ الطّاعَةِ والتَّقْوى والإحْسانِ إلى الخَلْقِ، قالُوا: ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى أحْوالِ مَن شَرِبَ الخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَقالَ: ما كانَ جُناحٌ عَلى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَما ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ في آيَةِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ فَقالَ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] ولَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قالَ: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا﴾ ولا شَكَّ أنَّ (إذا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لا لِلْماضِي. واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ مَرْدُودٌ بِإجْماعِ كُلِّ الأُمَّةِ، وقَوْلُهم: إنَّ كَلِمَةَ إذا (إذا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لا لِلْماضِي، فَجَوابُهُ ما «رَوى أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: أنَّهُ لَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ قالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإخْوانِنا الَّذِينَ ماتُوا وقَدْ شَرِبُوا الخَمْرَ وفَعَلُوا القِمارَ، وكَيْفَ بِالغائِبِينَ عَنّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَها ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآياتِ»، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالحِلُّ قَدْ ثَبَتَ في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ عَنْ وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَكِنْ في حَقِّ الغائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهم هَذا النَّصُّ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أنَّهُ تَعالى شَرَطَ لِنَفْيِ الجُناحِ حُصُولَ التَّقْوى والإيمانِ مَرَّتَيْنِ، وفي المَرَّةِ الثّالِثَةِ حُصُولَ التَّقْوى والإحْسانِ، واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ هَذِهِ المَراتِبِ الثَّلاثِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قالَ الأكْثَرُونَ: عَمَلُ الِاتِّقاءِ. والثّانِي: دَوامُ الِاتِّقاءِ والثَّباتُ عَلَيْهِ، والثّالِثُ: اتِّقاءُ ظُلْمِ العِبادِ مَعَ ضَمِّ الإحْسانِ إلَيْهِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الأوَّلَ اتِّقاءُ جَمِيعِ المَعاصِي قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. والثّانِي: اتِّقاءُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ وما في هَذِهِ الآيَةِ. والثّالِثُ: اتِّقاءُ ما يَحْدُثُ تَحْرِيمُهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، وهَذا قَوْلُ الأصَمِّ، القَوْلُ الثّالِثُ: اتِّقاءُ الكُفْرِ ثُمَّ الكَبائِرِ ثُمَّ الصَّغائِرِ، القَوْلُ الرّابِعُ: ما ذَكَرَهُ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قالَ: التَّقْوى الأُولى عِبارَةٌ عَنِ الِاتِّقاءِ مِنَ القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ، وذَلِكَ لِأنَّ اليَهُودَ يَقُولُونَ: النَّسْخُ يَدُلُّ عَلى البَداءِ، فَأوْجَبَ عَلى المُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَماعِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ بَعْدَ أنْ كانَتْ مُباحَةً أنْ يَتَّقُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الفاسِدَةِ، والتَّقْوى الثّانِيَةُ الإتْيانُ بِالعَمَلِ المُطابِقِ لِهَذِهِ الآيَةِ وهي الِاحْتِرازُ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ، والتَّقْوى الثّالِثَةُ عِبارَةٌ عَنِ المُداوَمَةِ عَلى التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأُولى والثّانِيَةِ ثُمَّ يُضَمُّ إلى هَذِهِ التَّقْوى الإحْسانُ إلى الخَلْقِ. والقَوْلُ الخامِسُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ والمُبالَغَةُ في الحَثِّ عَلى الإيمانِ والتَّقْوى، فَإنْ قِيلَ: لِمَ شَرَطَ رَفْعَ الجُناحِ عَنْ تَناوُلِ المَطْعُوماتِ بِشَرْطِ الإيمانِ والتَّقْوى مَعَ أنَّ المَعْلُومَ أنَّ مَن لَمْ يُؤْمِن ومَن لَمْ يَتَّقِ ثُمَّ تَناوَلَ شَيْئًا مِنَ المُباحاتِ فَإنَّهُ لا جُناحَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ التَّناوُلِ، بَلْ عَلَيْهِ جُناحٌ في تَرْكِ الإيمانِ وفي تَرْكِ التَّقْوى، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَناوُلِ ذَلِكَ المُباحِ فَذِكْرُ هَذا الشَّرْطِ في هَذا المَعْرِضِ غَيْرُ جائِزٍ. (p-٧١)قُلْنا: لَيْسَ هَذا لِلِاشْتِراطِ بَلْ لِبَيانِ أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ كانُوا عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ ثَناءً عَلَيْهِمْ وحَمْدًا لِأحْوالِهِمْ في الإيمانِ والتَّقْوى والإحْسانِ، ومِثالُهُ أنْ يُقالَ لَكَ: هَلْ عَلى زَيْدٍ فِيما فَعَلَ جُناحٌ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ مُباحٌ فَتَقُولُ: لَيْسَ عَلى أحَدٍ جُناحٌ في المُباحِ إذا اتَّقى المَحارِمَ وكانَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا؛ تُرِيدُ أنَّ زَيْدًا إنْ بَقِيَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا فَإنَّهُ غَيْرُ مُؤاخَذٍ بِما فَعَلَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا جَعَلَ الإحْسانَ شَرْطًا في نَفْيِ الجُناحِ بَيَّنَ أنَّ تَأْثِيرَ الإحْسانِ لَيْسَ في نَفْيِ الجُناحِ فَقَطْ، بَلْ وفي أنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أشْرَفُ الدَّرَجاتِ وأعْلى المَقاماتِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعالى لِعِبادِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب