الباحث القرآني

(p-١٥٨) * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالُوا يامُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾، وفي قَوْلِهِ: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: لَعَلَّ القَوْمَ كانُوا مُجَسِّمَةً، وكانُوا يُجَوِّزُونَ الذَّهابَ والمَجِيءَ عَلى اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ المُرادُ حَقِيقَةَ الذَّهابِ بَلْ هو كَما يُقالُ: كَلَّمْتُهُ فَذَهَبَ يُجِيبُنِي، يَعْنِي يُرِيدُ أنْ يُجِيبَنِي، فَكَأنَّهم قالُوا: كُنْ أنْتَ ورَبُّكَ مُرِيدَيْنِ لِقِتالِهِمْ. والثّالِثُ: التَّقْدِيرُ: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ، فَأضْمَرَ خَبَرَ الِابْتِداءِ. فَإنْ قِيلَ: إذا أضْمَرْنا الخَبَرَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَوْلُهُ ﴿فَقاتِلا﴾ خَبَرًا أيْضًا ؟ قُلْنا: لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. والرّابِعُ: المُرادُ بِقَوْلِهِ (ورَبُّكَ) أخُوهُ هارُونُ، وسَمَّوْهُ رَبًّا؛ لِأنَّهُ كانَ أكْبَرَ مِن مُوسى. قالَ المُفَسِّرُونَ: قَوْلُهم ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ﴾ إنْ قالُوهُ عَلى وجْهِ الذَّهابِ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ فَهو كُفْرٌ، وإنْ قالُوهُ عَلى وجْهِ التَّمَرُّدِ عَنِ الطّاعَةِ فَهو فِسْقٌ، ولَقَدْ فَسَقُوا بِهَذا الكَلامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ القِصَّةِ ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ (المائِدَةِ: ٢٦) والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ القِصَّةِ شَرْحُ خِلافِ هَؤُلاءِ اليَهُودِ وشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وغُلُوِّهِمْ في المُنازَعَةِ مَعَ أنْبِياءِ اللَّهِ تَعالى مُنْذُ كانُوا. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ لَمّا سَمِعَ مِنهم هَذا الكَلامَ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي وأخِي﴾. ذَكَرَ الزَّجّاجُ في إعْرابِ قَوْلِهِ: (وأخِي) وجْهَيْنِ: الرَّفْعُ والنَّصْبُ. أمّا الرَّفْعُ فَمِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلى مَوْضِعِ (إنِّي) والمَعْنى أنا لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي، وأخِي كَذَلِكَ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ (التَّوْبَةِ: ٣) . والثّانِي: أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في (أمْلِكُ) وهو ”أنا“ والمَعْنى: لا أمْلِكُ أنا وأخِي إلّا أنْفُسَنا، وأمّا النَّصْبُ فَمِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلى الياءِ، والتَّقْدِيرُ: إنِّي وأخِي لا نَمْلِكُ إلّا أنْفُسَنا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ (أخِي) مَعْطُوفًا عَلى (نَفْسِي) فَيَكُونَ المَعْنى: لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي، ولا أمْلِكُ إلّا أخِي؛ لِأنَّ أخاهُ إذا كانَ مُطِيعًا لَهُ فَهو مالِكُ طاعَتِهِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي وأخِي، وكانَ مَعَهُ الرَّجُلانِ المَذْكُورانِ ؟ قُلْنا: كَأنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِهِما كُلَّ الوُثُوقِ لِما رَأى مِن إطْباقِ الأكْثَرِينَ عَلى التَّمَرُّدِ، وأيْضًا لَعَلَّهُ إنَّما قالَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِمَن يُوافِقُهُ، وأيْضًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالأخِ مَن يُواخِيهِ في الدِّينِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَكانا داخِلَيْنِ في قَوْلِهِ: (وأخِي) . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ يَعْنِي فافْصِلْ بَيْنَنا وبَيْنَهم بِأنْ تَحْكُمَ لَنا بِما نَسْتَحِقُّ، وتَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ، وهو في مَعْنى الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ خَلِّصْنا مِن صُحْبَتِهِمْ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ (القَصَصِ: ٢١) . ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿قالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: (فَإنَّها) أيِ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وفي قَوْلِهِ ﴿أرْبَعِينَ سَنَةً﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها مَنصُوبَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، أيِ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ تَعالى تِلْكَ الأرْضَ لَهم مِن غَيْرِ مُحارَبَةٍ، هَكَذا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ. (p-١٥٩) والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها مَنصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ بَقُوا في تِلْكَ الحالَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وأمّا الحُرْمَةُ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ وماتُوا، ثُمَّ إنَّ أوْلادَهم دَخَلُوا تِلْكَ البَلْدَةَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ في دُعائِهِ عَلى القَوْمِ: ﴿فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ (المائِدَةِ: ٢٥) لَمْ يَقْصِدْ بِدُعائِهِ هَذا الجِنْسَ مِنَ العَذابِ، بَلْ أخَفَّ مِنهُ. فَلَمّا أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالتِّيهِ عَلِمَ أنَّهُ يَحْزَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَعَزّاهُ وهَوَّنَ أمْرَهم عَلَيْهِ، فَقالَ: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: إنَّ مُوسى لَمّا دَعا عَلَيْهِمْ أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأحْوالِ التِّيهِ، ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَقالُوا لَهُ: لِمَ دَعَوْتَ عَلَيْنا ونَدِمَ مُوسى عَلى ما عَمِلَ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: ﴿لا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطابًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ لا تَحْزَنْ عَلى قَوْمٍ لَمْ يَزَلْ شَأْنُهُمُ المَعاصِيَ ومُخالَفَةَ الرُّسُلِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب