الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في النَّظْمِ وجْهانِ: الأوَّلُ: اعْلَمْ أنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ رَسُولَهُ أنَّ قَوْمًا مِنَ اليَهُودِ هَمُّوا أنْ يَبْسُطُوا أيْدِيَهم إلى الرَّسُولِ وإلى إخْوانِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وأصْحابِهِ بِالغَدْرِ والمَكْرِ ومَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَنْ مُرادِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ لِلرَّسُولِ شِدَّةَ عِتِيِّهِمْ عَلى الأنْبِياءِ وكَمالَ إصْرارِهِمْ عَلى إيذائِهِمْ، وامْتَدَّ الكَلامُ إلى هَذا المَوْضِعِ، فَعِنْدَ هَذا رَجَعَ الكَلامُ إلى المَقْصُودِ الأوَّلِ وقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: قَدْ عَرَفْتُمْ كَمالَ جَسارَةِ اليَهُودِ عَلى المَعاصِي والذُّنُوبِ وبُعْدِهِمْ عَنِ الطّاعاتِ الَّتِي هي الوَسائِلُ لِلْعَبْدِ إلى الرَّبِّ، فَكُونُوا يا أيُّها المُؤْمِنُونَ بِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ، وكُونُوا مُتَّقِينَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ، مُتَوَسِّلِينَ إلى اللَّهِ بِطاعاتِ اللَّهِ. الوَجْهُ الثّانِي في النَّظْمِ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ (المائِدَةِ: ١٨) أيْ نَحْنُ أبْناءُ أنْبِياءِ اللَّهِ، فَكانَ افْتِخارُهم بِأعْمالِ آبائِهِمْ، فَقالَ تَعالى: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ مُفاخَرَتُكم بِأعْمالِكم لا بِشَرَفِ آبائِكم وأسْلافِكم، فاتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ، واللَّهُ أعْلَمُ. (p-١٧٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ مَجامِعَ التَّكْلِيفِ مَحْصُورَةٌ في نَوْعَيْنِ لا ثالِثَ لَهُما: أحَدُهُما: تَرْكُ المَنهِيّاتِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (اتَّقَوُا اللَّهَ) . وثانِيهِما: فِعْلُ المَأْمُوراتِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ ولَمّا كانَ تَرْكُ المَنهِيّاتِ مُقَدَّمًا عَلى فِعْلِ المَأْمُوراتِ بِالذّاتِ لا جَرَمَ قَدَّمَهُ تَعالى عَلَيْهِ في الذِّكْرِ. وإنَّما قُلْنا: إنَّ التَّرْكَ مُقَدَّمٌ عَلى الفِعْلِ؛ لِأنَّ التَّرْكَ عِبارَةٌ عَنْ بَقاءِ الشَّيْءِ عَلى عَدَمِهِ الأصْلِيِّ، والفِعْلُ هو الإيقاعُ والتَّحْصِيلُ، ولا شَكَّ أنَّ عَدَمَ جَمِيعِ المُحْدَثاتِ سابِقٌ عَلى وُجُودِها؛ فَكانَ التَّرْكُ قَبْلَ الفِعْلِ لا مَحالَةَ. فَإنْ قِيلَ: ولِمَ جُعِلَتِ الوَسِيلَةُ مَخْصُوصَةً بِالفِعْلِ مَعَ أنّا نَعْلَمُ أنَّ تَرْكَ المَعاصِي قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى ؟ قُلْنا: التَّرْكُ إبْقاءُ الشَّيْءِ عَلى عَدَمِهِ الأصْلِيِّ، وذَلِكَ العَدَمُ المُسْتَمِرُّ لا يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إلى شَيْءٍ البَتَّةَ فَثَبَتَ أنَّ التَّرْكَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ وسِيلَةً، بَلْ مَن دَعاهُ داعِي الشَّهْوَةِ إلى فِعْلٍ قَبِيحٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِطَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، فَهَهُنا يَحْصُلُ التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ الِامْتِناعِ إلى اللَّهِ تَعالى، إلّا أنَّ ذَلِكَ الِامْتِناعَ مِن بابِ الأفْعالِ، ولِهَذا قالَ المُحَقِّقُونَ: تَرْكُ الشَّيْءِ عِبارَةٌ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ التَّرْكَ والفِعْلَ أمْرانِ مُعْتَبَرانِ في ظاهِرِ الأفْعالِ، فالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هو المُحَرَّماتُ، والَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هو الواجِباتُ، ومُعْتَبَرانِ أيْضًا في الأخْلاقِ، فالَّذِي يَجِبُ حُصُولُهُ هو الأخْلاقُ الفاضِلَةُ، والَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هو الأخْلاقُ الذَّمِيمَةُ، ومُعْتَبَرانِ أيْضًا في الأفْكارِ فالَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هو التَّفَكُّرُ في الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ، والَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هو الِالتِفاتُ إلى الشُّبُهاتِ، ومُعْتَبَرانِ أيْضًا في مَقامِ التَّجَلِّي، فالفِعْلُ هو الِاسْتِغْراقُ في اللَّهِ تَعالى، والتَّرْكُ هو الِالتِفاتُ إلى غَيْرِ اللَّهِ تَعالى: وأهْلُ الرِّياضَةِ يُسَمُّونَ الفِعْلَ والتَّرْكَ بِالتَّحْلِيَةِ والتَّخْلِيَةِ، وبِالمَحْوِ والصَّحْوِ، وبِالنَّفْيِ والإثْباتِ، وبِالفَناءِ والبَقاءِ، وفي جَمِيعِ المَقاماتِ النَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلى الإثْباتِ، ولِذَلِكَ كانَ قَوْلُنا: ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ النَّفْيُ مُقَدَّمٌ فِيهِ عَلى الإثْباتِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الوَسِيلَةُ فَعِيلَةٌ، مِن وسَلَ إلَيْهِ إذا تَقَرَّبَ إلَيْهِ. قالَ لَبِيدٌ الشّاعِرُ: ؎أرى النّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ألا كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى اللَّهِ واسِلُ أيْ مُتَوَسِّلٌ، فالوَسِيلَةُ هي الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِها إلى المَقْصُودِ. قالَتِ التَّعْلِيمِيَّةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى اللَّهِ تَعالى إلّا بِمُعَلِّمٍ يُعَلِّمُنا مَعْرِفَتَهُ، ومُرْشِدٍ يُرْشِدُنا إلى العِلْمِ بِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ أمْرٌ بِطَلَبِ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ مُطْلَقًا، والإيمانُ بِهِ مِن أعْظَمِ المَطالِبِ وأشْرَفِ المَقاصِدِ، فَلا بُدَّ فِيهِ مِنَ الوَسِيلَةِ. وجَوابُنا: أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِابْتِغاءِ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ بَعْدَ الإيمانِ بِهِ، والإيمانُ بِهِ عِبارَةٌ عَنِ المَعْرِفَةِ بِهِ فَكانَ هَذا أمْرًا بِابْتِغاءِ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ بَعْدَ الإيمانِ وبَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ هَذا أمْرًا بِطَلَبِ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ في مَعْرِفَتِهِ، فَكانَ المُرادُ طَلَبَ الوَسِيلَةِ إلَيْهِ في تَحْصِيلِ مَرْضاتِهِ وذَلِكَ بِالعِباداتِ والطّاعاتِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وجاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِتَرْكِ ما لا يَنْبَغِي بِقَوْلِهِ: (اتَّقُوا اللَّهَ) وبِفِعْلِ ما يَنْبَغِي، بِقَوْلِهِ: ﴿وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما شاقٌّ ثَقِيلٌ عَلى النَّفْسِ والشَّهْوَةِ، فَإنَّ النَّفْسَ لا تَدْعُو إلّا إلى الدُّنْيا واللَّذّاتِ المَحْسُوسَةِ، والعَقْلَ لا يَدْعُو إلّا إلى خِدْمَةِ اللَّهِ وطاعَتِهِ والإعْراضِ عَنِ المَحْسُوساتِ، وكانَ بَيْنَ الحالَتَيْنِ تَضادٌّ وتَنافٍ، ولِذَلِكَ فَإنَّ العُلَماءَ ضَرَبُوا المَثَلَ في مَظانَّ (p-١٧٤)تَطْلُبُ الدُّنْيا والآخِرَةَ بِالضَّرَّتَيْنِ وبِالضِّدَّيْنِ، وبِالمَشْرِقِ والمَغْرِبِ، وبِاللَّيْلِ والنَّهارِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الِانْقِيادُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ مِن أشَقِّ الأشْياءِ عَلى النَّفْسِ وأشَدِّها ثِقَلًا عَلى الطَّبْعِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أرْدَفَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِقَوْلِهِ: ﴿وجاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أسْرارٍ رُوحانِيَّةٍ، ونَحْنُ نُشِيرُ هَهُنا إلى واحِدٍ مِنها، وهو أنَّ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ تَعالى فَرِيقانِ، مِنهم مَن يَعْبُدُ اللَّهَ لا لِغَرَضٍ سِوى اللَّهِ، ومِنهم مَن يَعْبُدُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ. والمَقامُ الأوَّلُ: هو المَقامُ الشَّرِيفُ العالِي، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجاهِدُوا في سَبِيلِهِ﴾ أيْ في سَبِيلِ عُبُودِيَّتِهِ وطَرِيقِ الإخْلاصِ في مَعْرِفَتِهِ وخِدْمَتِهِ. والمَقامُ الثّانِي: دُونَ الأوَّلِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ والفَلاحُ اسْمٌ جامِعٌ لِلْخَلاصِ عَنِ المَكْرُوهِ والفَوْزِ بِالمَحْبُوبِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أرْشَدَ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الآيَةِ إلى مَعاقِدِ جَمِيعِ الخَيْراتِ، ومَفاتِحِ كُلِّ السَّعاداتِ أتْبَعَهُ بِشَرْحِ حالِ الكُفّارِ، وبِوَصْفِ عاقِبَةِ مَن لَمْ يَعْرِفْ حَياةً ولا سَعادَةً إلّا في هَذِهِ الدّارِ، وذَكَرَ مِن جُمْلَةِ تِلْكَ الأُمُورِ الفَظِيعَةِ نَوْعَيْنِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب