الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ عُثِرَ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا﴾ قالَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُورًا: إذا هَجَمَ عَلى أمْرٍ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُ فُلانًا عَلى أمْرِي؛ أيْ أطْلَعْتُهُ عَلَيْهِ، وعَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عَثْرَةً: إذا وقَعَ عَلى شَيْءٍ، قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: وأصْلُ عَثَرَ بِمَعْنى اطَّلَعَ مِنَ العَثْرَةِ الَّتِي هي الوُقُوعُ، وذَلِكَ لِأنَّ العاثِرَ إنَّما يَعْثُرُ بِشَيْءٍ كانَ لا يَراهُ، فَلَمّا عَثَرَ بِهِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ ونَظَرَ ما هو، فَقِيلَ لِكُلِّ مَنِ اطَّلَعَ عَلى أمْرٍ كانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ: قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ، وأعْثَرَ غَيْرَهُ: إذا أطْلَعَهُ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ﴾ [الكَهْفِ: ٢١] أيْ أطْلَعْنا، ومَعْنى الآيَةِ فَإنْ حَصَلَ العُثُورُ والوُقُوفُ عَلى أنَّهُما أتَيا بِخِيانَةٍ واسْتَحَقّا الإثْمَ بِسَبَبِ اليَمِينِ الكاذِبَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ مَعْنى الآيَةِ: فَإنْ عُثِرَ بَعْدَما حَلَفَ الوَصِيّانِ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا؛ أيْ حَنَثا في اليَمِينِ بِكَذِبٍ في قَوْلٍ أوْ خِيانَةٍ في مالٍ، قامَ في اليَمِينِ مَقامَهُما رَجُلانِ مِن قَرابَةِ المَيِّتِ فَيَحْلِفانِ بِاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرْنا عَلى خِيانَةِ الذِّمِّيَّيْنِ وكَذِبِهِما وتَبْدِيلِهِما وما اعْتَدَيْنا في ذَلِكَ وما كَذَبْنا. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتِ الآيَةُ الأُولى «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ العَصْرَ ودَعا بِتَمِيمٍ وعَدِيٍّ فاسْتَحْلَفَهُما عِنْدَ المِنبَرِ بِاللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنّا خِيانَةٌ في هَذا المالِ، ولَمّا حَلَفا خَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَبِيلَهُما وكَتَما الإناءَ مُدَّةً، ثُمَّ ظَهَرَ، واخْتَلَفُوا فَقِيلَ: وُجِدَ بِمَكَّةَ، وقِيلَ: لَمّا طالَتِ المُدَّةُ أظْهَرا الإناءَ فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي سَهْمٍ فَطالَبُوهُما، فَقالا: كُنّا قَدِ اشْتَرَيْناهُ مِنهُ، فَقالُوا: ألَمْ نَقُلْ لَكم: هَلْ باعَ صاحِبُنا شَيْئًا، فَقُلْتُما لا ؟ فَقالا: لَمْ يَكُنْ عِنْدَنا بَيِّنَةٌ فَكَرِهْنا أنْ نُعْثَرَ فَكَتَمْنا، فَرَفَعُوا القِصَّةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ عُثِرَ﴾ الآيَةَ، فَقامَ عَمْرُو بْنُ العاصِ والمُطَّلِبُ بْنُ أبِي رِفاعَةَ السَّهْمِيّانِ فَحَلَفا بِاللَّهِ بَعْدَ العَصْرِ فَدَفَعَ الرَّسُولُ ﷺ الإناءَ إلَيْهِما وإلى أوْلِياءِ المَيِّتِ. وكانَ تَمِيمٌ الدّارِيُّ يَقُولُ بَعْدَما أسْلَمَ: صَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أنا أخَذْتُ الإناءَ فَأتُوبُ إلى اللَّهِ تَعالى» . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ بَقِيَتْ تِلْكَ الواقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أنْ أسْلَمَ تَمِيمٌ الدّارِيُّ، فَلَمّا أسْلَمَ أخْبَرَ بِذَلِكَ وقالَ: حَلَفْتُ كاذِبًا، وأنا وصاحِبِي بِعْنا الإناءَ بِألْفٍ وقَسَمْنا الثَّمَنَ، ثُمَّ دَفَعَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِن نَفْسِهِ ونَزَعَ مِن صاحِبِهِ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرى ودَفَعَ الألْفَ إلى مَوالِي المَيِّتِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما﴾ أيْ مَقامَ الشّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما مِن غَيْرِ مِلَّتِهِما، وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ﴾ المُرادُ بِهِ مَوالِي المَيِّتِ، وقَدْ أكْثَرَ النّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصَفَ مَوالِيَ المَيِّتِ بِهَذا الوَصْفِ، والأصَحُّ عِنْدِي فِيهِ وجْهٌ واحِدٌ، وهو أنَّهم إنَّما وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا أُخِذَ مالُهم فَقَدِ اسْتَحَقَّ (p-١٠٠)عَلَيْهِمْ مالُهم، فَإنَّ مَن أخَذَ مالَ غَيْرِهِ فَقَدْ حاوَلَ أنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِذَلِكَ المالِ مُسْتَعْلِيًا عَلى تَعَلُّقِ مالِكِهِ بِهِ، فَصَحَّ أنْ يُوصَفَ المالِكُ بِأنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ المالُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أمّا قَوْلُهُ: ﴿الأوْلَيانِ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: هُما الأوْلَيانِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما﴾ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ومَن هُما ؟ فَقِيلَ: الأوْلَيانِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في يَقُومانِ، والتَّقْدِيرُ: فَيَقُومُ الأوْلَيانِ. والثّالِثُ: أجازَ الأخْفَشُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿الأوْلَيانِ﴾ صِفَةً لِقَوْلِهِ: ﴿فَآخَرانِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ النَّكِرَةَ إذا تَقَدَّمَ ذِكْرُها ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْها الذِّكْرُ صارَتْ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾ [النُّورِ: ٣٥] فَمِصْباحٌ نَكِرَةٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿المِصْباحُ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فِي زُجاجَةٍ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿الزُّجاجَةُ﴾، وهَذا مِثْلُ قَوْلِكَ: رَأيْتُ رَجُلًا، ثُمَّ يَقُولُ إنْسانٌ: مَنِ الرَّجُلُ ؟ فَصارَ بِالعَوْدِ إلى ذِكْرِهِ مَعْرِفَةً. الرّابِعُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿الأوْلَيانِ﴾ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿آخَرانِ﴾ وإبْدالُ المَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ كَثِيرٌ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إنَّما وصَفَهُما بِأنَّهُما أوْلَيانِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: مَعْنى الأوْلَيانِ الأقْرَبانِ إلى المَيِّتِ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى الأوْلَيانِ بِاليَمِينِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ الوَصِيَّيْنِ قَدِ ادَّعَيا أنَّ المَيِّتَ باعَ الإناءَ الفِضَّةَ فانْتَقَلَ اليَمِينُ إلى مَوالِي المَيِّتِ؛ لِأنَّ الوَصِيَّيْنِ قَدِ ادَّعَيا أنَّ مُورِثَهُما باعَ الإناءَ وهُما أنْكَرا ذَلِكَ، فَكانَ اليَمِينُ حَقًّا لَهُما، وهَذا كَما لَوْ أنَّ إنْسانًا أقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ ثُمَّ ادَّعى أنَّهُ قَضاهُ، حُكِمَ بِرَدِّ اليَمِينِ إلى الَّذِي ادَّعى الدَّيْنَ أوَّلًا؛ لِأنَّهُ صارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ أنَّهُ قَدِ اسْتَوْفاهُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: القِراءَةُ المَشْهُورَةُ لِلْجُمْهُورِ ﴿اسْتَحَقَّ﴾ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الحاءِ، والأوْلَيانِ تَثْنِيَةُ الأوْلى، وقَدْ ذَكَرْنا وجْهَهُ، وقِراءَةُ حَمْزَةَ وعاصِمٍ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ (الأوَّلِينَ) بِالجَمْعِ، وهو نَعْتٌ لِجَمِيعِ الوَرَثَةِ المَذْكُورِينَ في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ وتَقْدِيرُهُ: مِنَ الأوَّلِينَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مالُهم، وإنَّما قِيلَ لَهُمُ الأوَّلِينَ مِن حَيْثُ كانُوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ، ألا تَرى أنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وكَذَلِكَ ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ﴾ ذِكْرًا في اللَّفْظِ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ وقَرَأ حَفْصٌ وحْدَهُ بِفَتْحِ التّاءِ والحاءِ، ﴿الأوْلَيانِ﴾ عَلى التَّثْنِيَةِ، ووَجْهُهُ أنَّ الوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ظَهَرَتْ خِيانَتُهُما هُما أوْلى مِن غَيْرِهِما بِسَبَبِ أنَّ المَيِّتَ عَيَّنَهُما لِلْوِصايَةِ، ولَمّا خانا في مالِ الوَرَثَةِ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّ الوَرَثَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ، أيْ خانَ في مالِهِمُ الأوْلَيانِ، وقَرَأ الحَسَنُ (الأوَّلانِ) ووَجْهُهُ ظاهِرٌ مِمّا تَقَدَّمَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما وما اعْتَدَيْنا إنّا إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ . والمَعْنى ظاهِرٌ؛ أيْ وما اعْتَدَيْنا في طَلَبِ هَذا المالِ، وفي نِسْبَتِهِمْ إلى الخِيانَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنّا إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ إنّا إذًا حَلَفْنا مُوقِنِينَ بِالكَذِبِ مُعْتَقِدِينَ الزُّورَ والباطِلَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بَعْدَ أيْمانِهِمْ﴾ . والمَعْنى: ذَلِكَ الحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْناهُ والطَّرِيقُ الَّذِي شَرَعْناهُ أقْرَبُ إلى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها، وأنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ لا عَلى وجْهِها، ولَكِنَّهم يَخافُونَ أنْ يَحْلِفُوا عَلى ما ذَكَرُوهُ لِخَوْفِهِمْ مِن أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ عَلى الوَرَثَةِ بَعْدَ أيْمانِهِمْ، فَيَظْهَرُ كَذِبُهم ويَفْتَضِحُونَ فِيما بَيْنَ النّاسِ. * * * (p-١٠١)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ . والمَعْنى: اتَّقُوا اللَّهَ أنْ تَخُونُوا في الأماناتِ واسْمَعُوا مَواعِظَ اللَّهِ؛ أيِ اعْمَلُوا بِها وأطِيعُوا اللَّهَ فِيها ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ وهو تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ لِمَن خالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وأوامِرَهُ، فَهَذا هو القَوْلُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّها في غايَةِ الصُّعُوبَةِ إعْرابًا ونَظْمًا وحُكْمًا، ورَوى الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”البَسِيطِ“ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ أعْضَلُ ما في هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الأحْكامِ. والحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْناهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَنسُوخٌ عِنْدَ أكْثَرِ الفُقَهاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب