الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنّا بَيَّنّا أنَّ الغَرَضَ مِن قَوْلِهِ تَعالى لِلرُّسُلِ: ﴿ماذا أُجِبْتُمْ﴾ تَوْبِيخُ مَن تَمَرَّدَ مِن أُمَمِهِمْ، وأشَدُّ الأُمَمِ افْتِقارًا إلى التَّوْبِيخِ والمَلامَةِ النَّصارى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم أتْباعُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّ طَعْنَ سائِرِ الأُمَمِ كانَ مَقْصُورًا عَلى الأنْبِياءِ، وطَعْنَ هَؤُلاءِ المَلاعِينِ تَعَدّى إلى جَلالِ اللَّهِ وكِبْرِيائِهِ، حَيْثُ وصَفُوهُ بِما لا يَلِيقُ بِعاقِلٍ أنْ يَصِفَ الإلَهَ بِهِ، وهو اتِّخاذُ الزَّوْجَةِ والوَلَدِ، فَلا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ يُعَدِّدُ أنْواعَ نِعَمِهِ عَلى عِيسى بِحَضْرَةِ الرُّسُلِ واحِدَةً فَواحِدَةً، والمَقْصُودُ مِنهُ تَوْبِيخُ النَّصارى وتَقْرِيعُهم عَلى سُوءِ مَقالَتِهِمْ، فَإنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ النِّعَمِ المُعَدَّدَةِ عَلى عِيسى تَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَبْدٌ ولَيْسَ بِإلَهٍ. والفائِدَةُ في هَذِهِ الحِكايَةِ تَنْبِيهُ النَّصارى الَّذِينَ كانُوا في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى قُبْحِ مَقالَتِهِمْ ورَكاكَةِ مَذْهَبِهِمْ واعْتِقادِهِمْ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَوْضِعُ (إذْ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ رَفْعًا بِالِابْتِداءِ عَلى مَعْنى: ذاكَ إذْ قالَ اللَّهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: اذْكُرْ إذْ قالَ اللَّهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: خَرَجَ قَوْلُهُ: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ﴾ عَلى لَفْظِ الماضِي دُونَ المُسْتَقْبَلِ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: الدَّلالَةُ عَلى قُرْبِ القِيامَةِ حَتّى كَأنَّها قَدْ قامَتْ ووَقَعَتْ وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، ويُقالُ: الجَيْشُ قَدْ أتى: إذا قَرُبَ إتْيانُهم، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ [النَّحْلِ: ١] الثّانِي: أنَّهُ ورَدَ عَلى حِكايَةِ الحالِ ونَظِيرُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِصاحِبِهِ: كَأنَّكَ بِنا وقَدْ دَخَلْنا بَلْدَةَ كَذا فَصَنَعْنا فِيها كَذا إذْ صاحَ صائِحٌ فَتَرَكْتَنِي وأجَبْتَهُ، ونَظِيرُهُ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ﴾ [سَبَأٍ: ٥١] ﴿ولَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ﴾ [الأنْفالِ: ٥٠] ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [سَبَأٍ: ٣١] والوَجْهُ في كُلِّ هَذِهِ الآياتِ ما ذَكَرْناهُ، مِن أنَّهُ خَرَجَ عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ عَنِ الحالِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ﴿ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (عِيسى) في مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأنَّهُ مُنادى مُفْرَدٌ وُصِفَ بِمُضافٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ لِأنَّهُ في نِيَّةِ الإضافَةِ ثُمَّ جُعِلَ الِابْنُ تَوْكِيدًا، وكُلُّ ما كانَ مِثْلَ هَذا (p-١٠٤)جازَ فِيهِ وجْهانِ، نَحْوَ يا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، ويا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وأنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ:
؎يا حَكَمُ بْنَ المُنْذِرِ بْنِ الجارُودِ
بِرَفْعِ الأوَّلِ ونَصْبِهِ عَلى ما بَيَّنّاهُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ أرادَ الجَمْعَ كَقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ (النَّحْلِ: ١٨) وإنَّما جازَ ذَلِكَ لِأنَّهُ مُضافٌ يَصْلُحُ لِلْجِنْسِ.
واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى فَسَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ، أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: رُوحُ القُدُسِ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، الرُّوحُ جِبْرِيلُ والقُدُسُ هو اللَّهُ تَعالى، كَأنَّهُ أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ.
الثّانِي: أنَّ الأرْواحَ مُخْتَلِفَةٌ بِالماهِيَّةِ، فَمِنها طاهِرَةٌ نُورانِيَّةٌ ومِنها خَبِيثَةٌ ظَلْمانِيَّةٌ، ومِنها مُشْرِقَةٌ، ومِنها كَدِرَةٌ، ومِنها خَيِّرَةٌ، ومِنها نَذْلَةٌ، ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» فاللَّهُ تَعالى خَصَّ عِيسى بِالرُّوحِ الطّاهِرَةِ النُّورانِيَّةِ المُشْرِقَةِ العُلْوِيَّةِ الخَيِّرَةِ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ تَأْيِيدَ عِيسى إنَّما حَصَلَ مِن جِبْرِيلَ أوْ بِسَبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصِّ بِهِ، قَدَحَ هَذا في دَلالَةِ المُعْجِزاتِ عَلى صِدْقِ الرُّسُلِ؛ لِأنّا قَبْلَ العِلْمِ بِعِصْمَةِ جِبْرِيلَ نُجَوِّزُ أنَّهُ أعانَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ذَلِكَ، عَلى سَبِيلِ إغْواءِ الخَلْقِ وإضْلالِهِمْ؛ فَما لَمْ تُعْرَفْ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ لا يَنْدَفِعُ هَذا، وما لَمْ تُعْرَفْ نُبُوَّةُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لا تُعْرَفُ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ. وجَوابُهُ ما ثَبَتَ مِن أصْلِنا أنَّ الخالِقَ لَيْسَ إلّا اللَّهُ، وبِهِ يَنْدَفِعُ هَذا السُّؤالُ.
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا﴾ أمّا كَلامُ عِيسى في المَهْدِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الكِتابَ﴾ [مَرْيَمَ: ٣٠] وقَوْلُهُ: ﴿تُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، والمَعْنى: يُكَلِّمُهم طِفْلًا وكَهْلًا مِن غَيْرِ أنْ يَتَفاوَتَ كَلامُهُ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، وهَذِهِ خاصِّيَّةٌ شَرِيفَةٌ كانَتْ حاصِلَةً لَهُ وما حَصَلَتْ لِأحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ .
وفِي (الكِتابِ) قَوْلانِ، أحَدُهُما: المُرادُ بِهِ الكِتابَةُ وهي الخَطُّ. والثّانِي: المُرادُ مِنهُ جِنْسُ الكُتُبِ. فَإنَّ الإنْسانَ يَتَعَلَّمُ أوَّلًا كُتُبًا سَهْلَةً مُخْتَصَرَةً، ثُمَّ يَتَرَقّى مِنها إلى الكُتُبِ الشَّرِيفَةِ. وأمّا (الحِكْمَةُ) فَهي عِبارَةٌ عَنِ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، والعُلُومِ العَمَلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ (التَّوْراةَ والإنْجِيلَ) وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُما خُصّا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الكُتُبِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣٨] وقَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ [الأحْزابِ: ٧] .
والثّانِي وهو الأقْوى: أنَّ الِاطِّلاعَ عَلى أسْرارِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ لا يَحْصُلُ إلّا لِمَن صارَ بانِيًا في أصْنافِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ الظّاهِرَةِ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْها العُلَماءُ. فَقَوْلُهُ: (التَّوْراةُ والإنْجِيلُ) إشارَةٌ إلى الأسْرارِ الَّتِي لا يَطَّلِعُ عَلَيْها أحَدٌ إلّا أكابِرُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
* *
ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِي﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ (فَتَكُونُ طائِرًا) والباقُونَ (طَيْرًا) بِغَيْرِ ألِفٍ، وطَيْرٌ جَمْعُ طائِرٍ كَضَأْنٍ وضائِنٍ ورَكْبٍ وراكِبٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هاهُنا ﴿فَتَنْفُخُ فِيها﴾ وذَكَرَ في آلِ عِمْرانَ ﴿فَأنْفُخُ فِيهِ﴾ .
والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ أيْ هَيْئَةٌ مِثْلُ هَيْئَةِ الطَّيْرِ فَقَوْلُهُ: ﴿فَتَنْفُخُ فِيها﴾ الضَّمِيرُ لِلْكافِ؛ لِأنَّها صِفَةُ الهَيْئَةِ الَّتِي كانَ يَخْلُقُها عِيسى ويَنْفُخُ فِيها ولا يَرْجِعُ إلى الهَيْئَةِ المُضافِ إلَيْها؛ لِأنَّها لَيْسَتْ مِن خَلْقِهِ ولا نَفْخِهِ في شَيْءٍ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الكافُ تُؤَنَّثُ بِحَسَبَ المَعْنى لِدَلالَتِها عَلى الهَيْئَةِ الَّتِي هي مِثْلُ هَيْئَةِ الطَّيْرِ، وتُذَكَّرُ بِحَسَبِ الظّاهِرِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ جازَ أنْ يَقَعَ الضَّمِيرُ عَنْها تارَةً عَلى وجْهِ التَّذْكِيرِ وأُخْرى عَلى وجْهِ التَّأْنِيثِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى اعْتَبَرَ الإذْنَ في خَلْقِ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وفي صَيْرُورَتِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ طَيْرًا. وإنَّما أعادَ قَوْلَهُ: ﴿بِإذْنِي﴾ تَأْكِيدًا لِكَوْنِ ذَلِكَ واقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وتَخْلِيقِهِ لا بِقُدْرَةِ عِيسى وإيجادِهِ.
وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي﴾ وإبْراءُ الأكْمَهِ والأبْرَصِ مَعْرُوفٌ، وقالَ الخَلِيلِيُّ: الأكْمَهُ مَن وُلِدَ أعْمى، والأعْمى مَن وُلِدَ بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ.
وسادِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي﴾ أيْ وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى مِن قُبُورِهِمْ أحْياءً بِإذْنِي؛ أيْ بِفِعْلِي ذَلِكَ عِنْدَ دُعائِكَ، وعِنْدَ قَوْلِكَ لِلْمَيِّتِ: اخْرُجْ بِإذْنِ اللَّهِ مِن قَبْرِكَ، وذِكْرُ الإذْنِ في هَذِهِ الأفاعِيلِ إنَّما هو عَلى مَعْنى إضافَةِ حَقِيقَةِ الفِعْلِ إلى اللَّهِ تَعالى كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٤٥] أيْ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ المَوْتَ فِيها.
* * وسابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
(p-١٠٦)المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ هَذِهِ البَيِّناتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ جِنْسَ البَيِّناتِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا أظْهَرَ هَذِهِ المُعْجِزاتِ العَجِيبَةَ قَصَدَ اليَهُودُ قَتْلَهُ فَخَلَّصَهُ اللَّهُ تَعالى مِنهم حَيْثُ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (ساحِرٌ) بِالألِفِ وكَذَلِكَ في يُونُسَ وهُودٍ والصَّفِّ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ في يُونُسَ بِالألِفِ فَقَطْ والباقُونَ (سِحْرٌ) فَمَن قَرَأ (ساحِرٌ) أشارَ إلى الرَّجُلِ ومَن قَرَأ (سِحْرٌ) أشارَ بِهِ إلى ما جاءَ بِهِ، وكِلاهُما حَسَنٌ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: والِاخْتِيارُ (سِحْرٌ) لِجَوازِ وُقُوعِهِ عَلى الحَدَثِ والشَّخْصِ، أمّا وُقُوعُهُ عَلى الحَدَثِ فَظاهِرٌ وأمّا وُقُوعُهُ عَلى الشَّخْصِ فَتَقُولُ: هَذا سِحْرٌ، وتُرِيدُ بِهِ: ذُو سِحْرٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٧٧] أيْ ذا البِرِّ، قالَ الشّاعِرُ:
؎فَإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارٌ
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى شَرَعَ هاهُنا في تَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَوْلُ الكُفّارِ في حَقِّهِ: ﴿إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ لَيْسَ مِنَ النِّعَمِ، فَكَيْفَ ذَكَرَهُ هاهُنا ؟
والجَوابُ: أنَّ مِنَ الأمْثالِ المَشْهُورَةِ أنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، وطَعْنُ الكُفّارِ في عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذا الكَلامِ يَدُلُّ عَلى أنَّ نِعَمَ اللَّهِ في حَقِّهِ كانَتْ عَظِيمَةً، فَحَسُنَ ذِكْرُهُ عِنْدَ تَعْدِيدِ النِّعَمِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ.
وثامِنُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الوَحْيِ، فَمَن قالَ: إنَّهم كانُوا أنْبِياءَ، قالَ: ذَلِكَ الوَحْيُ هو الوَحْيُ الَّذِي يُوحى إلى الأنْبِياءِ، ومَن قالَ: إنَّهم ما كانُوا أنْبِياءَ، قالَ: المُرادُ بِذَلِكَ الوَحْيُ والإلْهامُ والإلْقاءُ في القَلْبِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى أنْ أرْضِعِيهِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ [النَّحْلِ: ٦٨] وإنَّما ذَكَرَ هَذا في مَعْرِضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ لِأنَّ صَيْرُورَةَ الإنْسانِ مَقْبُولَ القَوْلِ عِنْدَ النّاسِ مَحْبُوبًا في قُلُوبِهِمْ مِن أعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلى الإنْسانِ، وذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لَمّا ألْقى ذَلِكَ الوَحْيَ في قُلُوبِهِمْ آمَنُوا وأسْلَمُوا، وإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ الإيمانِ عَلى الإسْلامِ لِأنَّ الإيمانَ صِفَةُ القَلْبِ، والإسْلامَ عِبارَةٌ عَنِ الِانْقِيادِ والخُضُوعِ في الظّاهِرِ، يَعْنِي آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وانْقادُوا بِظَواهِرِهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ﴾ ثُمَّ إنَّ جَمِيعَ ما ذَكَرَهُ تَعالى مِنَ النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَيْسَ لِأُمِّهِ بِشَيْءٍ مِنها تَعَلُّقٌ.
قُلْنا: كُلُّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ مِنَ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ والدَّرَجاتِ العالِيَةِ فَهو حاصِلٌ عَلى سَبِيلِ الضِّمْنِ والتَّبَعِ لِلْأُمِّ؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] فَجَعَلَهُما مَعًا آيَةً واحِدَةً لِشِدَّةِ اتِّصالِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِالآخَرِ، ورُوِيَ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ لِعِيسى: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ كانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ ويَأْكُلُ الشَّجَرَ ولا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ ويَقُولُ: مَعَ كُلِّ يَوْمٍ رِزْقُهُ، ومَن لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ فَيَخْرَبُ، ولا ولَدٌ فَيَمُوتُ، أيْنَما أمْسى باتَ.
{"ayahs_start":110,"ayahs":["إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ","وَإِذۡ أَوۡحَیۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِیِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِی وَبِرَسُولِی قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ"],"ayah":"وَإِذۡ أَوۡحَیۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِیِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِی وَبِرَسُولِی قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق