الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالُوا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنها وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ونَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا ونَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ .
والمَعْنى: كَأنَّهم لَمّا طَلَبُوا ذَلِكَ قالَ عِيسى لَهم: إنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ المُعْجِزاتُ الكَثِيرَةُ فاتَّقُوا اللَّهَ في طَلَبِ (p-١٠٩)هَذِهِ المُعْجِزَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ تِلْكَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةِ، فَأجابُوا وقالُوا: إنّا لا نَطْلُبُ هَذِهِ المائِدَةَ لِمُجَرَّدِ أنْ تَكُونَ مُعْجِزَةً بَلْ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ:
أحَدُها: أنّا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنها فَإنَّ الجُوعَ قَدْ غَلَبَنا ولا نَجِدُ طَعامًا آخَرَ.
وثانِيها: أنّا وإنْ عَلِمْنا قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى بِالدَّلِيلِ، ولَكِنّا إذا شاهَدْنا نُزُولَ هَذِهِ المائِدَةِ ازْدادَ اليَقِينُ وقَوِيَتِ الطُّمَأْنِينَةُ.
وثالِثُها: أنّا وإنْ عَلِمْنا بِسائِرِ المُعْجِزاتِ صِدْقَكَ، ولَكِنّا إذا شاهَدْنا هَذِهِ المُعْجِزَةَ ازْدادَ اليَقِينُ والعِرْفانُ وتَأكَّدَتِ الطُّمَأْنِينَةُ.
ورابِعُها: أنَّ جَمِيعَ تِلْكَ المُعْجِزاتِ الَّتِي أوْرَدْتَها كانَتْ مُعْجِزاتٍ أرْضِيَّةً، وهَذِهِ مُعْجِزَةٌ سَماوِيَّةٌ وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ، فَإذا شاهَدْناها كُنّا عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ، نَشْهَدُ عَلَيْها عِنْدَ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوها مِن بَنِي إسْرائِيلَ، ونَكُونُ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ لِلَّهِ بِكَمالِ القُدْرَةِ، ولَكَ بِالنُّبُوَّةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً مِنكَ وارْزُقْنا وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ .
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أمّا الكَلامُ في (اللَّهُمَّ) فَقَدْ تَقَدَّمَ بِالِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٢٦] فَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ) نِداءٌ، وقَوْلُهُ: (رَبَّنا) نِداءٌ ثانٍ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تَكُونُ لَنا﴾ صِفَةٌ لِلْمائِدَةِ ولَيْسَ بِجَوابٍ لِلْأمْرِ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (تَكُنْ) لِأنَّهُ جَعَلَهُ جَوابَ الأمْرِ. قالَ الفَرّاءُ: وما كانَ مِن نَكِرَةٍ قَدْ وقَعَ عَلَيْها أمْرٌ جازَ في الفِعْلِ بَعْدَهُ الجَزْمُ والرَّفْعُ، ومِثالُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي﴾ [مَرْيَمَ: ٦] بِالجَزْمِ والرَّفْعِ ﴿فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي﴾ [القَصَصِ: ٣٤] بِالجَزْمِ والرَّفْعِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ أيْ نَتَّخِذُ اليَوْمَ الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ المائِدَةُ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ ومَن يَأْتِي بَعْدَنا، ونَزَلَتْ يَوْمَ الأحَدِ فاتَّخَذَهُ النَّصارى عِيدًا، والعِيدُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِما عادَ إلَيْكَ في وقْتٍ مَعْلُومٍ، واشْتِقاقُهُ مِن عادَ يَعُودُ، فَأصْلُهُ هو العَوْدُ، فَسُمِّيَ العِيدُ عِيدًا لِأنَّهُ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ بِفَرَحٍ جَدِيدٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وآيَةً مِنكَ﴾ أيْ دَلالَةً عَلى تَوْحِيدِكَ وصِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِكَ ﴿وارْزُقْنا﴾ أيْ وارْزُقْنا طَعامًا نَأْكُلُهُ ﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَأمَّلْ في هَذا التَّرْتِيبِ فَإنَّ الحَوارِيِّينَ لَمّا سَألُوا المائِدَةَ ذَكَرُوا في طَلَبِها أغْراضًا، فَقَدَّمُوا ذِكْرَ الأكْلِ فَقالُوا: ﴿نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنها﴾ وأخَّرُوا الأغْراضَ الدِّينِيَّةَ الرُّوحانِيَّةَ، فَأمّا عِيسى فَإنَّهُ لَمّا طَلَبَ المائِدَةَ وذَكَرَ أغْراضَهُ فِيها قَدَّمَ الأغْراضَ الدِّينِيَّةَ وأخَّرَ غَرَضَ الأكْلِ حَيْثُ قالَ: ﴿وارْزُقْنا﴾ وعِنْدَ هَذا يَلُوحُ لَكَ مَراتِبُ دَرَجاتِ الأرْواحِ في كَوْنِ بَعْضِها رُوحانِيَّةً وبَعْضِها جُسْمانِيَّةً، ثُمَّ إنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِشِدَّةِ صَفاءِ دِينِهِ وإشْراقِ رُوحِهِ لَمّا ذَكَرَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ: ﴿وارْزُقْنا﴾ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ بَلِ انْتَقَلَ مِنَ الرِّزْقِ إلى الرَّزّاقِ فَقالَ: ﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ فَقَوْلُهُ: (رَبَّنا) ابْتِداءٌ مِنهُ بِذِكْرِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقَوْلُهُ: (أنْزِلْ عَلَيْنا) انْتِقالٌ مِنَ الذّاتِ إلى الصِّفاتِ، وقَوْلُهُ: ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ إشارَةٌ إلى ابْتِهاجِ الرُّوحِ بِالنِّعْمَةِ لا مِن حَيْثُ إنَّها نِعْمَةٌ، بَلْ مِن حَيْثُ إنَّها صادِرَةٌ عَنِ المُنْعِمِ، وقَوْلُهُ: ﴿وآيَةً مِنكَ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِ هَذِهِ المائِدَةِ دَلِيلًا لِأصْحابِ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، وقَوْلُهُ: ﴿وارْزُقْنا﴾ إشارَةٌ إلى حِصَّةِ النَّفْسِ، وكُلُّ ذَلِكَ نُزُولٌ مِن حَضْرَةِ الجَلالِ. فانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأ بِالأشْرَفِ فالأشْرَفِ نازِلًا إلى الأدْوَنِ فالأدْوَنِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وأنْتَ خَيرُ الرّازِقِينَ﴾ وهو عُرُوجٌ مَرَّةً أُخْرى مِنَ الخَلْقِ إلى الخالِقِ ومِن غَيْرِ اللَّهِ إلى اللَّهِ ومِنَ الأخَسِّ إلى الأشْرَفِ، وعِنْدَ ذَلِكَ تَلُوحُ لَكَ شَمَّةٌ مِن كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الأرْواحِ المُشْرِقَةِ النُّورانِيَّةِ الإلَهِيَّةِ ونُزُولِها، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِن أهْلِهِ.
(p-١١٠)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قِراءَةِ زَيْدٍ (يَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا) والتَّأْنِيثُ بِمَعْنى الآيَةِ.
{"ayahs_start":113,"ayahs":["قَالُوا۟ نُرِیدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَىِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَیۡهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَاۤ أَنزِلۡ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَایَةࣰ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ"],"ayah":"قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَاۤ أَنزِلۡ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَایَةࣰ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق