الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم ومِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكم بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذا التَّكْلِيفَ أرْدَفَهُ بِما يُوجِبُ عَلَيْهِمُ القَبُولَ والِانْقِيادَ، وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: كَثْرَةُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عَلى المُنْعَمِ عَلَيْهِ الِاشْتِغالَ بِخِدْمَةِ المُنْعِمِ والِانْقِيادَ لِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما قالَ: ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ ”نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكم“؛ لِأنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ التَّأمُّلَ في أعْدادِ نِعَمِ اللَّهِ، بَلِ المَقْصُودُ مِنهُ التَّأمُّلُ في جِنْسِ نِعَمِ اللَّهِ لِأنَّ هَذا الجِنْسَ جِنْسٌ لا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلى إعْطاءِ نِعْمَةِ الحَياةِ والصِّحَّةِ والعَقْلِ والهِدايَةِ والصَّوْنِ عَنِ الآفاتِ والإيصالِ إلى جَمِيعِ الخَيْراتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَجِنْسُ نِعْمَةِ اللَّهِ جِنْسٌ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ المُرادُ التَّأمُّلُ في هَذا النَّوْعِ مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتازٌ عَنْ نِعْمَةِ غَيْرِهِ، وذَلِكَ الِامْتِيازُ هو أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ النِّعْمَةَ مَتى كانْتَ عَلى هَذا الوَجْهِ كانَ وُجُوبُ الِاشْتِغالِ بِشُكْرِها أتَمَّ وأكْمَلَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ النِّسْيانِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ نِسْيانُها مَعَ أنَّها مُتَواتِرَةٌ مُتَوالِيَةٌ عَلَيْنا في جَمِيعِ السّاعاتِ والأوْقاتِ، إلّا أنَّ الجَوابَ عَنْهُ أنَّها لِكَثْرَتِها وتَعاقُبِها صارَتْ كالأمْرِ المُعْتادِ، فَصارَتْ غَلَبَةُ ظُهُورِها وكَثْرَتِها سَبَبًا لِوُقُوعِها في مَحَلِّ النِّسْيانِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ المُحَقِّقُونَ: إنَّهُ تَعالى إنَّما كانَ باطِنًا لِكَوْنِهِ ظاهِرًا، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِمْ: سُبْحانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ العُقُولِ بِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، واخْتَفى عَنْها بِكَمالِ نُورِهِ. السَّبَبُ الثّانِي: مِنَ الأسْبابِ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهم مُنْقادِينَ لِتَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى هو المِيثاقُ الَّذِي واثَقَهم بِهِ، والمُواثَقَةُ المُعاهَدَةُ الَّتِي قَدْ أُحْكِمَتْ بِالعَقْدِ عَلى نَفْسِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ مُشابِهَةٌ لِقَوْلِهِ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ ولِلْمُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذا المِيثاقِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ هو المَواثِيقُ الَّتِي (p-١٤٢)جَرَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَهم في أنْ يَكُونُوا عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ في المَحْبُوبِ والمَكْرُوهِ، مِثْلُ مُبايَعَتِهِ مَعَ الأنْصارِ في أوَّلِ الأمْرِ ومُبايَعَتِهِ عامَّةَ المُؤْمِنِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وغَيْرِهِما، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أضافَ المِيثاقَ الصّادِرَ عَنِ الرَّسُولِ إلى نَفْسِهِ كَما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ (الفَتْحِ: ١٠) وقالَ: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ (النِّساءِ: ٨٠) ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ ذَكَّرَهم أنَّهُمُ التَزَمُوا ذَلِكَ وقَبِلُوا تِلْكَ التَّكالِيفَ وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا، ثُمَّ حَذَّرَهم مِن نَقْضِ تِلْكَ العُهُودِ والمَواثِيقِ فَقالَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ يَعْنِي لا تَنْقُضُوا تِلْكَ العُهُودَ ولا تَعْزِمُوا بِقُلُوبِكم عَلى نَقْضِها، فَإنَّهُ إنْ خَطَرَ ذَلِكَ بِبالِكم فاللَّهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ وكَفى بِهِ مُجازِيًا. والثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هو المِيثاقُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ حِينَ قالُوا آمَنّا بِالتَّوْراةِ وبِكُلِّ ما فِيها، فَلَمّا كانَ مِن جُمْلَةِ ما في التَّوْراةِ البِشارَةُ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَزِمَهُمُ الإقْرارُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والثّالِثُ: قالَ مُجاهِدٌ والكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: هو المِيثاقُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ تَعالى مِنهم حِينَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم. فَإنْ قِيلَ: عَلى هَذا القَوْلِ إنَّ بَنِي آدَمَ لا يَذْكُرُونَ هَذا العَهْدَ والمِيثاقَ فَكَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِحِفْظِهِ ؟قُلْنا: لَمّا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ كانَ ذَلِكَ حاصِلًا حَصَلَ القَطْعُ بِحُصُولِهِ، وحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أنْ يَأْمُرَهم بِالوَفاءِ بِذَلِكَ العَهْدِ. الرّابِعُ: قالَ السُّدِّيُّ: المُرادُ بِالمِيثاقِ الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ والشَّرْعِيَّةُ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى عَلى التَّوْحِيدِ والشَّرائِعِ، وهو اخْتِيارُ أكْثَرِ المُتَكَلِّمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب