الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّهم صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ إشارَةً إلى حُسْنِ الأدَبِ الَّذِي عَلى خِلافِ ما أتَوْا بِهِ مِن سُوءِ الأدَبِ، فَإنَّهم لَوْ صَبَرُوا لَما احْتاجُوا إلى النِّداءِ، وإذا كُنْتَ تَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَلا يَصِحُّ إتْيانُهم في وقْتِ اخْتِلائِكَ بِنَفْسِكَ أوْ بِأهْلِكَ أوْ بِرَبِّكَ، فَإنَّ لِلنَّفْسِ حَقًّا ولِلْأهْلِ حَقًّا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ ذَلِكَ هو الحَسَنُ والخَيْرُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤]. وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ المُرادُ هو أنَّ بِالنِّداءِ وعَدَمِ الصَّبْرِ يَسْتَفِيدُونَ تَنْجِيزَ الشُّغْلِ ودَفْعَ الحاجَةِ في الحالِ، وهو مَطْلُوبٌ، ولَكِنَّ المُحافَظَةَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وتَعْظِيمَهُ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّها تَدْفَعُ الحاجَةَ الأصْلِيَّةَ الَّتِي في الآخِرَةِ، وحاجاتُ الدُّنْيا فَضْلِيَّةٌ، والمَرْفُوعُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلِمَةُ ”كانَ“ إمّا الصَّبْرُ وتَقْدِيرُهُ: لَوْ أنَّهم صَبَرُوا لَكانَ الصَّبْرُ خَيْرًا، أوِ الخُرُوجُ مِن غَيْرِ نِداءٍ وتَقْدِيرُهُ: لَوْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خُرُوجُكَ مِن غَيْرِ نِداءٍ خَيْرًا لَهم، وذَلِكَ مُناسِبٌ لِلْحِكايَةِ؛ لِأنَّهم طَلَبُوا خُرُوجَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِيَأْخُذُوا ذَرارِيَّهم، فَخَرَجَ وأعْتَقَ نِصْفَهم وأخَذُوا نَصْفَهم، ولَوْ صَبَرُوا لَكانَ يَعْتِقُ كُلُّهم، والأوَّلُ أصَحُّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَحْقِيقًا لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ في التَّعَجُّلِ، فَإنَّ الإنْسانَ إذا أتى بِقَبِيحٍ ولا يُعاقِبُهُ المَلِكُ أوِ السَّيِّدُ يُقالُ: ما أحْلَمَ سَيِّدَهُ لا لِبَيانِ حِلْمِهِ، بَلْ لِبَيانِ عَظِيمِ جِنايَةِ العَبْدِ. وثانِيهِما: لِحُسْنِ الصَّبْرِ يَعْنِي بِسَبَبِ إتْيانِهِمْ بِما هو خَيْرٌ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهم سَيِّئاتِهِمْ ويَجْعَلُ هَذِهِ الحَسَنَةَ كَفّارَةً (p-١٠٢)لِكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّئاتِ، كَما يُقالُ لِلْآبِقِ إذا رَجَعَ إلى بابِ سَيِّدِهِ: أحْسَنْتَ في رُجُوعِكَ وسَيِّدُكَ رَحِيمٌ، أيْ لا يُعاقِبُكَ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ بِسَبَبِ ما أتَيْتَ بِهِ مِنَ الحَسَنَةِ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ بِأنَّ ذَلِكَ حَثٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلى الصَّفْحِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ كالعُذْرِ لَهم، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ في بَعْضِ المَواضِعِ الغُفْرانَ قَبْلَ الرَّحْمَةِ كَما في هَذِهِ السُّورَةِ، وذَكَرَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ المَغْفِرَةِ في سُورَةِ سَبَأٍ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ﴾ [سبأ: ٢] فَحَيْثُ قالَ: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أيْ يَغْفِرُ سَيِّئاتِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَيَراهُ عارِيًا مُحْتاجًا فَيَرْحَمُهُ ويُلْبِسُهُ لِباسَ الكَرامَةِ، وقَدْ يَراهُ مَغْمُورًا في السَّيِّئاتِ فَيَغْفِرُ سَيِّئاتِهِ، ثُمَّ يَرْحَمُهُ بَعْدَ المَغْفِرَةِ، فَتارَةً تَقَعُ الإشارَةُ إلى الرَّحْمَةِ الَّتِي بَعْدَ المَغْفِرَةِ فَيُقَدِّمُ المَغْفِرَةَ، وتارَةً تَقَعُ الرَّحْمَةُ قَبْلَ المَغْفِرَةِ فَيُؤَخِّرُها، ولَمّا كانَتِ الرَّحْمَةُ واسِعَةً تُوجَدُ قَبْلَ المَغْفِرَةِ وبَعْدَها ذَكَرَها قَبْلَها وبَعْدَها. ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ هَذِهِ السُّورَةُ فِيها إرْشادُ المُؤْمِنِينَ إلى مَكارِمِ الأخْلاقِ، وهي إمّا مَعَ اللَّهِ تَعالى أوْ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ أوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِن أبْناءِ الجِنْسِ، وهم عَلى صِنْفَيْنِ؛ لِأنَّهم إمّا أنْ يَكُونُوا عَلى طَرِيقَةِ المُؤْمِنِينَ وداخِلِينَ في رُتْبَةِ الطّاعَةِ، أوْ خارِجًا عَنْها وهو الفاسِقُ، والدّاخِلُ في طائِفَتِهِمُ السّالِكُ لِطَرِيقَتِهِمْ إمّا أنْ يَكُونَ حاضِرًا عِنْدَهم أوْ غائِبًا عَنْهم، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أقْسامٍ: أحَدُها: يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ اللَّهِ. وثانِيها: بِجانِبِ الرَّسُولِ. وثالِثُها: بِجانِبِ الفُسّاقِ. ورابِعُها: بِالمُؤْمِنِ الحاضِرِ. وخامِسُها: بِالمُؤْمِنِ الغائِبِ، فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرّاتٍ (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا) وأرْشَدَهم في كُلِّ مَرَّةٍ إلى مَكْرُمَةٍ مَعَ قِسْمٍ مِنَ الأقْسامِ الخَمْسَةِ، فَقالَ أوَّلًا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ وذِكْرُ الرَّسُولِ كانَ لِبَيانِ طاعَةِ اللَّهِ؛ لِأنَّها لا تُعْلَمُ إلّا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، وقالَ ثانِيًا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ لِبَيانِ وُجُوبِ احْتِرامِ النَّبِيِّ ﷺ وقالَ ثالِثًا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ لِبَيانِ وُجُوبِ الِاحْتِرازِ عَنِ الِاعْتِمادِ عَلى أقْوالِهِمْ، فَإنَّهم يُرِيدُونَ إلْقاءَ الفِتْنَةِ بَيْنَكم وبَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩]، وقالَ رابِعًا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِن قَوْمٍ﴾ [الحجرات: ١١] وقالَ: ﴿ولا تَنابَزُوا﴾ [الحجرات: ١١] لِبَيانِ وُجُوبِ تَرْكِ إيذاءِ المُؤْمِنِينَ في حُضُورِهِمْ والِازْدِراءِ بِحالِهِمْ ومَنصِبِهِمْ، وقالَ خامِسًا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] وقالَ: ﴿ولا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: ١٢] وقالَ: ﴿ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ لِبَيانِ وُجُوبِ الِاحْتِرازِ عَنْ إهانَةِ جانِبِ المُؤْمِنِ حالَ غَيْبَتِهِ، وذِكْرِ ما لَوْ كانَ حاضِرًا لَتَأذّى، وهو في غايَةِ الحُسْنِ مِنَ التَّرْتِيبِ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ المُؤْمِنَ قَبْلَ الفاسِقِ لِتَكُونَ المَراتِبُ مُتَدَرِّجَةَ الِابْتِداءِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، ثُمَّ بِالمُؤْمِنِ الحاضِرِ، ثُمَّ بِالمُؤْمِنِ الغائِبِ، ثُمَّ بِالفاسِقِ ؟ نَقُولُ: قَدَّمَ اللَّهُ ما هو الأهَمُّ عَلى ما دُونَهُ، فَذَكَرَ جانِبَ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ جانِبَ الرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يُفْضِي إلى الِاقْتِتالِ بَيْنَ طَوائِفِ المُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الإصْغاءِ إلى كَلامِ الفاسِقِ والِاعْتِمادِ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يَذْكُرُ كُلَّ ما كانَ أشَدَّ نِفارًا لِلصُّدُورِ، وأمّا المُؤْمِنُ الحاضِرُ أوِ الغائِبُ، فَلا يُؤْذِي المُؤْمِنَ إلى حَدٍّ يُفْضِي إلى القَتْلِ، ألا تَرى أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ عَقِيبَ نَبَأِ الفاسِقِ آيَةَ الِاقْتِتالِ، فَقالَ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ وفي التَّفْسِيرِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، هو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، وهو أخُو عُثْمانَ لِأُمِّهِ (p-١٠٣)إلى بَنِي المُصْطَلِقِ ولِيًّا ومُصَدِّقًا فالتَقَوْهُ، فَظَنَّهم مُقاتِلِينَ، فَرَجَعَ إلى النَّبِيِّ ﷺ وقالَ: إنَّهُمُ امْتَنَعُوا ومَنَعُوا، فَهَمَّ الرَّسُولُ ﷺ بِالإيقاعِ بِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنَّهم لَمْ يَفْعَلُوا مِن ذَلِكَ شَيْئًا، وهَذا جَيِّدٌ إنْ قالُوا بِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وأمّا إنْ قالُوا بِأنَّها نَزَلَتْ لِذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ ومُتَعَدِّيًا إلى غَيْرِهِ فَلا، بَلْ نَقُولُ: هو نَزَلَ عامًّا لِبَيانِ التَّثْبِيتِ، وتَرْكِ الِاعْتِمادِ عَلى قَوْلِ الفاسِقِ، ويَدُلُّ عَلى ضَعْفِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّها نَزَلَتْ لِكَذا، أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَقُلْ: إنِّي أنْزَلْتُها لِكَذا، والنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أنَّهُ بَيَّنَ أنَّ الآيَةَ ورَدَتْ لِبَيانِ ذَلِكَ فَحَسْبُ، غايَةُ ما في البابِ أنَّها نَزَلَتْ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وهو مِثْلُ التّارِيخِ لِنُزُولِ الآيَةِ، ونَحْنُ نُصَدِّقُ ذَلِكَ، ويَتَأكَّدُ ما ذَكَرْنا أنَّ إطْلاقَ لَفْظِ الفاسِقِ عَلى الوَلِيدِ شَيْءٌ بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ تَوَهَّمَ وظَنَّ فَأخْطَأ، والمُخْطِئُ لا يُسَمّى فاسِقًا، وكَيْفَ والفاسِقُ في أكْثَرِ المَواضِعِ المُرادُ بِهِ مَن خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ الإيمانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [المنافقون: ٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّارُ كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها أُعِيدُوا فِيها﴾ [السجدة: ٢٠] إلى غَيْرِ ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ إشارَةٌ إلى لَطِيفَةٍ، وهي أنَّ المُؤْمِنَ كانَ مَوْصُوفًا بِأنَّهُ شَدِيدٌ عَلى الكافِرِ غَلِيظٌ عَلَيْهِ، فَلا يَتَمَكَّنُ الفاسِقُ مِن أنْ يُخْبِرَهُ بِنَبَأٍ، فَإنْ تَمَكَّنَ مِنهُ يَكُونُ نادِرًا، فَقالَ: ﴿إنْ جاءَكُمْ﴾ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي لا يُذْكَرُ إلّا مَعَ التَّوَقُّعِ، إذْ لا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: إنِ احْمَرَّ البُسْرُ، وإنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: النَّكِرَةُ في مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَعُمُّ إذا كانَتْ في جانِبِ الثُّبُوتِ، كَما أنَّها تَعُمُّ في الإخْبارِ إذا كانَتْ في جانِبِ النَّفْيِ، وتَخُصُّ في مَعْرِضِ الشَّرْطِ إذا كانَتْ في جانِبِ النَّفْيِ، كَما تَخُصُّ في الإخْبارِ إذا كانَتْ في جانِبِ الثُّبُوتِ، فَلْنَذْكُرْ بَيانَهُ بِالمِثالِ ودَلِيلَهُ، أمّا بَيانُهُ بِالمِثالِ فَنَقُولُ: إذا قالَ قائِلٌ لِعَبْدِهِ: إنْ كَلَّمْتُ رَجُلًا فَأنْتَ حُرٌّ، فَيَكُونُ كَأنَّهُ قالَ: لا أُكَلِّمُ رَجُلًا حَتّى يعْتِقَ بِتَكَلُّمِ كُلِّ رَجُلٍ، وإذا قالَ: إنْ لَمْ أُكَلِّمِ اليَوْمَ رَجُلًا فَأنْتَ حُرٌّ، يَكُونُ كَأنَّهُ قالَ: لا أُكَلِّمُ اليَوْمَ رَجُلًا حَتّى لا يَعْتِقَ العَبْدُ بِتَرْكِ كَلامِ كُلِّ رَجُلٍ، كَما لا يَظْهَرُ الحَلِفُ في كَلامِهِ بِكَلامِ كُلِّ رَجُلٍ إذا تَرَكَ الكَلامَ مَعَ رَجُلٍ واحِدٍ، وأمّا الدَّلِيلُ فَلِأنَّ النَّظَرَ أوَّلًا إلى جانِبِ الإثْباتِ، ألا تَرى أنَّهُ مِن غَيْرِ حَرْفِ ”لَمّا“ أنَّ الوَضْعَ لِلْإثْباتِ والنَّفْيِ بِحَرْفٍ، فَقَوْلُ القائِلِ: زَيْدٌ قائِمٌ، وُضِعَ أوَّلًا ولَمْ يَحْتَجْ إلى أنْ يُقالَ مَعَ ذَلِكَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ القِيامِ لِزَيْدٍ، وفي جانِبِ النَّفْيِ احْتَجْنا إلى أنْ نَقُولَ: زَيْدٌ لَيْسَ بِقائِمٍ، ولَوْ كانَ الوَضْعُ والتَّرْكِيبُ أوَّلًا لِلنَّفْيِ، لَما احْتَجْنا إلى الحَرْفِ الزّائِدِ اقْتِصارًا أوِ اخْتِصارًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ القائِلِ: رَأيْتُ رَجُلًا، يَكْفِي فِيهِ ما يُصَحِّحُ القَوْلَ وهو رُؤْيَةُ واحِدٍ، فَإذا قُلْتَ: ما رَأيْتُ رَجُلًا، وهو وُضِعَ لِمُقابَلَةِ قَوْلِهِ: رَأيْتُ رَجُلًا، ورُكِّبَ لِتِلْكَ المُقابَلَةِ، والمُتَقابِلانِ يَنْبَغِي أنْ لا يَصْدُقا، فَقَوْلُ القائِلِ: ما رَأيْتُ رَجُلًا، لَوْ كَفى فِيهِ انْتِفاءُ الرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ لَصَحَّ قَوْلُنا: رَأيْتُ رَجُلًا، وما رَأيْتُ رَجُلًا، فَلا يَكُونانِ مُتَقابِلَيْنِ، فَيَلْزَمُنا مِنَ الِاصْطِلاحِ الأوَّلِ الِاصْطِلاحُ الثّانِي، ولَزِمَ مِنهُ العُمُومُ في جانِبِ النَّفْيِ. إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وُضِعَتْ أوَّلًا، ثُمَّ رُكِّبَتْ بَعْدَ الجَزْمِيَّةِ، بِدَلِيلِ زِيادَةِ الحَرْفِ وهو في مُقابَلَةِ الجَزْمِيَّةِ، وكانَ قَوْلُ القائِلِ: إذا لَمْ تَكُنْ أنْتَ حُرًّا ما كَلَّمْتُ رَجُلًا، يَرْجِعُ إلى مَعْنى النَّفْيِ، وكَما عُلِمَ عُمُومُ القَوْلِ في الفاسِقِ عُلِمَ عُمُومُهُ في النَّبَأِ، فَمَعْناهُ: أيُّ فاسِقٍ جاءَكم بِأيِّ نَبَأٍ، فالتَّثَبُّتُ فِيهِ واجِبٌ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مُتَمَسَّكُ أصْحابِنا في أنَّ خَبَرَ الواحِدِ حُجَّةٌ، وشَهادَةَ الفاسِقِ لا تُقْبَلُ، أمّا في المَسْألَةِ (p-١٠٤)الأُولى فَقالُوا: عَلَّلَ الأمْرَ بِالتَّوَقُّفِ بِكَوْنِهِ فاسِقًا، ولَوْ كانَ خَبَرُ الواحِدِ العَدْلِ لا يُقْبَلُ لَما كانَ لِلتَّرْتِيبِ عَلى الفاسِقِ فائِدَةٌ، وهو مِن بابِ التَّمَسُّكِ بِالمَفْهُومِ. وأمّا في الثّانِيَةِ فَلِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَلَوْ قَبِلَ قَوْلَهُ لَما كانَ الحاكِمُ مَأْمُورًا بِالتَّبَيُّنِ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ الفاسِقِ مَقْبُولًا، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِالتَّبَيُّنِ في الخَبَرِ والنَّبَأِ، وبابُ الشَّهادَةِ أضْيَقُ مِن بابِ الخَبَرِ. والثّانِي: هو أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ﴾ والجَهْلُ فَوْقَ الخَطَأِ؛ لِأنَّ المُجْتَهِدَ إذا أخْطَأ لا يُسَمّى جاهِلًا، والَّذِي يَبْنِي الحُكْمَ عَلى قَوْلِ الفاسِقِ إنْ لَمْ يُصِبْ جَهِلَ فَلا يَكُونُ البِناءُ عَلى قَوْلِهِ جائِزًا. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ﴿أنْ تُصِيبُوا﴾ ذَكَرْنا فِيها وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، وهو أنَّ المُرادَ لِئَلّا تُصِيبُوا. وثانِيها: مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، وهو أنَّ المُرادَ: كَراهَةَ أنْ تُصِيبُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: المُرادُ: فَتَبَيَّنُوا واتَّقُوا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا﴾ يُبَيِّنُ ما ذَكَرْنا أنْ يَقُولَ الفاسِقُ: تَظْهَرُ الفِتَنُ بَيْنَ أقْوامٍ، ولا كَذَلِكَ بِالألْفاظِ المُؤْذِيَةِ في الوَجْهِ، والغِيبَةِ الصّادِرَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ يَمْنَعُهُ دِينُهُ مِنَ الإفْحاشِ والمُبالَغَةِ في الإيحاشِ، وقَوْلُهُ: ﴿بِجَهالَةٍ﴾ في تَقْدِيرِ حالٍ، أيْ أنْ تُصِيبُوهم جاهِلِينَ، وفِيهِ لَطِيفَةٌ وهي أنَّ الإصابَةَ تُسْتَعْمَلُ في السَّيِّئَةِ والحَسَنَةِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٩] لَكِنَّ الأكْثَرَ أنَّها تُسْتَعْمَلُ فِيما يَسُوءُ، لَكِنَّ الظَّنَّ السُّوءَ يُذْكَرُ مَعَهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى: ٤٨] ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ بَيانًا لِأنَّ الجاهِلَ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ عَلى فِعْلِهِ نادِمًا، وقَوْلُهُ ﴿فَتُصْبِحُوا﴾ مَعْناهُ تَصِيرُوا، قالَ النُّحاةُ: أصْبَحَ يُسْتَعْمَلُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: بِمَعْنى دُخُولِ الرَّجُلِ في الصَّباحِ، كَما يَقُولُ القائِلُ: أصْبَحْنا نَقْضِي عَلَيْهِ. وثانِيها: بِمَعْنى كانَ الأمْرُ وقْتَ الصَّباحِ كَذا وكَذا، كَما يَقُولُ: أصْبَحَ اليَوْمَ مَرِيضُنا خَيْرًا مِمّا كانَ، غَيْرَ أنَّهُ تَغَيَّرَ ضَحْوَةَ النَّهارِ، ويُرِيدُ كَوْنَهُ في الصُّبْحِ عَلى حالِهِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: كانَ المَرِيضُ وقْتَ الصُّبْحِ خَيْرًا وتَغَيَّرَ ضَحْوَةَ النَّهارِ. وثالِثُها: بِمَعْنى صارَ، يَقُولُ القائِلُ: أصْبَحَ زَيْدٌ غَنِيًّا، ويُرِيدُ بِهِ صارَ مِن غَيْرِ إرادَةِ وقْتٍ دُونَ وقْتٍ، والمُرادُ هَهُنا هو المَعْنى الثّالِثُ وكَذَلِكَ أمْسى وأضْحى، ولَكِنْ لِهَذا تَحْقِيقٌ وهو أنْ نَقُولَ: لا بُدَّ في اخْتِلافِ الألْفاظِ مِنِ اخْتِلافِ المَعانِي واخْتِلافِ الفَوائِدِ، فَنَقُولُ: الصَّيْرُورَةُ قَدْ تَكُونُ مِنِ ابْتِداءِ أمْرٍ وتَدُومُ، وقَدْ تَكُونُ في آخَرَ بِمَعْنى: آلَ الأمْرُ إلَيْهِ، وقَدْ تَكُونُ مُتَوَسِّطَةً. مِثالُ الأوَّلِ: قَوْلُ القائِلِ: صارَ الطِّفْلُ فاهِمًا، أيْ أخَذَ فِيهِ وهو في الزِّيادَةِ. مِثالُ الثّانِي: قَوْلُ القائِلِ: صارَ الحَقُّ بَيِّنًا واجِبًا، أيِ انْتَهى حَدُّهُ وأخَذَ حَقَّهُ. مِثالُ الثّالِثِ: قَوْلُ القائِلِ: صارَ زَيْدٌ عالِمًا وقَوِيًّا إذا لَمْ يُرِدْ أخْذَهُ فِيهِ، ولا بُلُوغَهُ نِهايَتَهُ، بَلْ كَوْنَهُ مُتَلَبِّسًا بِهِ مُتَّصِفًا بِهِ، إذا عَلِمْتَ هَذا فَأصْلُ اسْتِعْمالِ أصْبَحَ فِيما يَصِيرُ الشَّيْءُ آخِذًا في وصْفٍ ومُبْتَدِئًا في أمْرٍ، وأصْلُ أمْسى فِيما يَصِيرُ الشَّيْءُ بالِغًا في الوَصْفِ نِهايَتَهُ، وأصْلُ أضْحى التَّوَسُّطُ، لا يُقالُ: أهْلُ الِاسْتِعْمالِ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأُمُورِ ويَسْتَعْمِلُونَ الألْفاظَ الثَّلاثَةَ بِمَعْنًى واحِدٍ، نَقُولُ: إذا تَقارَبَتِ المَعانِي جازَ الِاسْتِعْمالُ، وجَوازُ الِاسْتِعْمالِ لا يُنافِي الأصْلَ، وكَثِيرٌ مِنَ الألْفاظِ أصْلُهُ مُضِيٌّ واسْتُعْمِلَ اسْتِعْمالًا شائِعًا فِيما لا يُشارِكُهُ، إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتُصْبِحُوا﴾ أيْ فَتَصِيرُوا آخِذِينَ في النَّدَمِ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ ثُمَّ تَسْتَدِيمُونَهُ، وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] أيْ أخَذْتُمْ في الأُخُوَّةِ وأنْتُمْ فِيها زائِدُونَ ومُسْتَمِرُّونَ، وفي الجُمْلَةِ اخْتارَ في القُرْآنِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ؛ لِأنَّ الأمْرَ المَقْرُونَ بِهِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إمّا في الثَّوابِ أوْ في العِقابِ، وكِلاهُما (p-١٠٥)فِي الزِّيادَةِ، ولا نِهايَةَ لِلْأُمُورِ الإلَهِيَّةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نادِمِينَ﴾ النَّدَمُ هَمٌّ دائِمٌ، والنُّونُ والدّالُ والمِيمُ في تَقالِيبِها لا تَنْفَكُّ عَنْ مَعْنى الدَّوامِ، كَما في قَوْلِ القائِلِ: أدْمَنَ في الشُّرْبِ، ومُدْمِنٌ أيْ أقامَ، ومِنهُ المَدِينَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ فِيهِ فائِدَتانِ: إحْداهُما: تَقْرِيرُ التَّحْذِيرِ وتَأْكِيدُهُ، ووَجْهُهُ هو أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ﴾ قالَ بَعْدَهُ: ولَيْسَ ذَلِكَ مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، ولا يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَقُولَ: هَبْ أنِّي أصَبْتُ قَوْمًا فَماذا عَلَيَّ ؟ بَلْ عَلَيْكم مِنهُ الهَمُّ الدّائِمُ والحُزْنُ المُقِيمُ، ومِثْلُ هَذا الشَّيْءِ واجِبُ الِاحْتِرازِ مِنهُ. والثّانِيَةُ: مَدْحُ المُؤْمِنِينَ، أيْ لَسْتُمْ مِمَّنْ إذا فَعَلُوا سَيِّئَةً لا يَلْتَفِتُونَ إلَيْها بَلْ تُصْبِحُونَ نادِمِينَ عَلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب