الباحث القرآني
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا خاطَبَ أهْلَ الكِتابِ بِهَذا الخِطابِ وصَفَ أسْلافَهم، فَقالَ تَعالى:
(p-٥٤)﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ ﴿ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾
قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: يَعْنِي أصْحابَ السَّبْتِ، وأصْحابَ المائِدَةِ، أمّا أصْحابُ السَّبْتِ فَهو أنَّ قَوْمَ داوُدَ، وهم أهْلُ ”أيْلَةَ“ لَمّا اعْتَدَوْا في السَّبْتِ بِأخْذِ الحِيتانِ عَلى ما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ القِصَّةَ في سُورَةِ الأعْرافِ، قالَ داوُدُ: اللَّهُمَّ العَنْهم واجْعَلْهم آيَةً فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأمّا أصْحابُ المائِدَةِ فَإنَّهم لَمّا أكَلُوا مِنَ المائِدَةِ ولَمْ يُؤْمِنُوا قالَ عِيسى: اللَّهُمَّ العَنْهم كَما لَعَنْتَ أصْحابَ السَّبْتِ فَأصْبَحُوا خَنازِيرَ، وكانُوا خَمْسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فِيهِمُ امْرَأةٌ ولا صَبِيٌّ، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ اليَهُودَ كانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأنّا مِن أوْلادِ الأنْبِياءِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ لِتَدُلَّ عَلى أنَّهم مَلْعُونُونَ عَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ. وقِيلَ: إنَّ داوُدَ وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ بَشَّرا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، ولَعَنا مَن يُكَذِّبُهُ وهو قَوْلُ الأصَمِّ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ والمَعْنى أنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ كانَ بِسَبَبِ أنَّهم يَعْصُونَ ويُبالِغُونَ في ذَلِكَ العِصْيانِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى فَسَّرَ المَعْصِيَةَ والِاعْتِداءَ بِقَوْلِهِ:
﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ ولِلتَّناهِي هَهُنا مَعْنَيانِ:
أحَدُهُما: وهو الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّهُ تَفاعُلٌ مِنَ النَّهْيِ، أيْ كانُوا لا يَنْهى بَعْضُهم بَعْضًا، رَوى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ فَهو مِنهم، ومَن كَثَّرَ سَوادَ قَوْمٍ فَهو مِنهم» .
والمَعْنى الثّانِي في التَّناهِي: أنَّهُ بِمَعْنى الِانْتِهاءِ، يُقالُ: انْتَهى عَنِ الأمْرِ، وتَناهى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ اللّامُ في (لَبِئْسَ) لامُ القَسَمِ، كَأنَّهُ قالَ: أُقْسِمُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ، وهو ارْتِكابُ المَعاصِي والعُدْوانُ، وتَرْكُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ.
فَإنْ قِيلَ: الِانْتِهاءُ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ أنْ صارَ مَفْعُولًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِمَ ذَمَّهم عَلَيْهِ ؟ (p-٥٥)قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُعاوَدَةِ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
الثّانِي: لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ أرادُوا فِعْلَهُ وأحْضَرُوا آلاتِهِ وأدَواتِهِ.
الثّالِثُ: لا يَتَناهَوْنَ عَنِ الإصْرارِ عَلى مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ أسْلافَهم بِما تَقَدَّمَ وصَفَ الحاضِرِينَ مِنهم بِأنَّهم يَتَوَلَّوْنَ الكُفّارَ وعَبَدَةَ الأوْثانِ، والمُرادُ مِنهم كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ وأصْحابُهُ حِينَ اسْتَجاشُوا المُشْرِكِينَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ، وذَكَرْنا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النِّساءِ: ٥١] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهُمْ﴾ أيْ بِئْسَ ما قَدَّمُوا مِنَ العَمَلِ لِمَعادِهِمْ في دارِ الآخِرَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ مَحَلُّ (أنْ) رَفْعٌ، تَقُولُ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، ورَفْعُهُ كَرَفْعِ زَيْدٍ، وفي زَيْدٍ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، ويَكُونُ ”بِئْسَ“ وما عَمِلَتْ فِيهِ خَبَرَهُ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ لَمّا قالَ: بِئْسَ رَجُلًا، قِيلَ: ما هو ؟ فَقالَ: زَيْدٌ، أيْ هو زَيْدٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾ والمَعْنى: لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وهو مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ كَما يَدَّعُونَ ما اتَّخَذُوا المُشْرِكِينَ أوْلِياءَ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ مُتَأكِّدٌ في التَّوْراةِ وفي شَرْعِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرادُهم تَقْرِيرَ دِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، بَلْ مُرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجاهُ فَيَسْعَوْنَ في تَحْصِيلِهِ بِأيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهِ؛ فَلِهَذا وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالفِسْقِ فَقالَ: ﴿ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾ وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ القَفّالُ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى: ولَوْ كانَ هَؤُلاءِ المُتَوَلُّونَ مِنَ المُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ ما اتَّخَذَهم هَؤُلاءِ اليَهُودُ أوْلِياءَ، وهَذا الوَجْهُ حَسَنٌ لَيْسَ في الكَلامِ ما يَدْفَعُهُ.
{"ayahs_start":78,"ayahs":["لُعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ","كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ","تَرَىٰ كَثِیرࣰا مِّنۡهُمۡ یَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَفِی ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَـٰلِدُونَ","وَلَوۡ كَانُوا۟ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِیِّ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ"],"ayah":"كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق