الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ويُكَفِّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ وكانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ . يَسْتَدْعِي فِعْلًا سابِقًا: ﴿لِيُدْخِلَ﴾ فَإنَّ مَن قالَ ابْتِداءً: لِتُكْرِمَنِي لا يَصِحُّ ما لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ جِئْتُكَ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ، وفي ذَلِكَ الفِعْلِ وُجُوهٌ، وضَبْطُ الأحْوالِ فِيهِ بِأنْ تَقُولَ: ذَلِكَ الفِعْلُ إمّا أنْ يَكُونَ مَذْكُورًا بِصَرِيحِهِ أوْ لا يَكُونَ، وحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَفْهُومًا، فَإمّا أنْ يَكُونَ مَفْهُومًا مَن لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ فُهِمَ بِقَرِينَةٍ حالِيَّةٍ فَإنْ كانَ مَذْكُورًا فَهو يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحُدُها: قَوْلُهُ: ﴿لِيَزْدادُوا إيمانًا﴾ كَأنَّهُ تَعالى أنْزَلَ السَّكِينَةَ لِيَزْدادُوا إيمانًا بِسَبَبِ الإنْزالِ لِيُدْخِلَهم بِسَبَبِ الإيمانِ جَنّاتٍ، فَإنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ: ﴿ويُعَذِّبَ﴾ [الفَتْحِ: ٦] عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لِيُدْخِلَ﴾ وازْدِيادُ إيمانِهِمْ لا يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِمْ، نَقُولُ: بَلى وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ أحَدُهُما: أنَّ التَّعْذِيبَ مَذْكُورٌ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْمُؤْمِنِينَ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: بِسَبَبِ ازْدِيادِكم في الإيمانِ يُدْخِلُكم في الآخِرَةِ جَنّاتٍ ويُعَذِّبُ بِأيْدِيكم في الدُّنْيا الكُفّارَ والمُنافِقِينَ. الثّانِي: تَقْدِيرُهُ ويُعَذِّبُ بِسَبَبِ ما لَكم مِنَ الِازْدِيادِ، يُقالُ: فَعَلْتُهُ لِأُجَرِّبَ بِهِ العَدُوَّ والصَّدِيقَ، أيْ لِأعْرِفَ بِوُجُودِهِ الصَّدِيقَ وبِعَدَمِهِ العَدُوَّ فَكَذَلِكَ لِيَزْدادَ المُؤْمِنُ إيمانًا فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ ويَزْدادَ الكافِرُ كُفْرًا فَيُعَذِّبَهُ بِهِ.: (ووَجْهٌ آخَرُ) ثالِثٌ: وهو أنْ سَبَبَ زِيادَةِ إيمانِ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ وثَباتِهِمْ فَيَعْيى المُنافِقُ والكافِرُ مَعَهُ ويَتَعَذَّبُ وهو قَرِيبٌ مِمّا ذَكَرْنا. الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ويَنْصُرَكَ اللَّهُ﴾ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ويَنْصُرُكَ اللَّهُ بِالمُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ جَنّاتٍ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ﴾ عَلى قَوْلِنا المُرادُ ذَنْبُ المُؤْمِنِ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ ذَنْبَ المُؤْمِنِينَ، لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ جَنّاتٍ، وأمّا إنْ قُلْنا: هو مَفْهُومٌ مِن لَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أيْضًا أحَدُها: قَوْلُهُ ”حَكِيمًا“ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: اللَّهُ حَكِيمٌ، فَعَلَ ما فَعَلَ لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ جَنّاتٍ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَيَسْتَجِيبُ دُعاءَكَ في الدُّنْيا ويَقْبَلُ شَفاعَتَكَ في العُقْبى: ﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ﴾ . ثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ﴾ ووَجْهُهُ هو أنَّهُ «رُوِيَ أنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ هَنِيئًا لَكَ إنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ فَماذا لَنا ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» كَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ، وفَتَحْنا لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَهم جَنّاتٍ، وأمّا إنْ قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِن غَيْرِ مَقالٍ بَلْ مِن قَرِينَةِ الحالِ، فَنَقُولُ: هو الأمْرُ بِالقِتالِ لِأنَّ مِن ذِكْرِ الفَتْحِ والنَّصْرِ عُلِمَ أنَّ الحالَ حالُ القِتالِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِالقِتالِ لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ، أوْ نَقُولُ: عُرِفَ مِن قَرِينَةِ الحالِ أنَّ اللَّهَ اخْتارَ المُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَهم جَنّاتٍ. (p-٧٢)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ هَهُنا وفي بَعْضِ المَواضِعِ: ﴿المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ وفي بَعْضِ المَواضِعِ اكْتَفى بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ ودَخَلَتِ المُؤْمِناتُ فِيهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحْزابِ: ٤٧] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ [المُؤْمِنُونُ: ١] فَما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ نَقُولُ: في المَواضِعِ الَّتِي فِيها ما يُوهِمُ اخْتِصاصَ المُؤْمِنِينَ بِالجَزاءِ المَوْعُودِ بِهِ مَعَ كَوْنِ المُؤْمِناتِ يَشْتَرِكْنَ مَعَهم ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ صَرِيحًا، وفي المَواضِعِ الَّتِي لَيْسَ فِيها ما يُوهِمُ ذَلِكَ اكْتَفى بِدُخُولِهِمْ في المُؤْمِنِينَ فَقَوْلُهُ: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ مَعَ أنَّهُ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾ [سَبَأٍ: ٢٨] العُمُومُ لا يُوهِمُ خُرُوجَ المُؤْمِناتِ عَنِ البِشارَةِ، وأمّا هَهُنا فَلَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ﴾ لِفِعْلٍ سابِقٍ وهو إمّا الأمْرُ بِالقِتالِ أوِ الصَّبْرُ فِيهِ أوِ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ أوِ الفَتْحُ بِأيْدِيهِمْ عَلى ما كانَ يُتَوَهَّمُ؛ لِأنَّ إدْخالَ المُؤْمِنِينَ كانَ لِلْقِتالِ، والمَرْأةُ لا تُقاتِلُ فَلا تَدْخُلُ الجَنَّةَ المَوْعُودَ بِها، صَرَّحَ اللَّهُ بِذِكْرِهِنَّ، وكَذَلِكَ في المُنافِقاتِ والمُشْرِكاتِ، والمُنافِقَةُ والمُشْرِكَةُ لَمْ تُقاتِلْ فَلا تُعَذَّبُ فَصَرَّحَ اللَّهُ تَعالى بِذِكْرِهِنَّ، وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [الأحْزابِ: ٣٥] لِأنَّ المَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرِ النِّساءِ وأحْوالِهِنَّ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَبَرَّجْنَ﴾ [الأحْزابِ: ٣٣]، ﴿وأقِمْنَ﴾ [الأحْزابِ: ٣٣]، ﴿وآتِينَ﴾ [الأحْزابِ: ٣٣]، ﴿وأطِعْنَ﴾ [الأحْزابِ: ٣٣] . وقَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحْزابِ: ٣٤] فَكانَ ذِكْرُهُنَّ هُناكَ أصْلًا، لَكِنَّ الرِّجالَ لَمّا كانَ لَهم ما لِلنِّساءِ مِنَ الأجْرِ العَظِيمِ ذَكَرَهم وذَكَرَهُنَّ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ مِن غَيْرِ تَبَعِيَّةٍ لِما بَيَّنّا أنَّ الأصْلَ ذِكْرُهُنَّ في ذَلِكَ المَوْضِعِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ويُكَفِّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ﴾ بَعْدَ ذِكْرِ الإدْخالِ مَعَ أنَّ تَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ قَبْلَ الإدْخالِ ؟ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ أحَدُهُما: الواوُ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. الثّانِي: تَكْفِيرُ السَّيِّئاتِ والمَغْفِرَةُ وغَيْرُهُما مِن تَوابِعِ كَوْنِ المُكَلَّفِ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَقَدَّمَ الإدْخالَ في الذِّكْرِ بِمَعْنى أنَّهُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ. الثّالِثُ: وهو أنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ بِإلْباسِ خُلَعِ الكَرامَةِ وهي في الجَنَّةِ، وكانَ الإنْسانُ في الجَنَّةِ تُزالُ عَنْهُ قَبائِحُ البَشَرِيَّةِ الجِرْمِيَّةِ كالفَضَلاتِ، والمَعْنَوِيَّةِ كالغَضَبِ والشَّهْوَةِ وهو التَّكْفِيرُ، وتَثْبُتُ فِيهِ الصِّفاتُ المَلَكِيَّةُ وهي أشْرَفُ أنْواعِ الخُلَعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما مَشْهُورٌ: وهو أنَّ الإدْخالَ والتَّكْفِيرَ في اللَّهِ فَوْزٌ عَظِيمٌ، يُقالُ: عِنْدِي هَذا الأمْرُ عَلى هَذا الوَجْهِ، أيْ في اعْتِقادِي. وثانِيهِما: أغْرَبُ مِنهُ وأقْرَبُ مِنهُ عَقْلًا، وهو أنْ يُجْعَلَ عِنْدَ اللَّهِ كالوَصْفِ لِذَلِكَ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، أيْ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى ويُوصَفُ أنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزٌ عَظِيمٌ حَتّى إنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْبٌ مِنَ اللَّهِ بِالعِنْدِيَّةِ لَما كانَ فَوْزًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب