الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ وعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكانًا وأضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: (مِن ذَلِكُ) إشارَةٌ إلى المُنْقِمِ، ولا بُدَّ مِن حَذْفِ المُضافِ، وتَقْدِيرُهُ: بِشَرٍّ مِن أهْلِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿مَن لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ ولا يُقالُ: المَلْعُونُ شَرٌّ مِن ذَلِكَ الدِّينِ، بَلْ يُقالُ: إنَّهُ شَرٌّ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ الدِّينُ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذا يَقْتَضِي كَوْنَ المَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ الدِّينِ مَحْكُومًا عَلَيْهِمْ بِالشَّرِّ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
قُلْنا: إنَّما خَرَجَ الكَلامُ عَلى حَسَبِ قَوْلِهِمْ واعْتِقادِهِمْ، فَإنَّهم حَكَمُوا بِأنَّ اعْتِقادَ ذَلِكَ الدِّينِ شَرٌّ، فَقِيلَ لَهم: هَبْ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ ولَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وغَضَبَهُ ومَسْخَ الصُّوَرِ شَرٌّ مِن ذَلِكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿مَثُوبَةً﴾ نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ، ووَزْنُها مَفُعْلَةٌ كَقَوْلِكَ: مَقُولَةٌ ومَجُوزَةٌ، وهو بِمَعْنى المَصْدَرِ، وقَدْ جاءَتْ مَصادِرُ عَلى مَفْعُولٍ كالمَعْقُولِ والمَيْسُورِ.
فَإنْ قِيلَ: المَثُوبَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالإحْسانِ، فَكَيْفَ جاءَتْ في الإساءَةِ ؟
قُلْنا: هَذا عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٢١] وقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: (مَن) في قَوْلِهِ: ﴿مَن لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ﴾ فَكَأنَّ قائِلًا قالَ: مَن ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ: هو مَن لَعَنَهُ اللَّهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أفَأُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكُمُ النّارُ﴾ [الحَجِّ: ٧٢] كَأنَّهُ قالَ: هو النّارُ.
الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِن (شَرٍّ) والمَعْنى أُنَبِّئُكم بِمَن لَعَنَهُ اللَّهُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مِن صِفاتِهِمْ أنْواعًا:
أوَّلُها: أنَّهُ تَعالى لَعَنَهم.
وثانِيها: أنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمْ.
وثالِثُها: أنَّهُ جَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ وعَبَدَ الطّاغُوتَ، قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ: عَنى بِالقِرَدَةِ أصْحابَ السَّبْتِ، وبِالخَنازِيرِ كُفّارَ مائِدَةِ عِيسى، ورُوِيَ أيْضًا أنَّ المَسْخَيْنِ كانا في أصْحابِ السَّبْتِ، لِأنَّ شُبّانَهم مُسِخُوا قِرَدَةً، ومَشايِخَهم مُسِخُوا خَنازِيرَ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ذَكَرَ صاحِبُ الكَشّافِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ أنْواعًا مِنَ القِراءاتِ:
أحَدُها: قَرَأ (p-٣٢)أُبَيٌّ: وعَبَدُوا الطّاغُوتَ.
وثانِيها: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ومَن عَبَدُوا.
وثالِثُها: وعابِدُ الطّاغُوتِ عَطْفًا عَلى القِرَدَةِ.
ورابِعُها: وعابِدِي.
وخامِسُها: وعَبّادُ.
وسادِسُها: وعَبْدَ.
وسابِعُها: وعَبَّدَ، بِوَزْنِ حَطَّمَ.
وثامِنُها: وعَبِيدُ.
وتاسِعُها: وعُبُدُ ”بِضَمَّتَيْنِ“ جَمْعُ عَبِيدٍ.
وعاشِرُها: وعَبَدَةُ بِوَزْنِ كَفَرَةٍ.
والحادِيَ عَشَرَ: وعَبَدُ، وأصْلُهُ عَبَدَةٌ، فَحُذِفَتِ التّاءُ لِلْإضافَةِ، أوْ هو كَخَدَمٍ في جَمْعِ خادِمٍ.
والثّانِيَ عَشَرَ: عَبَدَ.
والثّالِثَ عَشَرَ: عِبادُ.
والرّابِعَ عَشَرَ: وأعْبُدُ.
والخامِسَ عَشَرَ: وعُبِدَ الطّاغُوتُ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وحُذِفَ الرّاجِعُ، بِمَعْنى وعُبِدَ الطّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بَيْنَهم.
والسّادِسَ عَشَرَ: وعَبَدَ الطّاغُوتُ، بِمَعْنى صارَ الطّاغُوتُ مَعْبُودًا مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى، كَقَوْلِكَ: أمَرَ إذا صارَ أمِيرًا.
والسّابِعَ عَشَرَ: قَرَأ حَمْزَةُ: عَبُدَ الطّاغُوتِ بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّ الباءِ ونَصْبِ الدّالِ وجَرِّ الطّاغُوتِ، وعابُوا هَذِهِ القِراءَةَ عَلى حَمْزَةَ ولَحَّنُوهُ ونَسَبُوهُ إلى ما لا يَجُوزُ ذِكْرُهُ، وقالَ قَوْمٌ: إنَّها لَيْسَتْ بِلَحْنٍ ولا خَطَأٍ، وذَكَرُوا فِيها وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّ العَبْدَ هو العَبُدُ إلّا أنَّهم ضَمُّوا الباءَ لِلْمُبالَغَةِ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ لِلْبَلِيغِ في الحَذَرِ والفِطْنَةِ، فَتَأْوِيلُ عَبُدَ الطّاغُوتِ أنَّهُ بَلَغَ الغايَةَ في طاعَةِ الشَّيْطانِ، وهَذا أحْسَنُ الوُجُوهِ.
والثّانِي: أنَّ العَبْدَ، والعَبُدَ لُغَتانِ كَقَوْلِهِمْ: سَبْعٌ وسَبُعٌ.
والثّالِثُ: أنَّ العَبُدَ جَمْعُهُ عِبادٌ، والعِبادُ جَمْعُهُ عُبُدٌ كَثِمارٍ وثُمُرٍ، ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ مُتَوالِيَتَيْنِ فَأُبْدِلَتِ الأُولى بِالفَتْحَةِ.
الرّابِعُ: يُحْتَمَلُ أنَّهُ أرادَ أعْبُدُ الطّاغُوتَ، فَيَكُونُ مِثْلَ فَلَسَ وأفْلَسَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الهَمْزَةُ ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى العَيْنِ.
الخامِسُ: يُحْتَمَلُ أنَّهُ أرادَ: وعَبَدَةَ الطّاغُوتِ كَما قُرِئَ، ثُمَّ حَذَفَ الهاءَ وضَمَّ الباءَ لِئَلّا يُشْتَبَهُ بِالفِعْلِ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: تَأْوِيلُهُ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ ومَن عَبَدَ الطّاغُوتَ، فَعَلى هَذا: المَوْصُولُ مَحْذُوفٌ.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكُفْرَ بِقَضاءِ اللَّهِ، قالُوا: لِأنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ وجَعَلَ اللَّهُ مِنهم مَن عَبَدَ الطّاغُوتَ، وإنَّما يُعْقَلُ مَعْنى هَذا الجَعْلِ إذا كانَ هو الَّذِي جَعَلَ فِيهِمْ تِلْكَ العِبادَةَ، إذْ لَوْ كانَ جَعْلُ تِلْكَ العِبادَةِ مِنهم لَكانَ اللَّهُ تَعالى ما جَعَلَهم عَبَدَةَ الطّاغُوتِ، بَلْ كانُوا هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أنْفُسَهم كَذَلِكَ، وذَلِكَ عَلى خِلافِ الآيَةِ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ووَصَفَهم بِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٩] والكَلامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرارًا.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قِيلَ: الطّاغُوتُ العِجْلُ، وقِيلَ: الطّاغُوتُ الأحْبارُ، وكُلُّ مَن أطاعَ أحَدًا في مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَقَدْ عَبَدَهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكانًا﴾ أيْ أُولَئِكَ المَلْعُونُونَ المَمْسُوخُونَ شَرٌّ مَكانًا مِنَ المُؤْمِنِينَ، وفي لَفْظِ المَكانِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لِأنَّ مَكانَهم سَقَرُ، ولا مَكانَ أشَدُّ شَرًّا مِنهُ.
والثّانِي: أنَّهُ أُضِيفَ الشَّرُّ في اللَّفْظِ إلى المَكانِ وهو في الحَقِيقَةِ لِأهْلِهِ، وهو مِن بابِ الكِنايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ طَوِيلُ النِّجادِ كَثِيرُ الرَّمادِ، ويَرْجِعُ حاصِلُهُ إلى الإشارَةِ إلى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوازِمِهِ وتَوابِعِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وأضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ أيْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ والدِّينِ الحَقِّ، قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَيَّرَ المُسْلِمُونَ أهْلَ الكِتابِ وقالُوا: يا إخْوانَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رُؤُوسَهم.
{"ayah":"قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرࣲّ مِّن ذَ ٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق