الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى أعْيُنَهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (سَمِعُوا) يَرْجِعُ إلى القِسِّيسِينَ والرُّهْبانِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنهم و(ما أُنْزِلَ) يَعْنِي: القُرْآنَ ﴿إلى الرَّسُولِ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ النَّجاشِيَّ وأصْحابَهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ جَعْفَرًا الطَّيّارَ قَرَأ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ، فَأخَذَ النَّجاشِيُّ تَبِنَةً مِنَ الأرْضِ وقالَ: واللَّهِ ما زادَ عَلى ما قالَ اللَّهُ في الإنْجِيلِ مِثْلَ هَذا، وما زالُوا يَبْكُونَ حَتّى فَرَغَ جَعْفَرٌ مِنَ القِراءَةِ، وأمّا قَوْلُهُ ﴿تَرى أعْيُنَهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: المُرادُ أنَّ أعْيُنَهم تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتّى تَفِيضَ؛ لِأنَّ الفَيْضَ أنْ يَمْتَلِئَ الإناءُ وغَيْرُهُ حَتّى يَطَلُعَ ما فِيهِ مِن جَوانِبِهِ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ المُبالَغَةَ في وصْفِهِمْ بِالبُكاءِ فَجُعِلَتْ أعْيُنُهم كَأنَّها تَفِيضُ بِأنْفُسِها. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ أيْ: مِمّا نَزَلَ عَلى مُحَمَّدٍ وهو الحَقُّ. فَإنْ قِيلَ: أيُّ فَرْقٍ بَيْنَ ”مِن“ وبَيْنَ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ . قُلْنا: الأُولى لِابْتِداءِ الغايَةِ، والتَّقْدِيرُ: أنَّ فَيْضَ الدَّمْعِ إنَّما ابْتُدِئَ مِن مَعْرِفَةِ الحَقِّ، وكانَ مِن أجْلِهِ وبِسَبَبِهِ، والثّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، يَعْنِي أنَّهم عَرَفُوا بَعْضَ الحَقِّ وهو القُرْآنُ فَأبْكاهُمُ اللَّهُ، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا كُلَّهُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا﴾ أيْ بِما سَمِعْنا وشَهِدْنا أنَّهُ حَقٌّ ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالحَقِّ، وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ . والثّانِي: أيْ مَعَ كُلِّ مَن شَهِدَ مِن أنْبِيائِكَ ومُؤْمِنِي عِبادِكَ بِأنَّكَ لا إلَهَ غَيْرُكَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وما جاءَنا مِنَ الحَقِّ ونَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ﴾ (p-٥٨)فَفِيهِ مَسْألَتانِ: الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: مَحَلُّ ﴿لا نُؤْمِنُ﴾ النَّصْبُ عَلى الحالِ بِمَعْنى غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِكَ قائِمًا، والواوُ في قَوْلِهِ: (ونَطْمَعُ) واوُ الحالِ. فَإنْ قِيلَ: فَما العامِلُ في الحالِ الأُولى والثّانِيَةِ ؟ قُلْنا: العامِلُ في الأُولى ما في اللّامِ مِن مَعْنى الفِعْلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَنا حالَ كَوْنِنا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وفي الثّانِي مَعْنى هَذا الفِعْلِ ولَكِنْ مُقَيَّدًا بِالحالِ الأُولى؛ لِأنَّكَ لَوْ أزَلْتَها وقُلْتَ: وما لَنا ونَطْمَعُ لَمْ يَكُنْ كَلامًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (ونَطْمَعُ) حالًا مِن ﴿لا نُؤْمِنُ﴾ عَلى أنَّهم أنْكَرُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم لا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ ويَطْمَعُونَ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَصْحَبُوا الصّالِحِينَ، وأنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿لا نُؤْمِنُ﴾ عَلى مَعْنى: وما لَنا نَجْمَعُ بَيْنَ التَّثْلِيثِ وبَيْنَ الطَّمَعِ في صُحْبَةِ الصّالِحِينَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: ويُدْخِلُنا رَبُّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ جَنَّتَهُ ودارَ رِضْوانِهِ، قالَ تَعالى: ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾ [الحَجِّ: ٥٩] إلّا أنَّهُ حَسُنَ الحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَأثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوابَ بِمُجَرَّدِ القَوْلِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَأثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا﴾ وذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفِيدُ الثَّوابَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ الفاسِقَ لا يَبْقى مُخَلَّدًا في النّارِ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ وهَذا الإحْسانُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ هو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المَعْرِفَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ [المائِدَةِ: ٨٣]، ومِنَ الإقْرارِ بِهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَأثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا﴾ وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ هَذِهِ المَعْرِفَةَ وهَذا الإقْرارَ يُوجِبُ أنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذا الثَّوابُ، وصاحِبُ الكَبِيرَةِ لَهُ هَذِهِ المَعْرِفَةُ وهَذا الإقْرارُ، فَوَجَبَ أنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذا الثَّوابُ، فَأمّا أنْ يُنْقَلَ مِنَ الجَنَّةِ إلى النّارِ وهو باطِلٌ بِالإجْماعِ، أوْ يُقالَ: يُعاقَبُ عَلى ذَنْبِهِ ثُمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ. الثّانِي: هو أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، أيْ: أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ لا غَيْرُهم، والمُصاحِبُ لِلشَّيْءِ هو المُلازِمُ لَهُ الَّذِي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَهَذا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذا الدَّوامِ بِالكُفّارِ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّ الخُلُودَ في النّارِ لا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ الفاسِقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب