الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ ولا الهَدْيَ ولا القَلائِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى: لَمّا حَرَّمَ الصَّيْدَ عَلى المُحْرِمِ في الآيَةِ الأُولى أكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُخالَفَةِ تَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ الشَّعائِرَ جَمْعٌ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّها جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وقالَ ابْنُ فارِسٍ: واحِدُها شَعارَةٌ، والشَّعِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مُفَعَّلَةٍ، والمُشَّعَرَةُ المُعَلَّمَةُ، والأشْعارُ الأعْلامُ، وكُلُّ شَيْءٍ أُشْعِرَ فَقَدْ أُعْلِمُ، وكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَمًا عَلى شَيْءٍ أوْ عُلِّمَ بِعَلامَةٍ جازَ أنْ يُسَمّى شَعِيرَةً، فالهَدْيُ الَّذِي يُهْدى إلى مَكَّةَ يُسَمّى شَعائِرَ لِأنَّها مُعَلَّمَةٌ بِعَلاماتٍ دالَّةٍ عَلى كَوْنِها هَدْيًا. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِشَعائِرِ اللَّهِ، وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ أيْ: لا تُخِلُّوا بِشَيْءٍ مِن شَعائِرِ اللَّهِ وفَرائِضِهِ الَّتِي حَدَّها لِعِبادِهِ وأوْجَبَها عَلَيْهِمْ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَشَعائِرُ اللَّهِ عامٌّ في جَمِيعِ تَكالِيفِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ويَقْرُبُ مِنهُ قَوْلُ الحَسَنِ: شَعائِرُ اللَّهِ دِينُ اللَّهِ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ شَيْءٌ خاصٌّ مِنَ التَّكالِيفِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَذَكَرُوا وُجُوهًا:
الأوَّلُ: المُرادُ لا تَحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكم في حالِ إحْرامِكم مِنَ الصَّيْدِ.
والثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَحُجُّونَ البَيْتَ ويُهْدُونَ الهَدايا ويُعَظِّمُونَ المَشاعِرَ ويَنْحَرُونَ، فَأرادَ المُسْلِمُونَ أنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ .
الثّالِثُ: قالَ الفَرّاءُ: كانَتْ عامَّةُ العَرَبِ لا يَرَوْنَ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ الحَجِّ ولا يَطُوفُونَ بِهِما، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: لا تَسْتَحِلُّوا تَرْكَ شَيْءٍ مِن مَناسِكِ الحَجِّ وأْتُوا بِجَمِيعِها عَلى سَبِيلِ الكَمالِ والتَّمامِ.
الرّابِعُ: قالَ بَعْضُهم: الشَّعائِرُ هي الهَدايا تُطْعَنُ في أسَنامِها وتُقَلَّدُ لِيُعْلَمَ أنَّها هَدْيٌ، وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ [الحَجِّ: ٣٦] وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ شَعائِرَ اللَّهِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْها الهَدْيَ، والمَعْطُوفُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ أيْ: لا تُحِلُّوا الشَّهْرَ الحَرامَ بِالقِتالِ فِيهِ.
واعْلَمْ أنَّ الشَّهْرَ الحَرامَ هو الشَّهْرُ الَّذِي كانَتِ العَرَبُ تُعَظِّمُهُ وتُحَرِّمُ القِتالَ فِيهِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٦] فَقِيلَ: هي ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبٌ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى (p-١٠٢)جَمِيعِ هَذِهِ الأشْهُرِ كَما يُطْلَقُ اسْمُ الواحِدِ عَلى الجِنْسِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو رَجَبٌ لِأنَّهُ أكْمَلُ الأشْهُرِ الأرْبَعَةِ في هَذِهِ الصِّفَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا الهَدْيَ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: الهَدْيُ ما أُهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ مِن ناقَةٍ أوْ بَقَرَةٍ أوْ شاةٍ، واحِدُها هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدّالِ، ويُقالُ أيْضًا هَدِيَّةٌ، وجَمْعُها هَدِيٌّ. قالَ الشّاعِرُ:
؎حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ والمُصَلّى وأعْناقِ الهَدِيِّ مُقَلَّداتٍ
ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائِدَةِ: ٩٥] وقَوْلُهُ: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفَتْحِ: ٢٥] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا القَلائِدَ﴾ والقَلائِدُ جَمْعُ قِلادَةٍ وهي الَّتِي تُشَدُّ عَلى عُنُقِ البَعِيرِ وغَيْرِهِ وهي مَشْهُورَةٌ. وفي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ الهَدْيُ ذَواتُ القَلائِدِ، وعُطِفَتْ عَلى الهَدْيِ مُبالَغَةً في التَّوْصِيَةِ بِها لِأنَّها أشْرَفُ الهَدْيِ كَقَوْلِهِ ﴿وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] كَأنَّهُ قِيلَ: والقَلائِدُ مِنها خُصُوصًا.
الثّانِي: أنَّهُ نَهى عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَلائِدِ الهَدْيِ مُبالَغَةً في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْيِ عَلى مَعْنى: ولا تُحِلُّوا قَلائِدَها فَضْلًا عَنْ أنْ تُحِلُّوها، كَما قالَ ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النُّورِ: ٣١] فَنَهى عَنْ إبْداءِ الزِّينَةِ مُبالَغَةً في النَّهْيِ عَنْ إبْداءِ مَواضِعِها.
الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: كانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ مُواظِبِينَ عَلى المُحارَبَةِ إلّا في الأشْهُرِ الحُرُمِ، فَمَن وُجِدَ في غَيْرِ هَذِهِ الأشْهُرِ الحُرُمِ أُصِيبَ مِنهُ، إلّا أنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بَدَنَةً أوْ بَقَرَةً مِن لِحاءِ شَجَرِ الحَرَمِ، أوْ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ إلى البَيْتِ، فَحِينَئِذٍ لا يُتَعَرَّضُ لَهُ، فَأمَرَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ بِتَقْرِيرِ هَذا المَعْنى.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ أيْ: قَوْمًا قاصِدِينَ المَسْجِدَ الحَرامَ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (ولا آمِّي البَيْتِ الحَرامِ) عَلى الإضافَةِ.
* *
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الأعْرَجُ (تَبْتَغُونَ) بِالتّاءِ عَلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ الفَضْلِ والرِّضْوانِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ بِالتِّجارَةِ المُباحَةِ لَهم في حَجِّهِمْ، كَقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٩٨] قالُوا: نَزَلَتْ في تِجاراتِهِمْ أيّامَ المَوْسِمِ، والمَعْنى: لا تَمْنَعُوهم فَإنَّما قَصَدُوا البَيْتَ لِإصْلاحِ مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ، فابْتِغاءُ الفَضْلِ لِلدُّنْيا، وابْتِغاءُ الرِّضْوانِ لِلْآخِرَةِ. قالَ أهْلُ العِلْمِ: إنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَقْصِدُونَ بِحَجِّهِمُ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وإنْ كانُوا لا يَنالُونَ ذَلِكَ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهم بِسَبَبِ هَذا القَصْدِ نَوْعٌ مِنَ الحُرْمَةِ.(p-١٠٣)
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ، وبِالرِّضْوانِ أنْ يَرْضى عَنْهم، وذَلِكَ لِأنَّ الكافِرَ وإنْ كانَ لا يَنالُ الفَضْلَ والرِّضْوانَ لَكِنَّهُ يَظُنُّ أنَّهُ بِفِعْلِهِ طالِبٌ لَهُما، فَيَجُوزُ أنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ بِناءً عَلى ظَنِّهِ، قالَ تَعالى: ﴿وانْظُرْ إلى إلَهِكَ﴾ [طه: ٩٧] وقالَ: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدُّخانِ: ٤٩] .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ فَقالَ بَعْضُهم: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ يَقْتَضِي حُرْمَةَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وذَلِكَ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥] وقَوْلُهُ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ يَقْتَضِي حُرْمَةَ مَنعِ المُشْرِكِينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وذَلِكَ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وهَذا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ كابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يُنْسَخْ مِن سُورَةِ المائِدَةِ إلّا هَذِهِ الآيَةُ. وقالَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الآيَةُ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، وهَؤُلاءِ لَهم طَرِيقانِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَنا في هَذِهِ الآيَةِ أنْ لا نُخِيفَ مَن يَقْصِدُ بَيَتَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وحَرَّمَ عَلَيْنا أخْذَ الهَدْيِ مِنَ المُهْدِينَ إذا كانُوا مُسْلِمِينَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أوَّلُ الآيَةِ وآخِرُها، أمّا أوَّلُ الآيَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ وشَعائِرُ اللَّهِ إنَّما تَلِيقُ بِنُسُكِ المُسْلِمِينَ وطاعاتِهِمْ لا بِنُسُكِ الكُفّارِ، وأمّا آخِرُ الآيَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا﴾ وهَذا إنَّما يَلِيقُ بِالمُسْلِمِ لا بِالكافِرِ.
الثّانِي: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: المُرادُ بِالآيَةِ الكُفّارُ الَّذِينَ كانُوا في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا زالَ العَهْدُ بِسُورَةِ بَراءَةٌ زالَ ذَلِكَ الحَظْرُ ولَزِمَ المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ . [التَّوْبَةِ: ٢٨ ] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ: وإذا أحْلَلْتُمْ يُقالُ حَلَّ المُحْرِمُ وأحَلَّ، وقُرِئَ بِكَسْرِ الفاءِ وقِيلَ هو بَدَلٌ مِن كَسْرِ الهَمْزَةِ عِنْدَ الِابْتِداءِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يَعْنِي لَمّا كانَ المانِعُ مِن حِلِّ الِاصْطِيادِ هو الإحْرامُ، فَإذا زالَ الإحْرامُ وجَبَ أنْ يَزُولَ المَنعُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ظاهِرُ الأمْرِ وإنْ كانَ لِلْوُجُوبِ إلّا أنَّهُ لا يُفِيدُ هَهُنا إلّا الإباحَةَ. وكَذا في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ﴾ [الجُمُعَةِ: ١٠] ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: لا تَدْخُلَّنَ هَذِهِ الدّارَ حَتّى تُؤَدِّيَ ثَمَنَها، فَإذا أدَّيْتَ فادْخُلْها، أيْ: فَإذا أدَّيْتَ فَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دُخُولُها، وحاصِلُ الكَلامِ أنّا إنَّما عَرَفْنا أنَّ الأمْرَ هَهُنا لَمْ يُفِدِ الوُجُوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ أنْ تَعْتَدُوا وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ يَعْنِي ولا تَحْمِلَنَّكم عَداوَتُكم لِقَوْمٍ مِن أجْلِ أنَّهم صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ عَلى أنْ تَعْتَدُوا فَتَمْنَعُوهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، فَإنَّ الباطِلَ لا يَجُوزُ أنْ يُعْتَدى بِهِ. ولَيْسَ لِلنّاسِ أنْ يُعِينَ بَعْضُهم بَعْضًا عَلى العُدْوانِ حَتّى إذا تَعَدّى واحِدٌ مِنهم عَلى الآخَرِ تَعَدّى ذَلِكَ الآخَرُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الواجِبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهم بَعْضًا عَلى ما فِيهِ البِرُّ والتَّقْوى، فَهَذا هو المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ.
(p-١٠٤)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ (جَرَمَ) يَجْرِي مَجْرى كَسَبَ في تَعَدِّيهِ تارَةً إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وتارَةً إلى اثْنَيْنِ، تَقُولُ: جَرَمَ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبَهُ، وجَرَمْتُهُ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبْتُهُ إيّاهُ، ويُقالُ: أجْرَمْتُهُ ذَنْبًا عَلى نَقْلِ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ بِالهَمْزَةِ إلى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: أكْسَبْتُهُ ذَنْبًا، وعَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ ”ولا يُجْرِمَنَّكم“ بِضَمِّ الياءِ، وأوَّلُ المَفْعُولَيْنِ عَلى القِراءَتَيْنِ ضَمِيرُ المُخاطَبِينَ.
والثّانِي: أنْ تَعْتَدُوا، والمَعْنى لا يَكْسِبَنَّكم بُغْضُ قَوْمٍ لِأنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِداءَ ولا يَحْمِلَنَّكم عَلَيْهِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الشَّنَآنُ البُغْضُ، يُقالُ: شَنَأْتُ الرَّجُلَ أشَنْؤُهُ شَنَأً ومَشْنَأً وشِنْأةً ومَشْنَأةً وشَنَآنًا بِفَتْحِ الشِّينِ وكَسْرِها، ويُقالُ: رَجُلٌ شَنَآنٌ وامْرَأةٌ شَنَآنَةٌ مَصْرُوفانِ، ويُقالُ شَنَآنُ بِغَيْرِ صَرْفٍ، وفَعَلانُ قَدْ جاءَ وصْفًا وقَدْ جاءَ مَصْدَرًا.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وإسْماعِيلُ عَنْ نافِعٍ بِجَزْمِ النُّونِ الأُولى، والباقُونَ بِالفَتْحِ. قالُوا: والفَتْحُ أجْوَدُ لِكَثْرَةِ نَظائِرِها في المَصادِرِ كالضَّرَبانِ والسَّيَلانِ والغَلَيانِ والغَشَيانِ، وأمّا بِالسُّكُونِ فَقَدْ جاءَ في الأكْثَرِ وصْفًا. قالَ الواحِدِيُّ: ومِمّا جاءَ مَصْدَرًا قَوْلُهم: لَوَيْتُهُ حَقَّهُ لَيّانًا، وشَنْآنٌ في قَوْلِ أبِي عُبَيْدَةَ. وأنْشَدَ لِلْأحْوَصِ:
؎وإنْ عابَ فِيهِ ذُو الشَّنْآنِ وفَنَّدا
فَقَوْلُهُ: ذُو الشَّنْآنِ عَلى التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِمْ: إنِّي ظَمْآنٌ، وفُلانٌ ظَمْآنٌ، بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى ما قَبْلَها.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (وإنْ صَدُّوكم) بِكَسْرِ الألِفِ عَلى الشَّرْطِ والجَزاءِ، والباقُونَ بِفَتْحِ الألِفِ، يَعْنِي لِأنْ صَدُّوكم. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وهَذِهِ القِراءَةُ هي الِاخْتِيارُ لِأنَّ مَعْنى صَدِّهِمْ إيّاهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ مَنعُ أهْلِ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ عَنِ العُمْرَةِ، وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ، وكانَ هَذا الصَّدُّ مُتَقَدِّمًا لا مَحالَةَ عَلى نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ والمُرادُ مِنهُ التَّهْدِيدُ والوَعِيدُ، يَعْنِي اتَّقُوا اللَّهَ ولا تَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِن مَحارِمِهِ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ، لا يَطِيقُ أحَدٌ عِقابَهُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق