الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قالَ الفَرّاءُ: هَذا أمْرٌ في لَفْظِ الِاسْتِفْهامِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائِدَةِ: ٩١] في آيَةِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أيْ: ما هو إلّا رَسُولٌ مِن جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِ جاءَ بِآياتٍ مِنَ اللَّهِ كَما أتَوْا بِأمْثالِها، فَإنْ كانَ اللَّهُ أبْرَأ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأحْيا المَوْتى عَلى يَدِهِ فَقَدْ أحْيا العَصا وجَعَلَها حَيَّةً تَسْعى وفَلَقَ البَحْرَ عَلى يَدِ مُوسى، وإنْ كانَ (p-٥٢)خَلَقَهُ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ فَقَدْ خَلَقَ آدَمَ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ولا أُنْثى ﴿وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ وفي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّها صَدَّقَتْ بِآياتِ رَبِّها وبِكُلِّ ما أخْبَرَ عَنْهُ ولَدُها، قالَ تَعالى في صِفَتِها: ﴿وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وكُتُبِهِ﴾ [التَّحْرِيمِ: ١٢] . وثانِيها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ١٧] فَلَمّا كَلَّمَها جِبْرِيلُ وصَدَّقَتْهُ وقَعَ عَلَيْها اسْمُ الصِّدِّيقَةِ. وثالِثُها: أنَّ المُرادَ بِكَوْنِها صِدِّيقَةً غايَةُ بُعْدِها عَنِ المَعاصِي وشِدَّةُ جِدِّها واجْتِهادِها في إقامَةِ مَراسِمِ العُبُودِيَّةِ، فَإنَّ الكامِلَ في هَذِهِ الصِّفَةِ يُسَمّى صِدِّيقًا قالَ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ﴾ [النِّساءِ: ٦٩] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ: الِاسْتِدْلالُ عَلى فَسادِ قَوْلِ النَّصارى، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ مَن كانَ لَهُ أُمٌّ فَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ كانَ مَخْلُوقًا لا إلَهًا. والثّانِي: أنَّهُما كانا مُحْتاجَيْنِ؛ لِأنَّهُما كانا مُحْتاجَيْنِ إلى الطَّعامِ أشَدَّ الحاجَةِ، والإلَهُ هو الَّذِي يَكُونُ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الأشْياءِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يَكُونَ إلَهًا ؟ الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الحَدَثِ؛ لِأنَّ مَن أكَلَ الطَّعامَ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يُحْدِثَ، وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَن أكَلَ أحْدَثَ، فَإنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأْكُلُونَ ولا يُحْدِثُونَ. الثّانِي: أنَّ الأكْلَ عِبارَةٌ عَنِ الحاجَةِ إلى الطَّعامِ، وهَذِهِ الحاجَةُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِإلَهٍ، فَأيُّ حاجَةٍ بِنا إلى جَعْلِهِ كِنايَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ ؟ الثّالِثُ: أنَّ الإلَهَ هو القادِرُ عَلى الخَلْقِ والإيجادِ، فَلَوْ كانَ إلَهًا لَقَدَرَ عَلى دَفْعِ ألَمِ الجُوعِ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فَما لَمْ يَقْدِرْ عَلى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يَكُونَ إلَهًا لِلْعالَمِينَ ؟ وبِالجُمْلَةِ فَفَسادُ قَوْلِ النَّصارى أظْهَرُ مِن أنْ يُحْتاجَ فِيهِ إلى دَلِيلٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ؟ يُقالُ: أفَكَهُ يَأْفِكُهُ إفْكًا إذا صَرَفَهُ، والإفْكُ الكَذِبُ؛ لِأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْءِ مَأْفُوكٌ عَنْهُ، وقَدْ أفَكَتِ الأرْضُ إذا صُرِفَ عَنْها المَطَرُ، ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ أنّى يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ، قالَ أصْحابُنا: الآيَةُ دَلَّتْ عَلى أنَّهم مَصْرُوفُونَ عَنْ تَأمُّلِ الحَقِّ، والإنْسانُ يَمْتَنِعُ أنْ يَصْرِفَ نَفْسَهُ عَنِ الحَقِّ والصِّدْقِ إلى الباطِلِ والجَهْلِ والكَذِبِ؛ لِأنَّ العاقِلَ لا يَخْتارُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، فَعَلِمْنا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الَّذِي صَرَفَهم عَنْ ذَلِكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ أتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ وهَذا دَلِيلٌ آخَرُ عَلى فَسادِ قَوْلِ النَّصارى، وهو يَحْتَمِلُ أنْواعًا مِنَ الحُجَّةِ: الأوَّلُ: أنَّ اليَهُودَ كانُوا يُعادُونَهُ ويَقْصِدُونَهُ بِالسُّوءِ، فَما قَدَرَ عَلى الإضْرارِ بِهِمْ، وكانَ أنْصارُهُ وصَحابَتُهُ يُحِبُّونَهُ فَما قَدَرَ عَلى إيصالِ نَفْعٍ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا إلَيْهِمْ، والعاجِزُ عَنِ الإضْرارِ والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يَكُونَ إلَهًا ؟ الثّانِي: أنَّ مَذْهَبَ النَّصارى أنَّ اليَهُودَ صَلَبُوهُ ومَزَّقُوا أضْلاعَهُ، ولَمّا عَطِشَ وطَلَبَ الماءَ مِنهم صَبُّوا الخَلَّ في مَنخِرَيْهِ، ومَن كانَ في الضَّعْفِ هَكَذا كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يَكُونَ إلَهًا ؟ الثّالِثُ: أنَّ إلَهَ العالَمِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، ويَكُونُ كُلُّ ما سِواهُ مُحْتاجًا إلَيْهِ، فَلَوْ كانَ عِيسى كَذَلِكَ لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ الإلَهَ لا يَعْبُدُ شَيْئًا، إنَّما العَبْدُ هو الَّذِي يَعْبُدُ الإلَهَ، ولَمّا عُرِفَ بِالتَّواتُرِ كَوْنُهُ كانَ مُواظِبًا عَلى الطّاعاتِ والعِباداتِ عَلِمْنا أنَّهُ إنَّما كانَ يَفْعَلُها لِكَوْنِهِ مُحْتاجًا في تَحْصِيلِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ إلى غَيْرِهِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلى إيصالِ المَنافِعِ إلى العِبادِ ودَفْعِ المَضارِّ (p-٥٣)عَنْهم ؟ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ عَبْدًا كَسائِرِ العَبِيدِ، وهَذا هو عَيْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ قالَ لِأبِيهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مَرْيَمَ: ٤٢] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ والمُرادُ مِنهُ التَّهْدِيدُ يَعْنِي: سَمِيعٌ بِكُفْرِهِمْ عَلِيمٌ بِضَمائِرِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب