الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يابَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا اسْتَقْصى الكَلامَ مَعَ اليَهُودِ شَرَعَ هَهُنا في الكَلامِ مَعَ النَّصارى فَحَكى عَنْ فَرِيقٍ مِنهم أنَّهم قالُوا: إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وهَذا هو قَوْلُ اليَعْقُوبِيَّةِ؛ لِأنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْ إلَهًا، ولَعَلَّ مَعْنى هَذا المَذْهَبِ أنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى حَلَّ في ذاتِ عِيسى واتَّحَدَ بِذاتِ عِيسى، ثُمَّ حَكى تَعالى عَنِ المَسِيحِ أنَّهُ قالَ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى ما هو الحُجَّةُ القاطِعَةُ عَلى فَسادِ قَوْلِ النَّصارى؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَفْسِهِ وبَيْنَ غَيْرِهِ في أنَّ دَلائِلَ الحُدُوثِ ظاهِرَةٌ عَلَيْهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ. واحْتَجَّ أصْحابُنا عَلى أنَّ عِقابَ الفُسّاقِ لا يَكُونُ مُخَلَّدًا، قالُوا: وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ أعْظَمَ أنْواعِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ في حَقِّ المُشْرِكِينَ هو أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الجَنَّةَ، وجَعَلَ مَأْواهُمُ النّارَ، وأنَّهُ لَيْسَ لَهم ناصِرٌ يَنْصُرُهم ولا شافِعٌ يَشْفَعُ لَهم، فَلَوْ كانَ حالُ الفُسّاقِ مِنَ المُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لَما بَقِيَ لِتَهْدِيدِ المُشْرِكِينَ عَلى شِرْكِهِمْ بِهَذا الوَعِيدِ فائِدَةٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: ﴿ثَلاثَةٍ﴾ كُسِرَتْ بِالإضافَةِ، ولا يَجُوزُ نَصْبُها لِأنَّ مَعْناهُ: واحِدُ ثَلاثَةٍ، أمّا إذا قُلْتَ: رابِعُ ثَلاثَةٍ فَهَهُنا يَجُوزُ الجَرُّ والنَّصْبُ؛ لِأنَّ مَعْناهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلاثَةَ أرْبَعَةً بِكَوْنِهِ فِيهِمْ. (p-٥١)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّصارى: ﴿ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ طَرِيقانِ: الأوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ، وهو أنَّهم أرادُوا بِذَلِكَ أنَّ اللَّهَ ومَرْيَمَ وعِيسى آلِهَةٌ ثَلاثَةٌ، والَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى لِلْمَسِيحِ: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائِدَةِ: ١١٦]، فَقَوْلُهُ: ﴿ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ أيْ أحَدُ ثَلاثَةِ آلِهَةٍ، أوْ واحِدٌ مِن ثَلاثَةِ آلِهَةٍ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي الآيَةِ إضْمارٌ إلّا أنَّهُ حُذِفَ ذِكْرُ الآلِهَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِن مَذاهِبِهِمْ، قالَ الواحِدِيُّ: ولا يَكْفُرُ مَن يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ إذا لَمْ يُرِدْ بِهِ ثالِثَ ثَلاثَةِ آلِهَةٍ، فَإنَّهُ ما مِن شَيْئَيْنِ إلّا واللَّهُ ثالِثُهُما بِالعِلْمِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المُجادَلَةِ: ٧] . والطَّرِيقُ الثّانِي: أنَّ المُتَكَلِّمِينَ حَكَوْا عَنِ النَّصارى أنَّهم يَقُولُونَ: جَوْهَرٌ واحِدٌ، ثَلاثَةُ أقانِيمَ أبٌ، وابْنٌ، ورُوحُ القُدُسِ، وهَذِهِ الثَّلاثَةُ إلَهٌ واحِدٌ، كَما أنَّ الشَّمْسَ اسْمٌ يَتَناوَلُ القُرْصَ والشُّعاعَ والحَرارَةَ، وعَنُوا بِالأبِ الذّاتَ، وبِالِابْنِ الكَلِمَةَ، وبِالرُّوحِ الحَياةَ، وأثْبَتُوا الذّاتَ والكَلِمَةَ والحَياةَ، وقالُوا: إنَّ الكَلِمَةَ الَّتِي هي كَلامُ اللَّهِ اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسى اخْتِلاطَ الماءِ بِالخَمْرِ، واخْتِلاطَ الماءِ بِاللَّبَنِ، وزَعَمُوا أنَّ الأبَ إلَهٌ، والِابْنَ إلَهٌ، والرُّوحَ إلَهٌ، والكُلَّ إلَهٌ واحِدٌ. واعْلَمْ أنَّ هَذا مَعْلُومُ البُطْلانِ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، فَإنَّ الثَّلاثَةَ لا تَكُونُ واحِدًا، والواحِدَ لا يَكُونُ ثَلاثَةً، ولا يُرى في الدُّنْيا مَقالَةٌ أشَدُّ فَسادًا وأظْهَرُ بُطْلانًا مِن مَقالَةِ النَّصارى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ في (مِن) قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها صِلَةٌ زائِدَةٌ والتَّقْدِيرُ: وما إلَهٌ إلّا إلَهٌ واحِدٌ. والثّانِي: أنَّها تُفِيدُ مَعْنى الِاسْتِغْراقِ، والتَّقْدِيرُ: وما في الوُجُودِ مِن هَذِهِ الحَقِيقَةِ إلّا فَرْدٌ واحِدٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ أقامُوا عَلى هَذا الدِّينِ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِنهم تابُوا عَنِ النَّصْرانِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب