قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾
وجْهُ النَّظْمِ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ عَنْ مُوالاةِ الكُفّارِ أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِمُوالاةِ مَن يَجِبُ مُوالاتُهُ وقالَ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيِ المُؤْمِنُونَ المَوْصُوفُونَ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ عامَّةُ المُؤْمِنِينَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ عُبادَةَ بْنَ الصّامِتِ لَمّا تَبَرَّأ مِنَ اليَهُودِ وقالَ: أنا بَرِيءٌ إلى اللَّهِ مِن حِلْفِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وأتَوَلّى اللَّهَ ورَسُولَهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى وفْقِ قَوْلِهِ.
ورُوِيَ أيْضًا «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمَنا قَدْ هَجَرُونا وأقْسَمُوا أنْ لا يُجالِسُونا، ولا نَسْتَطِيعُ مُجالَسَةَ أصْحابِكَ لِبُعْدِ المَنازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقالَ: (p-٢٣)رَضِينا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ أوْلِياءَ»، فَعَلى هَذا: الآيَةُ عامَّةٌ في حَقِّ كُلِّ المُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَن كانَ مُؤْمِنًا فَهو ولِيُّ كُلِّ المُؤْمِنِينَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [المائِدَةِ: ٥١] وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ صِفَةٌ لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ، والمُرادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفاتِ تَمْيِيزُ المُؤْمِنِينَ عَنِ المُنافِقِينَ؛ لِأنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ الإيمانَ، إلّا أنَّهم ما كانُوا مُداوِمِينَ عَلى الصَّلَواتِ والزَّكَواتِ، قالَ تَعالى في صِفَةِ صَلاتِهِمْ: ﴿ولا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إلّا وهم كُسالى﴾ [التَّوْبَةِ: ٥٤] وقالَ: ﴿يُراءُونَ النّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النِّساءِ: ١٤٢] وقالَ في صِفَةِ زَكاتِهِمْ ﴿أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ﴾ [الأحْزابِ: ١٩]، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وهم راكِعُونَ﴾ فَفِيهِ عَلى هَذا القَوْلِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ مِنَ الرُّكُوعِ الخُضُوعُ، يَعْنِي أنَّهم يُصَلُّونَ ويُزَكُّونَ وهم مُنْقادُونَ خاضِعُونَ لِجَمِيعِ أوامِرِ اللَّهِ ونَواهِيهِ
والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ: مِن شَأْنِهِمْ إقامَةُ الصَّلاةِ، وخُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٤٣]
والثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: إنَّ أصْحابَهُ كانُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مُخْتَلِفُونَ في هَذِهِ الصِّفاتِ، مِنهم مَن قَدْ أتَمَّ الصَّلاةَ، ومِنهم مَن دَفَعَ المالَ إلى الفَقِيرِ، ومِنهم مَن كانَ بَعْدُ في الصَّلاةِ وكانَ راكِعًا، فَلَمّا كانُوا مُخْتَلِفِينَ في هَذِهِ الصِّفاتِ لا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى كُلَّ هَذِهِ الصِّفاتِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وعَلى هَذا فَفِيهِ أقْوالٌ:
الأوَّلُ: رَوى عِكْرِمَةُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
والثّانِي: رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، رُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أنا رَأيْتُ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخاتَمِهِ عَلى مُحْتاجٍ وهو راكِعٌ، فَنَحْنُ نَتَوَلّاهُ، ورُوِيَ «عَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا صَلاةَ الظُّهْرِ، فَسَألَ سائِلٌ في المَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أحَدٌ، فَرَفَعَ السّائِلُ يَدَهُ إلى السَّماءِ وقالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أنِّي سَألْتُ في مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ فَما أعْطانِي أحَدٌ شَيْئًا، وعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ راكِعًا، فَأوْمَأ إلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ اليُمْنى وكانَ فِيها خاتَمٌ، فَأقْبَلَ السّائِلُ حَتّى أخَذَ الخاتَمَ بِمَرْأى النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنَّ أخِي مُوسى سَألَكَ، فَقالَ: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿وأشْرِكْهُ في أمْرِي﴾ [طه: ٣٢] فَأنْزَلْتَ قُرْآنًا ناطِقًا ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأخِيكَ ونَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا﴾ [القَصَصِ: ٣٥] اللَّهُمَّ وأنا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وصَفِيُّكَ فاشْرَحْ لِي صَدْرِي ويَسِّرْ لِي أمْرِي واجْعَلْ لِي وزِيرًا مِن أهْلِي عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ ظَهْرِي، قالَ أبُو ذَرٍّ: فَواللَّهِ ما أتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الكَلِمَةَ حَتّى نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ اقْرَأْ ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ إلى آخِرِها»، فَهَذا مَجْمُوعُ ما يَتَعَلَّقُ بِالرِّواياتِ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ الشِّيعَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الإمامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وتَقْرِيرُهُ أنْ نَقُولَ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ إمامٌ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الإمامُ هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ.
بَيانُ المَقامِ الأوَّلِ: أنَّ الوَلِيَّ في اللُّغَةِ قَدْ جاءَ بِمَعْنى النّاصِرِ والمُحِبِّ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [المائِدَةِ: ٥١] وجاءَ بِمَعْنى المُتَصَرِّفِ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أيُّما امْرَأةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ ولِيِّها» فَنَقُولُ: هَهُنا وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ الوَلِيُّ جاءَ بِهَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ ولَمْ يُعَيِّنِ اللَّهُ مُرادَهُ، ولا مُنافاةَ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِما، فَوَجَبَ دَلالَةُ الآيَةِ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ المَذْكُورِينَ في (p-٢٤)الآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ في الأُمَّةِ.
الثّانِي: أنْ نَقُولَ: الوَلِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى النّاصِرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المُتَصَرِّفِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى النّاصِرِ؛ لِأنَّ الوَلايَةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ غَيْرُ عامَّةٍ في كُلِّ المُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بِكَلِمَةِ ”إنَّما“ وكَلِمَةُ ”إنَّما“ لِلْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النِّساءِ: ١٧١] والوَلايَةُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَتْ بِمَعْنى النُّصْرَةِ، وإذا لَمْ تَكُنْ بِمَعْنى النُّصْرَةِ كانَتْ بِمَعْنى التَّصَرُّفِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعْنًى سِوى هَذَيْنِ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: إنَّما المُتَصَرِّفُ فِيكم أيُّها المُؤْمِنُونَ هو اللَّهُ ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ المَوْصُوفُونَ بِالصِّفَةِ الفُلانِيَّةِ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ المُؤْمِنِينَ المَوْصُوفِينَ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ في جَمِيعِ الأُمَّةِ، ولا مَعْنى لِلْإمامِ إلّا الإنْسانُ الَّذِي يَكُونُ مُتَصَرِّفًا في كُلِّ الأُمَّةِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الشَّخْصَ المَذْكُورَ فِيها يَجِبُ أنْ يَكُونَ إمامَ الأُمَّةِ.
أمّا بَيانُ المَقامُ الثّانِي: وهو أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ ما ذَكَرْنا وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الإنْسانُ هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ مَن أثْبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ إمامَةَ شَخْصٍ قالَ: إنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هو عَلِيٌّ، وقَدْ ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى إمامَةِ شَخْصٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ هو عَلِيٌّ، ضَرُورَةَ أنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
الثّانِي: تَظاهَرَتِ الرِّواياتُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في حَقِّ عَلِيٍّ، ولا يُمْكِنُ المَصِيرُ إلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّها نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأنَّها لَوْ نَزَلَتْ في حَقِّهِ لَدَلَّتْ عَلى إمامَتِهِ، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى إمامَتِهِ، فَبَطَلَ هَذا القَوْلُ.
والثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ ﴿وهم راكِعُونَ﴾ لا يَجُوزُ جَعْلُهُ عَطْفًا عَلى ما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ، والصَّلاةُ مُشْتَمِلَةُ عَلى الرُّكُوعِ، فَكانَتْ إعادَةُ ذِكْرِ الرُّكُوعِ تَكْرارًا، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حالًا أيْ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ حالَ كَوْنِهِمْ راكِعِينَ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ إيتاءَ الزَّكاةِ حالَ الرُّكُوعِ لَمْ يَكُنْ إلّا في حَقِّ عَلِيٍّ، فَكانَتِ الآيَةُ مَخْصُوصَةً بِهِ ودالَّةً عَلى إمامَتِهِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْناهُ، وهَذا حاصِلُ اسْتِدْلالِ القَوْمِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ.
والجَوابُ: أمّا حَمْلُ لَفْظِ الوَلِيِّ عَلى النّاصِرِ وعَلى المُتَصَرِّفِ مَعًا فَغَيْرُ جائِزٍ، لِما ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ عَلى مَفْهُومَيْهِ مَعًا.
أمّا الوَجْهُ الثّانِي: فَنَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن لَفْظِ الوَلِيِّ في هَذِهِ الآيَةِ النّاصِرَ والمُحِبَّ، ونَحْنُ نُقِيمُ الدَّلالَةَ عَلى أنَّ حَمْلَ لَفْظِ الوَلِيِّ عَلى هَذا المَعْنى أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى مَعْنى المُتَصَرِّفِ، ثُمَّ نُجِيبُ عَمّا قالُوهُ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ حَمْلَهُ عَلى النّاصِرِ أوْلى وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ اللّائِقَ بِما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وبِما بَعْدَها لَيْسَ إلّا هَذا المَعْنى، أمّا ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ فَلِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ﴾ ولَيْسَ المُرادُ لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أئِمَّةً مُتَصَرِّفِينَ في أرْواحِكم وأمْوالِكم؛ لِأنَّ بُطْلانَ هَذا كالمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، بَلِ المُرادُ لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أحْبابًا وأنْصارًا، ولا تُخالِطُوهم ولا تُعاضِدُوهم، ثُمَّ لَمّا بالَغَ في النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قالَ: (إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ) المَوْصُوفُونَ، والظّاهِرُ أنَّ الوَلايَةَ المَأْمُورَ بِها هَهُنا هي المَنهِيُّ عَنْها فِيما قَبْلُ، ولَمّا كانَتِ الوَلايَةُ المَنهِيُّ عَنْها فِيما قَبْلُ هي الوَلايَةَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ كانَتِ الوَلايَةُ المَأْمُورُ بِها هي الوَلايَةَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ، وأمّا ما بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَهي قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكم هُزُوًا ولَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم والكُفّارَ أوْلِياءَ واتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائِدَةِ: ٥٧] (p-٢٥)فَأعادَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخاذِ اليَهُودِ والنَّصارى والكُفّارِ أوْلِياءَ، ولا شَكَّ أنَّ الوَلايَةَ المَنهِيَّ عَنْها هي الوَلايَةُ بِمَعْنى النُّصْرَةِ، فَكَذَلِكَ الوَلايَةُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ يَجِبُ أنْ تَكُونَ هي بِمَعْنى النُّصْرَةِ، وكُلُّ مَن أنْصَفَ وتَرَكَ التَّعَصُّبَ وتَأمَّلَ في مُقَدِّمَةِ الآيَةِ وفي مُؤَخَّرِها قَطَعَ بِأنَّ الوَلِيَّ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ لَيْسَ إلّا بِمَعْنى النّاصِرِ والمُحِبِّ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الإمامِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إلْقاءَ كَلامٍ أجْنَبِيٍّ فِيما بَيْنَ كَلامَيْنِ مَسُوقَيْنِ لِغَرَضٍ واحِدٍ، وذَلِكَ يَكُونُ في غايَةِ الرَّكاكَةِ والسُّقُوطِ، ويَجِبُ تَنْزِيهُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنّا لَوْ حَمَلْنا الوَلايَةَ عَلى التَّصَرُّفِ والإمامَةِ لَما كانَ المُؤْمِنُونَ المَذْكُورُونَ في الآيَةِ مَوْصُوفِينَ بِالوَلايَةِ حالَ نُزُولِ الآيَةِ؛ لِأنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ ما كانَ نافِذَ التَّصَرُّفِ حالَ حَياةِ الرَّسُولِ، والآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ مَوْصُوفِينَ بِالوَلايَةِ في الحالِ، أمّا لَوْ حَمَلْنا الوَلايَةَ عَلى المَحَبَّةِ والنُّصْرَةِ كانَتِ الوَلايَةُ حاصِلَةً في الحالِ، فَثَبَتَ أنَّ حَمْلَ الوَلايَةِ عَلى المَحَبَّةِ أوْلى مِن حَمْلِها عَلى التَّصَرُّفِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ ما قُلْناهُ أنَّهُ تَعالى مَنَعَ المُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّخاذِاليَهُودِ والنَّصارى أوْلِياءَ، ثُمَّ أمَرَهم بِمُوالاةِ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ، فَلا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مُوالاةُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ حاصِلَةً في الحالِ حَتّى يَكُونَ النَّفْيُ والإثْباتُ مُتَوارِدَيْنِ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، ولَمّا كانَتِ الوَلايَةُ بِمَعْنى التَّصَرُّفِ غَيْرَ حاصِلَةٍ في الحالِ امْتَنَعَ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْها.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ المُؤْمِنِينَ المَوْصُوفِينَ في هَذِهِ الآيَةِ بِصِيغَةِ الجَمْعِ في سَبْعَةِ مَواضِعَ وهي قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ وحَمْلُ ألْفاظِ الجَمْعِ وإنْ جازَ عَلى الواحِدِ عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَكِنَّهُ مَجازٌ لا حَقِيقَةٌ، والأصْلَ حَمْلُ الكَلامِ عَلى الحَقِيقَةِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنّا قَدْ بَيَّنّا بِالبُرْهانِ البَيِّنِ أنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ وهي قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى صِحَّةِ إمامَةِ أبِي بَكْرٍ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى صِحَّةِ إمامَةِ عَلِيٍّ بَعْدَ الرَّسُولِ لَزِمَ التَّناقُضُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وذَلِكَ باطِلٌ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا دَلالَةَ فِيها عَلى أنَّ عَلِيًّا هو الإمامُ بَعْدَ الرَّسُولِ.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ كانَ أعْرَفَ بِتَفْسِيرِ القُرْآنِ مِن هَؤُلاءِ الرَّوافِضِ، فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى إمامَتِهِ لاحْتُجَّ بِها في مَحْفِلٍ مِنَ المَحافِلِ، ولَيْسَ لِلْقَوْمِ أنْ يَقُولُوا: إنَّهُ تَرَكَهُ لِلتَّقِيَّةِ؛ لِأنَّهم يَنْقُلُونَ عَنْهُ أنَّهُ تَمَسَّكَ يَوْمَ الشُّورى بِخَبَرِ الغَدِيرِ، وخَبَرِ المُباهَلَةِ، وجَمِيعِ فَضائِلِهِ ومَناقِبِهِ، ولَمْ يَتَمَسَّكْ ألْبَتَّةَ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ إمامَتِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ القَطْعَ بِسُقُوطِ قَوْلِ هَؤُلاءِ الرَّوافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: هَبْ أنَّها دالَّةٌ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ، لَكُنّا تَوافَقْنا عَلى أنَّها عِنْدَ نُزُولِها ما دَلَّتْ عَلى حُصُولِ الإمامَةِ في الحالِ؛ لِأنَّ عَلِيًّا ما كانَ نافِذَ التَّصَرُّفِ في الأُمَّةِ حالَ حَياةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ تُحْمَلَ الآيَةُ عَلى أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ عَلِيًّا سَيَصِيرُ إمامًا بَعْدَ ذَلِكَ، ومَتى قالُوا ذَلِكَ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ ونَحْمِلُهُ عَلى إمامَتِهِ بَعْدَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ، إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ الوَقْتِ، فَإنْ قالُوا: الأُمَّةُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: مِنهم مَن قالَ: إنَّها لا تَدُلُّ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّها تَدُلُّ عَلى إمامَتِهِ، وكُلُّ مَن قالَ بِذَلِكَ قالَ: إنَّها تَدُلُّ عَلى إمامَتِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ، فالقَوْلُ بِدَلالَةِ الآيَةِ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ (p-٢٦)لا عَلى هَذا الوَجْهِ قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو باطِلٌ؛ لِأنّا نُجِيبُ عَنْهُ فَنَقُولُ: ومَنِ الَّذِي أخْبَرَكم أنَّهُ ما كانَ أحَدٌ في الأُمَّةِ قالَ هَذا القَوْلَ، فَإنَّ مِنَ المُحْتَمَلِ، بَلْ مِنَ الظّاهِرِ أنَّهُ مُنْذُ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ، فَإنَّ السّائِلَ يُورِدُ عَلى ذَلِكَ الِاسْتِدْلالِ هَذا السُّؤالَ، فَكانَ ذِكْرُ هَذا الِاحْتِمالِ وهَذا السُّؤالِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ هَذا الِاسْتِدْلالِ.
الحُجَّةُ السّابِعَةُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ لا شَكَّ أنَّهُ خِطابٌ مَعَ الأُمَّةِ، وهم كانُوا قاطِعِينَ بِأنَّ المُتَصَرِّفَ فِيهِمْ هو اللَّهُ ورَسُولُهُ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذا الكَلامَ تَطْيِيبًا لِقَوْلِ المُؤْمِنِينَ وتَعْرِيفًا لَهم بِأنَّهُ لا حاجَةَ بِهِمْ إلى اتِّخاذِ الأحْبابِ والأنْصارِ مِنَ الكُفّارِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن كانَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ناصِرًا لَهُ ومُعِينًا لَهُ فَأيُّ حاجَةٍ بِهِ إلى طَلَبِ النُّصْرَةِ والمَحَبَّةِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ هو الوَلايَةُ بِمَعْنى النُّصْرَةِ والمَحَبَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ لَفْظَ الوَلِيِّ مَذْكُورٌ مَرَّةً واحِدَةً، فَلَمّا أُرِيدَ بِهِ هَهُنا مَعْنى النُّصْرَةِ امْتَنَعَ أنْ يُرادَ بِهِ مَعْنى التَّصَرُّفِ لِما ثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ في مَفْهُومَيْهِ مَعًا.
الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: أنَّهُ تَعالى مَدَحَ المُؤْمِنِينَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ فَإذا حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ عَلى مَعْنى المَحَبَّةِ والنُّصْرَةِ كانَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ يُفِيدُ فائِدَةَ قَوْلِهِ: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يُفِيدُ فائِدَةَ قَوْلِهِ: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُطابِقَةً لِما قَبْلَها مُؤَكِّدَةً لِمَعْناها فَكانَ ذَلِكَ أوْلى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ الوَلايَةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ يَجِبُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ لا بِمَعْنى التَّصَرُّفِ.
أمّا الوَجْهُ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ وهو أنَّ الوَلايَةَ المَذْكُورَةَ في الآيَةِ غَيْرُ عامَّةٍ، والوَلايَةَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ عامَّةٌ، فَجَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الوَلايَةَ المَذْكُورَةَ في الآيَةِ غَيْرُ عامَّةٍ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ كَلِمَةَ (إنَّما) لِلْحَصْرِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ﴾ [يُونُسَ: ٢٤] ولا شَكَّ أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا لَها أمْثالٌ أُخْرى سِوى هَذا المَثَلِ، وقالَ: ﴿إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٣٦] ولا شَكَّ أنَّ اللَّعِبَ واللَّهْوَ قَدْ يَحْصُلُ في غَيْرِها.
الثّانِي: لا نُسَلِّمُ أنَّ الوَلايَةَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ عامَّةٌ في كُلِّ المُؤْمِنِينَ، وبَيانُهُ أنَّهُ تَعالى قَسَمَ المُؤْمِنِينَ قِسْمَيْنِ:
أحَدُهُما: الَّذِينَ جَعَلَهم مُوَلِّيًا عَلَيْهِمْ وهُمُ المُخاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ .
والثّانِي: الأوْلِياءُ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ، فَإذا فَسَّرْنا الوَلايَةَ هَهُنا بِمَعْنى النُّصْرَةِ كانَ المَعْنى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ أحَدَ القِسْمَيْنِ أنْصارًا لِلْقِسْمِ الثّانِي، ونُصْرَةُ القِسْمِ الثّانِي غَيْرُ حاصِلَةٍ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَزِمَ في القِسْمِ الَّذِي هُمُ المَنصُورُونَ أنْ يَكُونُوا ناصِرِينَ لِأنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ نُصْرَةَ أحَدِ قِسْمَيِ الأُمَّةِ غَيْرُ ثابِتَةٍ لِكُلِّ الأُمَّةِ، بَلْ مَخْصُوصَةٌ بِالقِسْمِ الثّانِي مِنَ الأُمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِ الوَلايَةِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ خاصَّةً أنْ لا تَكُونَ بِمَعْنى النُّصْرَةِ، وهَذا جَوابٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لا بُدَّ مِنَ التَّأمُّلِ فِيهِ.
وأمّا اسْتِدْلالُهم بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في حَقِّ عَلِيٍّ فَهو مَمْنُوعٌ، فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ أكْثَرَ المُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أنَّهُ في (p-٢٧)حَقِّ الأُمَّةِ، والمُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُسْلِمَ أنْ لا يَتَّخِذَ الحَبِيبَ والنّاصِرَ إلّا مِنَ المُسْلِمِينَ، ومِنهم مَن يَقُولُ: إنَّها نَزَلَتْ في حَقِّ أبِي بَكْرٍ.
وأمّا اسْتِدْلالُهم بِأنَّ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَن أدّى الزَّكاةَ في الرُّكُوعِ، وذَلِكَ هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، فَنَقُولُ: هَذا أيْضًا ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الزَّكاةَ اسْمٌ لِلْواجِبِ لا لِلْمَندُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: (وآتُوا الزَّكاةَ) فَلَوْ أنَّهُ أدّى الزَّكاةَ الواجِبَةَ في حالِ كَوْنِهِ في الرُّكُوعِ لَكانَ قَدْ أخَّرَ أداءَ الزَّكاةِ الواجِبَ عَنْ أوَّلِ أوْقاتِ الوُجُوبِ، وذَلِكَ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ مَعْصِيَةٌ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ إسْنادُهُ إلى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وحَمْلُ الزَّكاةِ عَلى الصَّدَقَةِ النّافِلَةِ خِلافُ الأصْلِ لِما بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: (وآتُوا الزَّكاةَ) ظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ ما كانَ زَكاةً فَهو واجِبٌ.
الثّانِي: هو أنَّ اللّائِقَ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقَ القَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ حالَ ما يَكُونُ في الصَّلاةِ، والظّاهِرُ أنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَتَفَرَّغُ لِاسْتِماعِ كَلامِ الغَيْرِ ولِفَهْمِهِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٩١] ومَن كانَ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا في الفِكْرِ كَيْفَ يَتَفَرَّغُ لِاسْتِماعِ كَلامِ الغَيْرِ ؟ .
الثّالِثُ: أنَّ دَفْعَ الخاتَمِ في الصَّلاةِ لِلْفَقِيرِ عَمَلٌ كَثِيرٌ واللّائِقُ بِحالِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ لا يَفْعَلَ ذَلِكَ.
الرّابِعُ: المَشْهُورُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ فَقِيرًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ تَجِبُ الزَّكاةُ فِيهِ؛ ولِذَلِكَ فَإنَّهم يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمّا أعْطى ثَلاثَةَ أقْراصٍ نَزَلَ فِيهِ سُورَةُ (هَلْ أتى) وذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا إذا كانَ فَقِيرًا، فَأمّا مَن كانَ لَهُ مالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ يَمْتَنِعُ أنْ يَسْتَحِقَّ المَدْحَ العَظِيمَ المَذْكُورَ في تِلْكَ السُّورَةِ عَلى إعْطاءِ ثَلاثَةِ أقْراصٍ، وإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ عَلَيْهِ.
الوَجْهُ الخامِسُ: هَبْ أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، لَكِنَّهُ لا يَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ إلّا إذا تَمَّ أنَّ المُرادَ بِالوَلِيِّ هو المُتَصَرِّفُ لا النّاصِرُ والمُحِبُّ، وقَدْ سَبَقَ الكَلامُ فِيهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ هو أنَّهم يُؤْتُونَ الزَّكاةَ حالَ كَوْنِهِمْ راكِعِينَ، احْتَجُّوا بِالآيَةِ عَلى أنَّ العَمَلَ القَلِيلَ لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ، فَإنَّهُ دَفَعَ الزَّكاةَ إلى السّائِلِ وهو في الصَّلاةِ، ولا شَكَّ أنَّهُ نَوى إيتاءَ الزَّكاةِ وهو في الصَّلاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأعْمالَ لا تَقْطَعُ الصَّلاةَ، وبَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: المَذْكُورُ في الآيَةِ هو اللَّهُ تَعالى ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: إنَّما أوْلِياؤُكم ؟
والجَوابُ: أصْلُ الكَلامِ إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ، فَجُعِلَتِ الوَلايَةُ لِلَّهِ عَلى طَرِيقِ الأصالَةِ، ثُمَّ نُظِمَ في سَلْكِ إثْباتِها لَهُ إثْباتُها لِرَسُولِ اللَّهِ والمُؤْمِنِينَ عَلى سَبِيلِ التَّبَعِ، ولَوْ قِيلَ: إنَّما أوْلِياؤُكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا لَمْ يَكُنْ في الكَلامِ أصْلٌ وتَبَعٌ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّما مَوْلاكُمُ اللَّهُ.
السُّؤالُ الثّانِي: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ﴾ ما مَحَلُّهُ
الجَوابُ: الرَّفْعُ عَلى البَدَلِ مِنَ (الَّذِينَ آمَنُوا) أوْ يُقالُ: التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ، أوِ النَّصْبُ عَلى المَدْحِ، والغَرَضُ مِن ذِكْرِهِ تَمْيِيزُ المُؤْمِنِ المُخْلِصِ عَمَّنْ يَدَّعِي الإيمانَ ويَكُونُ مُنافِقًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ الإخْلاصَ إنَّما يُعْرَفُ بِكَوْنِهِ مُواظِبًا عَلى الصَّلاةِ في حالِ الرُّكُوعِ، أيْ في حالِ الخُضُوعِ والخُشُوعِ والإخْباتِ لِلَّهِ تَعالى.
{"ayah":"إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَ ٰكِعُونَ"}