الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعَيْنَ بِالعَيْنِ والأنْفَ بِالأنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ .
والمَعْنى أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أيْضًا أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في التَّوْراةِ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وهَؤُلاءِ اليَهُودُ غَيَّرُوا هَذا الحُكْمَ أيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلى بَنِي قُرَيْظَةَ، وخَصَّصُوا إيجابَ القَوْدِ بِبَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ، فَهَذا هو وجْهُ النَّظْمِ مِنَ الآيَةِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ الكِسائِيُّ: ”العَيْنُ والأنْفُ والأُذُنُ والسِّنُّ والجُرُوحُ“ كُلَّها بِالرَّفْعِ، وفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: العَطْفُ عَلى مَحَلِّ (أنَّ النَّفْسَ) لِأنَّ المَعْنى: وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها النَّفْسُ بِالنَّفْسِ؛ لِأنَّ مَعْنى كَتَبْنا قُلْنا.
وثانِيها: أنَّ الكِتابَةَ تَقَعُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمَلِ تَقُولُ: كَتَبْتُ (الحَمْدُ لِلَّهِ) وقَرَأْتُ (سُورَةٌ أنْزَلْناها) .
وثالِثُها: أنَّها تَرْتَفِعُ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وتَقْدِيرُهُ: أنَّ النَّفْسَ مَقْتُولَةٌ بِالنَّفْسِ والعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالعَيْنِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئُونَ والنَّصارى﴾ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ الكُلِّ سِوى (الجُرُوحِ) فَإنَّهُ بِالرَّفْعِ، فالعَيْنُ والأنْفُ والأُذُنُ نُصِبَ عَطْفًا عَلى النَّفْسِ، ثُمَّ (الجُرُوحُ) مُبْتَدَأٌ، و(قِصاصٌ) خَبَرُهُ، وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ كُلَّها بِالنَّصْبِ عَطْفًا لِبَعْضِ ذَلِكَ عَلى بَعْضٍ، وخَبَرُ الجَمِيعِ قِصاصٌ، وقَرَأ نافِعٌ (الأُذْنُ) بِسُكُونِ الذّالِ حَيْثُ وقَعَ، والباقُونَ بِالضَّمِّ مُثْقَلَةٌ، وهُما لُغَتانِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ وفَرَضْنا عَلَيْهِمْ في التَّوْراةِ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، يُرِيدُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ قَوْدٍ قِيدَ مِنهُ، ولَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ دِيَةً في نَفْسٍ ولا جُرْحٍ، إنَّما هو العَفْوُ أوِ القِصاصُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانُوا لا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالمَرْأةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأمّا الأطْرافُ فَكُلُّ شَخْصَيْنِ جَرى القِصاصُ بَيْنَهُما في النَّفْسِ جَرى القِصاصُ بَيْنَهُما في جَمِيعِ الأطْرافِ إذا تَماثَلا في السَّلامَةِ، وإذا امْتَنَعَ القِصاصُ في النَّفْسِ امْتَنَعَ أيْضًا في الأطْرافِ، ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى بَعْضَ الأعْضاءِ عَمَّمَ الحُكْمَ في كُلِّها فَقالَ ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ وهو كُلُّ ما يُمْكِنُ أنْ يُقْتَصَّ مِنهُ، مِثْلُ الشَّفَتَيْنِ والذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ والأنْفِ والقَدَمَيْنِ واليَدَيْنِ وغَيْرِها، فَأمّا ما لا يُمْكِنُ القِصاصُ فِيهِ مِن رَضٍّ في لَحْمٍ، أوْ كَسْرٍ في عَظْمٍ، أوْ جِراحَةٍ في بَطْنٍ يُخافُ مِنهُ التَّلَفُ فَفِيهِ أرْشٌ وحُكُومَةٌ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ هَذا كانَ شَرْعًا في التَّوْراةِ، فَمَن قالَ: شَرْعُ مَن قَبْلَنا يَلْزَمُنا إلّا ما نُسِخَ بِالتَّفْصِيلِ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ في شَرْعِنا، ومَن أنْكَرَ ذَلِكَ قالَ: إنَّها لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنا.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ”القِصاصُ“ هَهُنا مَصْدَرٌ يُرادُ بِهِ المَفْعُولُ، أيْ والجُرُوحُ مُتَقاصَّةٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ.
* * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (لَهُ) يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى العافِي أوْ إلى المَعْفُوِّ عَنْهُ، أمّا الأوَّلُ فالتَّقْدِيرُ أنَّ المَجْرُوحَ أوْ ولِيَّ المَقْتُولِ إذا عَفا كانَ ذَلِكَ كَفّارَةً لَهُ، أيْ لِلْعافِي ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ القِصاصِ ٣ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ ويَقْرُبُ مِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «أيَعْجِزُ أحَدُكم أنْ يَكُونَ كَأبِي ضَمْضَمٍ ؟ كانَ إذا خَرَجَ مِن بَيْتِهِ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلى النّاسِ»، ورَوى عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن تَصَدَّقَ مِن جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِن ذُنُوبِهِ» وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ ﴿فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ﴾ عائِدٌ إلى القاتِلِ والجارِحِ، يَعْنِي أنَّ المَجْنِيَّ عَلَيْهِ إذا عَفا عَنِ الجانِي صارَ ذَلِكَ العَفْوُ كَفّارَةً لِلْجانِي، يَعْنِي لا يُؤاخِذُهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ العَفْوِ، وأمّا المَجْنِيُّ عَلَيْهِ الَّذِي عَفا فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ وفِيهِ سُؤالٌ، وهو أنَّهُ تَعالى قالَ أوَّلًا: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾، وثانِيًا: ﴿هُمُ الظّالِمُونَ﴾ والكُفْرُ أعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمّا ذَكَرَ أعْظَمَ التَّهْدِيداتِ أوَّلًا، فَأيُّ فائِدَةٍ في ذِكْرِ الأخَفِّ بَعْدَهُ ؟
وجَوابُهُ: أنَّ الكُفْرَ مِن حَيْثُ إنَّهُ إنْكارٌ لِنِعْمَةِ المَوْلى وجُحُودٌ لَها فَهو كُفْرٌ، ومِن حَيْثُ إنَّهُ يَقْتَضِي إبْقاءَ النَّفْسِ في العِقابِ الدّائِمِ الشَّدِيدِ فَهو ظُلْمٌ عَلى النَّفْسِ، فَفي الآيَةِ الأُولى ذَكَرَ اللَّهُ ما يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ في حَقِّ الخالِقِ سُبْحانَهُ، وفي هَذِهِ الآيَةِ ذَكَرَ ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّقْصِيرِ في حَقِّ نَفْسِهِ.
{"ayah":"وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصࣱۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةࣱ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق