الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكُمْ﴾ . المَسْألَةُ الأُولى: في اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿ما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ﴾ صارَ التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ قالَ: ما بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إلَيْكم فَخُذُوهُ وكُونُوا مُنْقادِينَ لَهُ، وما لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إلَيْكم (p-٨٧)فَلا تَسْألُوا عَنْهُ ولا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإنَّكم إنْ خُضْتُمْ فِيما لا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكم فَرُبَّما جاءَكم بِسَبَبِ ذَلِكَ الخَوْضِ الفاسِدِ مِنَ التَّكالِيفِ ما يَثْقُلُ عَلَيْكم ويَشُقُّ عَلَيْكم. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿ما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ﴾ وهَذا ادِّعاءٌ مِنهُ لِلرِّسالَةِ، ثُمَّ إنَّ الكُفّارَ كانُوا يُطالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ، بِمُعْجِزاتٍ أُخَرَ عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، كَما قالَ تَعالى حاكِيًا عَنْهم: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسْراءِ: ٩٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسْراءِ: ٩٣] والمَعْنى أنِّي رَسُولٌ أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسالَةِ والشَّرائِعِ والأحْكامِ إلَيْكم، واللَّهُ تَعالى قَدْ أقامَ الدَّلالَةَ عَلى صِحَّةِ دَعْوايَ في الرِّسالَةِ بِإظْهارِ أنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ المُعْجِزاتِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الزِّيادَةِ مِن بابِ التَّحَكُّمِ وذَلِكَ لَيْسَ في وُسْعِي، ولَعَلَّ إظْهارَها يُوجِبُ ما يَسُوءُكم مِثْلُ أنَّها لَوْ ظَهَرَتْ فَكُلُّ مَن خالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ العِقابَ في الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ لَمّا سَمِعُوا الكُفّارَ يُطالِبُونَ الرَّسُولَ ﷺ بِهَذِهِ المُعْجِزاتِ، وقَعَ في قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ إلى ظُهُورِها فَعَرَفُوا في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهم لا يَنْبَغِي أنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ فَرُبَّما كانَ ظُهُورُها يُوجِبُ ما يَسُوءُهم. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ هَذا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ﴾ فاتْرُكُوا الأُمُورَ عَلى ظَواهِرِها ولا تَسْألُوا عَنْ أحْوالٍ مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (أشْياءَ) جَمْعُ شَيْءٍ، وإنَّها غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ، ولِلنَّحْوِيِّينَ في سَبَبِ امْتِناعِ الصَّرْفِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: قَوْلُنا: شَيْءٌ، جَمْعُهُ في الأصْلِ شَيْآءُ، عَلى وزْنِ فَعْلاءَ، فاسْتَثْقَلُوا اجْتِماعَ الهَمْزَتَيْنِ في آخِرِهِ، فَنَقَلُوا الهَمْزَةَ الأُولى الَّتِي هي لامُ الفِعْلِ إلى أوَّلِ الكَلِمَةِ فَجاءَتْ: لَفْعاءُ، وذَلِكَ يُوجِبُ مَنعَ الصَّرْفِ لِثَلاثَةِ أوْجُهٍ، واحِدٌ مِنها مَذْكُورٌ، واثْنانِ خَطَرا بِبالِي: أمّا الأوَّلُ: وهو المَذْكُورُ؛ فَهو أنَّ الكَلِمَةَ لَمّا كانَتْ في الأصْلِ عَلى وزْنِ فَعَلاءَ، مِثْلُ حَمْراءَ، لا جَرَمَ لَمْ تَنْصَرِفْ حَمْراءُ. ٥٠ والثّانِي: أنَّها لَمّا كانَتْ في الأصْلِ (شَيَآءَ) ثُمَّ جُعِلَتْ (أشْياءَ) كانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالمَعْدُولِ كَما في عامِرٍ وعُمَرَ، وزافِرٍ وزُفَرَ، والعَدْلُ أحَدُ أسْبابِ مَنعِ الصَّرْفِ. الثّالِثُ: وهو أنّا لَمّا قَطَعْنا الحَرْفَ الأخِيرَ مِنهُ وجَعَلْناهُ أوَّلَهُ، والكَلِمَةُ مِن حَيْثُ إنَّها قُطِعَ مِنها الحَرْفُ الأخِيرُ صارَتْ كَنِصْفِ الكَلِمَةِ، ونِصْفُ الكَلِمَةِ لا يَقْبَلُ الإعْرابَ، ومِن حَيْثُ إنَّ ذَلِكَ الحَرْفَ الَّذِي قَطَعْناهُ مِنها ما حَذَفْناهُ بِالكُلِّيَّةِ، بَلْ ألْصَقْناهُ بِأوَّلِها، كانَتِ الكَلِمَةُ كَأنَّها باقِيَةٌ بِتَمامِها، فَلا جَرَمَ مَنَعْناهُ بَعْضَ وُجُوهِ الإعْرابِ دُونَ البَعْضِ، تَنْبِيهًا عَلى هَذِهِ الحالَةِ، فَهَذا ما خَطَرَ بِالبالِ في هَذا المَقامِ. الوَجْهُ الثّانِي في بَيانِ السَّبَبِ في مَنعِ الصَّرْفِ: ما ذَكَرَهُ الأخْفَشُ والفَرّاءُ وهو أنَّ (أشْياءَ) وزْنُهُ أفْعِلاءُ، كَقَوْلِهِ أصْدِقاءُ وأصْفِياءُ، ثُمَّ إنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا اجْتِماعَ الياءِ والهَمْزَتَيْنِ فَقَدَّمُوا الهَمْزَةَ، فَلَمّا كانَ (أشْياءُ) في الأصْلِ (أشْيِياءَ) عَلى وزْنِ أصْدِقاءَ وأفْعِلاءَ، وكانَ ذَلِكَ مِمّا لا يَجْرِي فِيهِ الصَّرْفُ، فَكَذا هاهُنا. الوَجْهُ الثّالِثُ: ما ذَكَرَهُ الكِسائِيُّ وهو أنَّ (أشْياءَ) عَلى وزْنِ أفْعالٍ، إلّا أنَّهم لَمْ يَصْرِفُوهُ لِكَوْنِهِ شَبِيهًا في الظّاهِرِ بِحَمْراءَ وصَفْراءَ، وألْزَمَهُ الزَّجّاجُ أنْ لا يَنْصَرِفَ أسْماءٌ وأبْناءٌ، وعِنْدِي أنَّ سُؤالَ الزَّجّاجِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ لِلْكِسائِيِّ أنْ يَقُولَ: القِياسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ في أبْناءٍ وأسْماءٍ، إلّا أنَّهُ تُرِكَ العَمَلُ بِهِ لِلنَّصِّ؛ لِأنَّ النَّصَّ أقْوى مِنَ القِياسِ، ولَمْ يُوجَدِ النَّصُّ في لَفْظِ أشْياءَ فَوَجَبَ الجَرْيُ فِيهِ عَلى القِياسِ، ولِأنَّ المُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ العِلَلَ النَّحْوِيَّةَ لا تُوجِبُ الِاطِّرادَ، ألا تَرى أنّا إذا قُلْنا: الفاعِلِيَّةُ تُوجِبُ الرَّفْعَ، لَزِمَنا أنْ نَحْكُمَ (p-٨٨)بِحُصُولِ الرَّفْعِ في جَمِيعِ المَواضِعِ، كَقَوْلِنا جاءَنِي هَؤُلاءِ وضَرَبَنِي هَذا؛ بَلْ نَقُولُ: القِياسُ ذَلِكَ، فَيُعْمَلُ بِهِ إلّا إذا عارَضَهُ نَصٌّ، فَكَذا القَوْلُ فِيما أوْرَدَهُ الزَّجّاجُ عَلى الكِسائِيِّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: «رَوى أنَسٌ أنَّهم سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ فَأكْثَرُوا المَسْألَةَ، فَقامَ عَلى المِنبَرِ فَقالَ: سَلُونِي فَواللَّهِ لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ ما دُمْتُ في مَقامِي هَذا إلّا حَدَّثْتُكم بِهِ، فَقامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذافَةَ السَّهْمِيُّ وكانَ يُطْعَنُ في نَسَبِهِ، فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ مَن أبِي ؟ فَقالَ: أبُوكَ حُذافَةُ بْنُ قَيْسٍ، وقالَ سُراقَةُ بْنُ مالِكٍ - ويُرْوى عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ - يا رَسُولَ اللَّهِ، الحَجُّ عَلَيْنا في كُلِّ عامٍ ؟ فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى أعادَ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثَةً، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”ويْحَكَ وما يُؤَمِّنُكَ أنْ أقُولَ نَعَمْ، واللَّهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَوْ وجَبَتْ لَتَرَكْتُمْ، ولَوْ تَرَكْتُمْ لَكَفَرْتُمْ، فاتْرُكُونِي ما تَرَكْتُكم؛ فَإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ، فَإذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فائْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ“ وقامَ آخَرُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيْنَ أبِي ؟ فَقالَ: ”فِي النّارِ“ ولَمّا اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّسُولِ ﷺ قامَ عُمَرُ وقالَ: رَضِينا بِاللَّهِ رَبًّا وبِالإسْلامِ دِينًا وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ» . واعْلَمْ أنَّ السُّؤالَ عَنِ الأشْياءِ رُبَّما يُؤَدِّي إلى ظُهُورِ أحْوالٍ مَكْتُومَةٍ يُكْرَهُ ظُهُورُها ورُبَّما تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ تَكالِيفُ شاقَّةٌ صَعْبَةٌ، فالأوْلى بِالعاقِلِ أنْ يَسْكُتَ عَمّا لا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِيهِ، ألا تَرى أنَّ الَّذِي سَألَ عَنْ أبِيهِ فَإنَّهُ لَمْ يَأْمَن أنْ يُلْحِقَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِغَيْرِ أبِيهِ فَيَفْتَضِحَ، وأمّا السّائِلُ عَنِ الحَجِّ فَقَدْ كادَ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ: ”«إنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِينَ في المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَن كانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ حَلالٍ» “ إذْ لَمْ يُؤْمَن أنْ يَقُولَ في الحَجِّ إيجابٌ في كُلِّ عامٍ. وكانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أحَلَّ وحَرَّمَ، فَما أحَلَّ فاسْتَحِلُّوهُ وما حَرَّمَ فاجْتَنِبُوهُ، وتَرَكَ بَيْنَ ذَلِكَ أشْياءَ لَمْ يُحَلِّلْها ولَمْ يُحَرِّمْها، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ أبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ: إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها، ونَهى عَنْ أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوها، وعَفا عَنْ أشْياءَ مِن غَيْرِ نِسْيانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْها. * * * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تَسْألُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ بَيَّنَ بِالآيَةِ الأُولى أنَّ تِلْكَ الأشْياءَ الَّتِي سَألُوا عَنْها إنْ أُبْدِيَتْ لَهم ساءَتْهم، ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهم إنْ سَألُوا عَنْها أُبْدِيَتْ لَهم، فَكانَ حاصِلُ الكَلامِ أنَّهم إنْ سَألُوا عَنْها أُبْدِيَتْ لَهم، وإنْ أُبْدِيَتْ لَهم ساءَتْهم، فَيَلْزَمُ مِن مَجْمُوعِ المُقَدِّمَتَيْنِ أنَّهم إنْ سَألُوا عَنْها ظَهَرَ لَهم ما يَسُوءُهم ولا يَسُرُّهم. والوَجْهُ الثّانِي في تَأْوِيلِ الآيَةِ: أنَّ السُّؤالَ عَلى قِسْمَيْنِ، أحَدُهُما: السُّؤالُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُهُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهَذا السُّؤالُ مَنهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكُمْ﴾ . والنَّوْعُ الثّانِي مِنَ السُّؤالِ: السُّؤالُ عَنْ شَيْءٍ نَزَلَ بِهِ القُرْآنُ لَكِنَّ السّامِعَ لَمْ يَفْهَمْهُ كَما يَنْبَغِي فَهاهُنا (p-٨٩)السُّؤالُ واجِبٌ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تَسْألُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ والفائِدَةُ في ذِكْرِ هَذا القِسْمِ أنَّهُ لَمّا مَنَعَ في الآيَةِ الأُولى مِنَ السُّؤالِ أوْهَمَ أنَّ جَمِيعَ أنْواعِ السُّؤالِ مَمْنُوعٌ مِنهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ تَمْيِيزًا لِهَذا القِسْمِ عَنْ ذَلِكَ القِسْمِ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تَسْألُوا عَنْها﴾ هَذا الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الأشْياءِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ فَكَيْفَ يُعْقَلُ في (أشْياءَ) بِأعْيانِها أنْ يَكُونَ السُّؤالُ عَنْها مَمْنُوعًا وجائِزًا مَعًا ؟ قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: جائِزٌ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ عَنْها مَمْنُوعًا قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِها ومَأْمُورًا بِهِ بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بِها. والثّانِي: أنَّهُما وإنْ كانا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إلّا أنَّهُما في كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مَسْئُولًا عَنْهُ شَيْءٌ واحِدٌ، فَلِهَذا الوَجْهِ حَسُنَ اتِّحادُ الضَّمِيرِ وإنْ كانا في الحَقِيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الوَجْهُ الثّالِثُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ دَلَّ عَلى سُؤالاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الأشْياءِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ تَسْألُوا عَنْها﴾ أيْ وإنْ تَسْألُوا عَنْ تِلْكَ السُّؤالاتِ حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ يُبَيَّنْ لَكم أنَّ تِلْكَ السُّؤالاتِ هَلْ هي جائِزَةٌ أمْ لا ؟ والحاصِلُ أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ يَجِبُ السُّؤالُ أوَّلًا، وأنَّهُ هَلْ يَجُوزُ السُّؤالُ عَنْ كَذا وكَذا أمْ لا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: عَفا اللَّهُ عَمّا سَلَفَ مِن مَسائِلِكم وإغْضابِكم لِلرَّسُولِ بِسَبَبِها، فَلا تَعُودُوا إلى مِثْلِها. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّ تِلْكَ الأشْياءَ الَّتِي سَألُوا عَنْها إنْ أُبْدِيَتْ لَهم ساءَتْهم، فَقالَ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ يَعْنِي عَمّا ظَهَرَ عِنْدَ تِلْكَ السُّؤالاتِ مِمّا يَسُوءُكم ويَثْقُلُ ويَشُقُّ في التَّكْلِيفِ عَلَيْكم. الثّالِثُ: في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والتَّقْدِيرُ: لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ عَفا اللَّهُ عَنْها في الآيَةِ ﴿إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكُمْ﴾ وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ الكَلامَ إذا اسْتَقامَ مِن غَيْرِ تَغْيِيرِ النَّظْمِ لَمْ يَجُزِ المَصِيرُ إلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فَقَوْلُهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ أيْ أمْسَكَ عَنْها وكَفَّ عَنْ ذِكْرِها ولَمْ يُكَلِّفْ فِيها بِشَيْءٍ، وهَذا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«عَفَوْتُ لَكم عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ» “ أيْ خَفَّفْتُ عَنْكم بِإسْقاطِها. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ ما ذَكَرْناهُ في الوَجْهِ الأوَّلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: يَعْنِي قَوْمَ صالِحٍ سَألُوا النّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوها، وقَوْمُ مُوسى قالُوا: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فَصارَ ذَلِكَ وبالًا عَلَيْهِمْ، وبَنُو إسْرائِيلَ ﴿قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ تَوَلَّوْا إلّا قَلِيلًا مِنهُمْ﴾ و﴿قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٤٧] فَسَألُوها ثُمَّ كَفَرُوا بِها، وقَوْمُ عِيسى سَألُوا المائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِها، فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: أُولَئِكَ سَألُوا فَلَمّا أُعْطُوا سُؤْلَهم ساءَهم ذَلِكَ فَلا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ فَلَعَلَّكم إنْ أُعْطِيتُمْ سُؤْلَكم ساءَكم ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى قالَ أوَّلًا: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ ثُمَّ قالَ هاهُنا: ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وكانَ الأوْلى أنْ يَقُولَ: قَدْ سَألَ عَنْها قَوْمٌ فَما السَّبَبُ في ذَلِكَ ؟ (p-٩٠)قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ السُّؤالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبارَةٌ عَنِ السُّؤالِ عَنْ حالَةٍ مِن أحْوالِهِ وصِفَةٍ مِن صِفاتِهِ، وسُؤالُ الشَّيْءِ عِبارَةٌ عَنْ طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ في نَفْسِهِ، يُقالُ: سَألْتُهُ دِرْهَمًا؛ أيْ طَلَبْتُ مِنهُ الدِّرْهَمَ، ويُقالُ: سَألْتُهُ عَنِ الدِّرْهَمِ؛ أيْ سَألْتُهُ عَنْ صِفَةِ الدِّرْهَمِ وعَنْ نَعْتِهِ، فالمُتَقَدِّمُونَ إنَّما سَألُوا مِنَ اللَّهِ إخْراجَ النّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ، وإنْزالَ المائِدَةِ مِنَ السَّماءِ، فَهم سَألُوا نَفْسَ الشَّيْءِ، وأمّا أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهم ما سَألُوا ذَلِكَ، وإنَّما سَألُوا عَنْ أحْوالِ الأشْياءِ وصِفاتِها، فَلَمّا اخْتَلَفَ السُّؤالانِ في النَّوْعِ اخْتَلَفَتِ العِبارَةُ أيْضًا، إلّا أنَّ كِلا القِسْمَيْنِ يَشْتَرِكانِ في وصْفٍ واحِدٍ، وهو أنَّهُ خَوْضٌ في الفُضُولِ، وشُرُوعٌ فِيما لا حاجَةَ إلَيْهِ، وفِيهِ خَطَرُ المَفْسَدَةِ، والشَّيْءُ الَّذِي لا يُحْتاجُ إلَيْهِ ويَكُونُ فِيهِ خَطَرُ المَفْسَدَةِ يَجِبُ عَلى العاقِلِ الِاحْتِرازُ عَنْهُ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في السُّؤالِ عَنْ أحْوالِ الأشْياءِ مُشابِهُونَ لِأُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ في سُؤالِ تِلْكَ الأشْياءِ في كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فُضُولًا وخَوْضًا فِيما لا فائِدَةَ فِيهِ. والوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ أنَّ الهاءَ في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ سَألَها﴾ غَيْرُ عائِدَةٍ إلى الأشْياءِ الَّتِي سَألُوا عَنْها، بَلْ عائِدَةٌ إلى سُؤالاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الأشْياءِ، والتَّقْدِيرُ: قَدْ سَألَ تِلْكَ السُّؤالاتِ الفاسِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم، فَلَمّا أُجِيبُوا عَنْها أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب