الباحث القرآني
واعْلَمْ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ذَكَّرَهم هَذِهِ النِّعْمَةَ وشَرَحَها لَهم أمَرَهم بَعْدَ ذَلِكَ بِمُجاهَدَةِ العَدُوِّ فَقالَ:
﴿ياقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا صَعِدَ جَبَلَ لُبْنانَ قالَ لَهُ اللَّهُ تَعالى: انْظُرْ فَما أدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهو مُقَدَّسٌ، وهو مِيراثٌ لِذُرِّيَّتِكَ. وقِيلَ: لَمّا خَرَجَ قَوْمُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مِصْرَ وعَدَهُمُ اللَّهُ تَعالى إسْكانَ أرْضِ الشّامِ، وكانَ بَنُو إسْرائِيلَ يُسَمُّونَ أرْضَ الشّامِ أرْضَ المَواعِيدِ، ثُمَّ بَعَثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنَ الأُمَناءِ لِيَتَجَسَّسُوا لَهم عَنْ أحْوالِ تِلْكَ الأراضِي، فَلَمّا دَخَلُوا تِلْكَ البِلادَ رَأوْا أجْسامًا عَظِيمَةً هائِلَةً. قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا بَعَثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ النُّقَباءَ لِأجْلِ التَّجَسُّسِ رَآهم واحِدٌ مِن أُولَئِكَ الجَبّارِينَ فَأخَذَهم وجَعَلَهم في كُمِّهِ مَعَ فاكِهَةٍ كانَ قَدْ حَمَلَها مِن بُسْتانِهِ وأتى بِهِمُ المَلِكَ، فَنَثَرَهم بَيْنَ يَدَيْهِ وقالَ مُتَعَجِّبًا لِلْمَلِكِ: هَؤُلاءِ يُرِيدُونَ قِتالَنا، فَقالَ المَلِكُ: ارْجِعُوا إلى صاحِبِكم وأخْبِرُوهُ بِما شاهَدْتُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ أُولَئِكَ النُّقَباءُ إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَأخْبَرُوهُ بِالواقِعَةِ، فَأمَرَهم أنْ يَكْتُمُوا ما عاهَدُوهُ فَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، إلّا رَجُلانِ مِنهم، وهُمايُوشَعُ بْنُ نُونٍ وكالِبُ بْنُ يُوفِنا، فَإنَّهُما سَهَّلا الأمْرَ وقالا: هي بِلادٌ طَيِّبَةٌ كَثِيرَةُ النِّعَمِ، والأقْوامُ وإنْ كانَتْ أجْسادُهم عَظِيمَةً إلّا أنَّ قُلُوبَهم ضَعِيفَةٌ، وأمّا العَشَرَةُ الباقِيَةُ فَقَدْ أوْقَعُوا الجُبْنَ في قُلُوبِ النّاسِ حَتّى أظْهَرُوا الِامْتِناعَ مِن غَزْوِهِمْ، فَقالُوا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ (المائِدَةِ: ٢٤) فَدَعا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهِمْ فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنْ أبْقاهم في التِّيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً. قالُوا: وكانَتْ مُدَّةُ غَيْبَةِ النُّقَباءِ لِلتَّجَسُّسِ أرْبَعِينَ يَوْمًا فَعُوقِبُوا بِالتِّيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وماتَ أُولَئِكَ العُصاةُ في التِّيهِ، وأُهْلِكَ النُّقَباءُ العَشَرَةُ في التِّيهِ بِعُقُوباتٍ غَلِيظَةٍ. ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ مُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ ماتا أيْضًا في التِّيهِ: ومِنهم مَن قالَ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَقِيَ وخَرَجَ مَعَهُ يُوشَعُ وكالِبُ وقاتَلُوا الجَبّارِينَ وغَلَبُوهم (p-١٥٦)ودَخَلُوا تِلْكَ البِلادَ، فَهَذِهِ هي القِصَّةُ، واللَّهُ أعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الأُمُورِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الأرْضُ المُقَدَّسَةُ هي الأرْضُ المُطَهَّرَةُ طُهِّرَتْ مِنَ الآفاتِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: طُهِّرَتْ مِنَ الشِّرْكِ وجُعِلَتْ مَسْكَنًا وقَرارًا لِلْأنْبِياءِ، وهَذا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ تِلْكَ الأرْضَ لَمّا قالَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ ما كانَتْ مُقَدَّسَةً عَنِ الشِّرْكِ، وما كانَتْ مَقَرًّا لِلْأنْبِياءِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ بِأنَّها كانَتْ كَذَلِكَ فِيما قَبْلُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في تِلْكَ الأرْضِ، فَقالَ عِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ: هي أرِيحا وقالَ الكَلْبِيُّ: دِمَشْقُ وفِلَسْطِينُ وبَعْضُ الأُرْدُنِ، وقِيلَ الطُّورُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وُجُوهٌ:
أحَدُها: كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أنَّها لَكم.
وثانِيها: وهَبَها اللَّهُ لَكم.
وثالِثُها: أمَرَكم بِدُخُولِها.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ (المائِدَةِ: ٢٦) .
والجَوابُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتْ هِبَةً ثُمَّ حَرَّمَها عَلَيْهِمْ بِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ وعِصْيانِهِمْ. وقِيلَ: اللَّفْظُ وإنْ كانَ عامًّا لَكِنَّ المُرادَ هو الخُصُوصُ، فَصارَ كَأنَّهُ مَكْتُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وحَرامٌ عَلى بَعْضِهِمْ. وقِيلَ: إنَّ الوَعْدَ بِقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ الطّاعَةِ، فَلَمّا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لا جَرَمَ لَمْ يُوجَدِ المَشْرُوطُ، وقِيلَ: إنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمّا مَضى الأرْبَعُونَ حَصَلَ ما كَتَبَ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وهي أنَّ القَوْمَ وإنْ كانُوا جَبّارِينَ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا وعَدَ هَؤُلاءِ الضُّعَفاءَ بِأنَّ تِلْكَ الأرْضَ لَهم، فَإنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِصِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِمُوا قَطْعًا أنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهم عَلَيْهِمْ ويُسَلِّطُهم عَلَيْهِمْ فَلا بُدَّ وأنْ يُقْدِمُوا عَلى قِتالِهِمْ مِن غَيْرِ جُبْنٍ ولا خَوْفٍ ولا هَلَعٍ، فَهَذِهِ هي الفائِدَةُ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكُمْ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: لا تَرْجِعُوا عَنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ إلى الشَّكِّ في نُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أخْبَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ تِلْكَ الأرْضَ لَهم كانَ هَذا وعْدًا بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَنْصُرُهم عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَقْطَعُوا بِهَذِهِ النُّصْرَةِ صارُوا شاكِّينَ في صِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَصِيرُوا كافِرِينَ بِالإلَهِيَّةِ والنُّبُوَّةِ.
والوَجْهُ الثّانِي: المُرادُ لا تَرْجِعُوا عَنِ الأرْضِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِها إلى الأرْضِ الَّتِي خَرَجْتُمْ عَنْها. يُرْوى أنَّ القَوْمَ كانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلى الرُّجُوعِ إلى مِصْرَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: خاسِرِينَ في الآخِرَةِ فَإنَّهُ يَفُوتُكُمُ الثَّوابُ ويَلْحَقُكُمُ العِقابُ.
وثانِيها: تَرْجِعُونَ إلى الذُّلِّ.
وثالِثُها: تَمُوتُونَ في التِّيهِ ولا تَصِلُونَ إلى شَيْءٍ مِن مَطالِبِ الدُّنْيا ومَنافِعِ الآخِرَةِ.
{"ayah":"یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق