الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ ولَأدْخَلْناهم جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في ذَمِّهِمْ وفي تَهْجِينِ طَرِيقَتِهِمْ بَيَّنَ أنَّهم لَوْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَوَجَدُوا سَعاداتِ الآخِرَةِ والدُّنْيا، أمّا سَعاداتُ الآخِرَةِ فَهي مَحْصُورَةٌ في نَوْعَيْنِ: أحَدُهُما: رَفْعُ العِقابِ.
والثّانِي: إيصالُ الثَّوابِ، أمّا رَفْعُ العِقابِ فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿لَكَفَّرْنا عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ﴾ وأمّا إيصالُ الثَّوابِ فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿ولَأدْخَلْناهم جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: الإيمانُ وحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضاءِ تَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ وإعْطاءِ الحَسَناتِ، فَلِمَ ضَمَّ إلَيْهِ شَرْطَ التَّقْوى ؟ (p-٤٠)قُلْنا: المُرادُ كَوْنُهُ آتِيًا بِالإيمانِ لِغَرَضِ التَّقْوى والطّاعَةِ، لا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الأغْراضِ العاجِلَةِ مِثْلَ ما يَفْعَلُهُ المُنافِقُونَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهم لَوْ آمَنُوا لَفازُوا بِسَعاداتِ الآخِرَةِ، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أيْضًا أنَّهم لَوْ آمَنُوا لَفازُوا بِسَعاداتِ الدُّنْيا ووَجَدُوا طَيِّباتِها وخَيْراتِها، وفي إقامَةِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنْ يَعْمَلُوا بِما فِيها مِنَ الوَفاءِ بِعُهُودِ اللَّهِ فِيها، ومِنَ الإقْرارِ بِاشْتِمالِها في الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ .
وثانِيها: إقامَةُ التَّوْراةِ إقامَةُ أحْكامِها وحُدُودِها كَما يُقالُ: أقامَ الصَّلاةَ إذا قامَ بِحُقُوقِها، ولا يُقالُ لِمَن لَمْ يُوفِ بِشَرائِطِها: إنَّهُ أقامَها.
وثالِثُها: أقامُوها نُصْبَ أعْيُنِهِمْ لِئَلّا يَزِلُّوا في شَيْءٍ مِن حُدُودِها، وهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها حَسَنَةٌ لَكِنَّ الأوَّلَ أحْسَنُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ القُرْآنُ.
والثّانِي: أنَّهُ كُتُبُ سائِرِ الأنْبِياءِ: مِثْلُ كِتابِ شَعْياءَ ومِثْلُ كِتابِ حَيْقُوقَ، وكِتابِ دانْيالَ، فَإنَّ هَذِهِ الكُتُبَ مَمْلُوءَةٌ مِنَ البِشارَةِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّ اليَهُودَ لَمّا أصَرُّوا عَلى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ، وبَلَغُوا إلى حَيْثُ قالُوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فاللَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم لَوْ تَرَكُوا ذَلِكَ الكُفْرَ لانْقَلَبَ الأمْرُ وحَصَلَ الخِصْبُ والسَّعَةُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ المُبالَغَةُ في شَرْحِ السَّعَةِ والخِصْبِ لا أنَّ هُناكَ فَوْقًا وتَحْتًا، والمَعْنى لَأكَلُوا أكْلًا مُتَّصِلًا كَثِيرًا، وهو كَما تَقُولُ: فُلانٌ في الخَيْرِ مِن فَرْقِهِ إلى قَدَمِهِ، تُرِيدُ تَكاثُفَ الخَيْرِ وكَثْرَتَهُ عِنْدَهُ.
الثّانِي: أنَّ الأكْلَ مِن فَوْقُ نُزُولُ القَطْرِ، ومِن تَحْتِ الأرْجُلِ حُصُولُ النَّباتِ، كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [الأعْرافِ: ٩٦] .
الثّالِثُ: الأكْلُ مِن فَوْقُ كَثْرَةُ الأشْجارِ المُثْمِرَةِ، ومِن تَحْتِ الأرْجُلِ الزُّرُوعُ المُغَلَّةُ.
والرّابِعُ: المُرادُ أنْ يَرْزُقَهُمُ الجِنانَ اليانِعَةَ الثِّمارِ، فَيَجْتَنُونَ ما تَهَدَّلَ مِن رُءُوسِ الشَّجَرِ، ويَلْتَقِطُونَ ما تَساقَطَ عَلى الأرْضِ مِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ.
والخامِسُ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا إشارَةً إلى ما جَرى عَلى اليَهُودِ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ، وبَنِي النَّضِيرِ مِن قَطْعِ نَخِيلِهِمْ وإفْسادِ زُرُوعِهِمْ وإجْلائِهِمْ عَنْ أوْطانِهِمْ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مِنهم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ مَعْنى الِاقْتِصادِ في اللُّغَةِ الِاعْتِدالُ في العَمَلِ مِن غَيْرِ غُلُوٍّ ولا تَقْصِيرٍ، وأصْلُهُ القَصْدُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن عَرَفَ مَطْلُوبَهُ فَإنَّهُ يَكُونُ قاصِدًا لَهُ عَلى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ مِن غَيْرِ انْحِرافٍ ولا اضْطِرابٍ، أمّا مَن لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ مَقْصُودِهِ فَإنَّهُ يَكُونُ مُتَحَيِّرًا، تارَةً يَذْهَبُ يَمِينًا وأُخْرى يَسارًا، فَلِهَذا السَّبَبِ جُعِلَ الِاقْتِصادُ عِبارَةً عَنِ العَمَلِ المُؤَدِّي إلى الغَرَضِ، ثُمَّ في هَذِهِ الأُمَّةِ المُقْتَصِدَةِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ مِنها الَّذِينَ آمَنُوا مِن أهْلِ الكِتابِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ مِنَ اليَهُودِ، والنَّجاشِيِّ مِنَ النَّصارى، فَهم عَلى القَصْدِ مِن دِينِهِمْ، وعَلى المَنهَجِ المُسْتَقِيمِ مِنهُ، ولَمْ يَمِيلُوا إلى طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ.
والثّانِي: المُرادُ مِنها الكُفّارُ مِن أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ عُدُولًا في دِينِهِمْ، ولا يَكُونُ فِيهِمْ عِنادٌ (p-٤١)شَدِيدٌ ولا غِلْظَةٌ كامِلَةٌ، كَما قالَ: ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧٥] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَثِيرٌ مِنهم ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾ وفِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ كَأنَّهُ قِيلَ: وكَثِيرٌ مِنهم ما أسْوَأ عَمَلَهم، والمُرادُ: مِنهُمُ الأجْلافُ المَذْمُومُونَ المُبْغَضُونَ الَّذِينَ لا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ الدَّلِيلُ ولا يَنْجَعُ فِيهِمُ القَوْلُ.
{"ayah":"وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُوا۟ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةࣱ مُّقۡتَصِدَةࣱۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ سَاۤءَ مَا یَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











